هناء فتحى
100 سنة معارك
الحرية امرأة اسمها «روزاليوسف»
تستطيع أن تعطى طرف الحبل لامرأة وهى ستسحبه بقوة وستصنع منه جدائل طوال لشعرها الناعم ولسوف تلقى بطرفه الآخر بعيدًا بعيدًا حتى آخر (سما) لتصطف وترفرف فوقه الأعلام والريح وغيوم أَبَتْ أن تسقط أمطارها حتى تمتد الضفائر للنجوم، ولسوف ترقص فوقه كل العصافير المحبوسة، التى كانت محبوسة وأطلقتها امرأة صوب جديلتها الجميلة

(لكن لا تأمن فهى تستطيع أن تلفه حول عنقك وتشده كأقصى وأقسى أشكال العبودية، لو كنتَ تستحق).. ماذا فعلت بنا روزاليوسف؟
فعلت كل هذا، سأحكى لك:
«فاطمة محمد محيى الدين يوسف» الجورنالجية والمسرحجية اللبنانية المصرية التركية، صانعة مجلتى روزاليوسف وصباح الخير وصحيفة روزاليوسف، والفنانة الممثلة المسرحية بطلة أوبريت (العشرة الطيبة) مكتشفة أهم وأكبر نجوم الصحافة والأدب ورسامى الكاريكاتير وأم الجورنالجى والروائى والسياسى الأشهر «إحسان عبدالقدوس» والتى تزوجت من الفنان «زكى طليمات» وأنجبا ابنتهما «آمال» وبعد انفصالهما تزوجت من الممثل والمؤلف «محمد عبدالقدوس» وسرعان ما انفصلا وكانت حاملا فى ابنهما «إحسان عبدالقدوس»، ثم اقترنت للمرة الثالثة والأخيرة بالصحفى «قاسم أمين» حفيد محرر المرأة «قاسم أمين»، الوحيد الذى رفض العمل معها كان «عباس محمود العقاد» فقط لأنها امرأة، كيف تكون مرؤوسته امرأة؟! وهو الطاووس المحلق فوق رؤوس الجميع، دون اسم العقاد كان كبار الكتاب والصحفيين والرسامين والفنانين يتبارون لنيل رضاها والعمل فى المؤسسة سواء كانت مجلتى روزا وصباح أو جريدة روزاليوسف أو (الكتاب الذهبى).
صانعة التاريخ والحرية
لم تكن الست فاطمة مناضلة نسوية تدافع عن حقوق المرأة كتلك الأسماء الشهيرة والمُقدّرة بالفعل، بل كانت تدافع عن حقوق النساء والرجال فى البلد، بل كانت تدافع وتناضل من أجل الحرية بشكلها الأشمل والأعم «حرية البلد وخلاصها من المستعمر ومن المصرى (الفاسد) وقادت بقلمها وصحافتها الحرة معاركَ شهيرة وعنيفة ضد حزب الوفد ممثلا فى رئيسه النحاس باشا وضد الملك وشلة المنتفعين الجاثمين على قلب الوطن وضد الاحتلال الإنجليزى واستخدامه لـ(مُلّاك) القصر وامتد صراعها السياسى حتى ما بعد ثورة يوليو، ما تسبب فى تكديرها ومصادرة أعداد من مجلة روزاليوسف كانت بمثابة جبهة حرب علنية وشريفة، لم تكن كل حروبها سوى من أجل الوطن والمواطن، لم يذكر التاريخ أبدا أنها حاربت من أجل مصالح شخصية، كان وطنها هو مصر رغم أصولها اللبنانية فهى المولودة فى بيروت بلبنان عام 1898 وماتت ودُفِنَت فى مصر عام 1958. وعندما كانت السلطات المتعاقبة تعاقبها على جرأتها فى الكتابة والنشر وتصادر أعداد مجلة روزاليوسف وتمنعها من الصدور وتغلقها بالضبة والمفتاح وتهددها بالحبس كانت الست فاطمة تصدر صحافة بديلة فورا، فأنشأت عدة مجلات لم تكن بالطبع فى شهرة وقوة ومكانة مجلة روزاليوسف أو مجلة صباح الخير، أصدرت مجلات لم تستمر طويلًا مثل (الصرخة) و( مصر الحرة) و(الرقيب)و(صدى الحق )، تأمل اسم مجلة (الرقيب) لتخرج بمعانٍ وبإجابات وبدلالات عدة من الاسم المخاتل: (الرقيب) وهى كلها مجلات تحتاج قراءة ورصدا وشرحا لتنفيذ أهميتها ورسالتها والأسباب التى أدت لتوقفها.
أم الرجال
أول أبنائها الرجال هو ولدها الأوحد «إحسان» الروائى والصحفى الكبير والمناضل فى السياسة وفى الحريات، كان نصيرًا للمرأة فى كل سطر من رواياته الشهيرة والتى تحول معظمها إلى سيناريوهات سينما، كان كاتبا سياسيا عتيدا قاد على صفحات وأعداد مجلة روزاليوسف حملة لفضح الأسلحة الفاسدة الشهيرة فى فلسطين أيام حكم الملك فاروق
مرة فى عام 1957، فى الإذاعة المصرية عبر الأثير وقبل أن يعرف المصريون التليفزيون بثلاث سنوات تحدث إحسان عن أمه للمستمعين وقال:

(سيداتى سادتى، أقدم لكم السيدة فاطمة اليوسف التى عرفتموها دائمًا باسم روزاليوسف، أقدمها لكن وقد ملأت أسماعكم على مدى ثلاثين عاما، أقدمها لكم وقد أعجبتك بها كفنانة اعتلت خشبة المسرح وصعدت سلمه فى خطى ثابتة حتى أصبحت كبيرة فنانات الشرق فى العصر الذهبى للمسرح، أقدمها لكم وقد أعجبت بها كصحافية أخرجت للعالم العربى جريدة باسمها كانت نواة النهضة الصحافية العربية وما زالت حتى اليوم، مدرسة يتخرج فيها كل كاتب وصحافى ناجح، وأقدمها لكم كسياسية درست السياسة العربية قاست مع كل وطنى حر يعمل على رفعة شأن بلاده)
وهكذا وصف إحسان أمَهُ الست فاطمة فى عباراتٍ موجزة تشى بتركيبتها الإنسانية والعقلية والثقافية والوطنية الفريدة، وهكذا يصف نفسه أيضًا ويقول دون أن يشرح: (أنا إحسان عبدالقدوس ابن هذه (المرأة)
كلنا أبناؤها.. كل الذين التحقوا بروزا وكتبوا فيها حصلوا على شهادة ميلاد ثانية باسم أم جديدة.
وماذا عن باقى الرجال الذين صعّدَتهم أو ساعدت فى شهرتهم ومنحتهم بريقا ما كانوا سيحصلون عليه لولالها:
تستطيع أن تتعاظم وتتفاخر وتجلس (مجعوصًا) مختالا مفيش حد قدك ولا مثلك، وتقول أنا ابن وابنة هذه المؤسسة العريقة -روزا وصباح- وأنا جلست على المكاتب التى جلس عليها وكتب على دسكها فلان وفلانة، أنا طلعت ونزلت سلالم خطاها ودق عليها بأقدامهم عظماء كتاب مصر والعالم العربى، أنا كتبت فى المطبوعة التى زيّنها كل هؤلاء: عبدالرحمن الشرقاوى وفتحى غانم ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمد حسنين هيكل، (كانت آمال ابنة كل من زكى طليمات وفاطمة اليوسف هى أول زوجات محمد حسنين هيكل)، ومحمد التابعى وزكى طليمات وإحسان عبدالقدوس وعلى أمين ومصطفى أمين وصلاح چاهين وأحمد حمروش وصلاح حافظ وصبرى موسى ومأمون الشناوى ومصطفى محمود ومحمود السعدنى وكامل زهيرى ومنير عامر وعبدالله الطوخى وعادل حمودة (هذه الأسماء ليست على سبيل الحصر بل رُصِدَت من حيث تُسعِف الذاكرة، وأيضًا هذه الأسماء واكبت الست فاطمة أو ابنها «إحسان» من بعدها، ثمة أسماء أخرى لم نستطع حصرها وكتابتها كلها ولها كل الفضل والتقدير، أسماء كتاب وصحفيين ورسامين).
حتى إن السادات كان قد عمل فترة قصيرة محررا بروزاليوسف ثم تركها إلى دار الهلال ثم رئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير
ثمة أسماء كثيرة لصحفيين وكتاب لا يمكن حصرهم فى مساحة هذا المقال
لكن لا يمكن أن نغفل اسما كبيرا وعلما كبيرا فى دنيا الشعر والمسرح كان له فضل عظيم فى منح السيدة فاطمة اليوسف مقرا ليصبح أول دار صحفية أُنشأت فيها مجلة روز اليوسف عام 1925، كان هو أمير الشعراء أحمد شوقى هو منح الست فاطمة شقةً فى عمارته فى شارع جلال بحى المنيرة القريب من 89 أ شارع قصر العينى (المقر الحالى الذى لم تره السيدة فاطمة اليوسف، حيث توفاها الله قبل أن ينتقل إليه إحسان عبدالقدوس ومعه كتيبة الصحفيين والكتاب المبدعين والرسامين وفنانى الكاريكاتير ليظل هو المبنى الذى نحنُ فيه الآن )، ومن داخل حجرات وصالة شقة أمير الشعراء أحمد شوقى بك صدر العدد الأول فى 26 أكتوبر عام 1925 وكان سعر العدد عشرة مليمات (كان المبلغ كبيرا وقتها) فتم تنزيل السعر إلى خمسة مليمات للنسخة.
هذا حصر لبعض أسماء العظماء الذين أنجبتهم -ليس بيوبوچيا بل صحفيا- الست فاطمة، لكنه حصر ظالم لكثيرين لا تتسع المساحة لرصدهم جميعًا، ذاك أولا، أما ثانيا، فهذا يعنى أن روز اليوسف التى أورثتهم روح النضال والكفاح والثورية لم يكونوا كتابا صغارا وبلا هوية أو شخصية معتبرة، بالطبع لا، لقد دخلوا مؤسسة روزاليوسف وهم أسماء على أعلام، أسماء براقة يعرفها ويتابعها القراء، موهوبون عظماء حتى فى حداثة أعمارهم وعملهم، لقد أضافوا للمجلة -مكانًا ومطبوعة- كما أضافت المجلة لهم سواء عملوا فى روزا أو صباح، سيان.
تاريخ الميلاد تاريخ النساء
الست فاطمة المولودة عام 1898، هل يعنى ذلك شيئًا؟
- يعنى الكثير، يعنى أن المرأة التى رأست تحرير أهم مجلة سياسية وفنية فى مصر (روزاليوسف) والتى صدرت فى العام 1925، قد ولدت ونشأت فى عالم يحتفى بالنساء وتحكمه النساء، لو رميت بصرك هنا فى مصر وبعيدا هناك فى كل مكان سترى نساء كثرا قد حكمن وقدن شعوبا وبلادا بالعدل وستجد نساء قد ثَوَرْنَ العقول وتقدمت بهن البلاد، تَذَكّرْ السيدة الرائدة «هدى شعراوى» وهى من نفس جيل وزمن السيدة الرائدة «فاطمة اليوسف»:
«هدى شعراوى» الصعيدية ابنة محافظة ومدينة المنيا بصعيد مصر، رائدة الحركات النسائية وقتها، والمولودة عام 1847 قد شاركت فى ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى، وقامت بتأسيس عددٍ من الجمعيات النسائية ذات الشأن وانضمت لها نساء لم يكن يعرفن غير طاعة الزوج وأهله، خرجن وتعلمن وتثقفن وتثوَرن وشاركن فى مظاهرات ضد المحتل وضد القيد الذكورى والفكر المُقصِى للعقل الأنثوى.

هدى شعراوى فقط؟ لا، وأيضًا السيدة المصرية «صفية زغلول» المولودة فى العام 1878 وسماها المصريون بـ(أم المصريين) وهى زوجة الزعيم «سعد زغلول» وكانت على رأس مظاهرات ثورة 19 وأثناء نفي «سعد» لجزيرة سيشيل حلّت مكانه، وبعد موت زوجها ظلت عشرين عاما على موقفها مما جعل القصر وباشواته يوجهون إليها إنذارات بالعودة إلى المنزل، ولم تعد حتى ماتت على حالها.
هذا فقط؟ لا، كانت هناك المناضلة المصرية «ملك حفنى ناصف» والمولودة عام 1886، والملقبة باسم (باحثة البادية) وأسست عدة جمعيات نسائية أخرجت المرأة من شرنقتها المضروبة بفعل فاعل ذكورى.
هل هذا فقط؟ لا وألف لا وألف امرأة يملأن السمع والبصر والكون واكبت جيل ستنا فاطمة اليوسف، نساء كثر واكبن الثورة العقلية والثقافية والصحافية التى قادتها الست فاطمة اليوسف نساء فى الكون شهيرات ويشبهنها كثيرا - كل فى حِتّته- كالملكة ڤيكتوريا حاكمة بريطانيا العظمى، و«ماريا أنتونيا سانتوس بلاتا» مناضلة وثورية وفلاحة من كولومبيا وقائدة قادت المتمردين الثوار ضد العزو الإسبانى، وأعدمها الاحتلال.
الحقيقة الساطعة تقول إن ولادة ونشأة روزاليوسف -صحفيا وإنسانيا- كانت ولادةً طبيعية وليست قيصرية بمعنى أن المناخ العام فى العالم كله فى ذاك الوقت أنجب (بنات) مثلها، لهن ذات القوة والبأس والتأثير والوهج: بينما كانت مصر والعالم العربى يحتفلون عام 1925 بولادة مجلة روزاليوسف الفنية والسياسية التى أطلقتها ورأست تحريرها «فاطمة اليوسف» كان فى ذات الوقت يبزغ نجم امرأة شبيهة فى أمريكا اسمها «نيللى بيلى» المولودة فى العام 1864 قامت بأصعب وأغرب (خبطة) صحفية فى ذاك الحين حين استطاعت أن تدعى الجنون لتدخل مصحات نفسية وتحقق فى فساد وبؤس وقسوة عيش واقع المرضى فى هذه المستشفيات، وصار اسم «نيللى بيلي» فى عالم الصحافة يسبق حتى الرجال، ومن أمريكا أيضًا كان يضوى نجم امرأة أخرى وفى ذات التوقيت «هيريت بيتشر ستو» صاحبة الرواية التى أنارت دربا طريق الحرب الأهلية هناك، رواية (كوخ العم توم) نتحدث هنا عن امرأة أسست ولو من بعيد ولو بالإشارة ولو برواية لمعركة وحرب تحرير العبيد فى أمريكا سُميت بالحرب الأهلية الأمريكية، وبزغ فى ذات التوقيت نجم «جين أوستن» وشارلوت برونتى» وغيرهن.
كان المناخ العالمى الذى أنشأ تلك المرأة الاستثنائية التى اسمها الست روزا أو «روزاليوسف» مناخًا عالميًا يشبه بعضه ويشجع بعضه ويشد من أزر بعضه، كانت النسوة يستندن إلى قوتهن مجتمعة وكان الرجال لا يرون غضاضة فى بروز النساء وعملهن وشهرتهن، كان الرجال يؤازرون ويفخرون بمثل هكذا نساء قبل أن تنقلب الآية فى القرن الذى تلًا هذا القرن وتصبح المرأة عورة، كل ما فيها عورة. ماذا لو ولدت ونشأت وعملت الست فاطمة اليوسف بعد مائة عام من ولادتها بالتمام والكمال وليس قبل ذلك، وليس فى تاريخ مولدها الواقعى الصحيح؟ فى عهد السلفية والإخوان وطوائف وجماعات أفكار عدة، ودعوات حجاب الشعر والعقل واللسان، والكلام عن الفستان الطويل والفستان الذى يكشف (حتة من الأرجل فوق الكعب)، وصوت المرأة المُستَنكر وخروجها من البيت غير المحبب والمحرم فى أحيانٍ أخرى والمرأة التى ليس مكانها سوى البيت.
لمن كانت ستكتب الست فاطمة
ولمن كانت ستتوجه بمجلتها، هذا إذا صدرت!.











