الخميس 23 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عندما تتحول الجينات إلى فن

بطانية ومجوهرات من الحمض النووى

فى عالم تتداخل فيه التكنولوجيا مع كل مناحى حياتنا لتصبح جزءا منها، يشهد عالم التصميم والموضة ثورة غير مسبوقة؛ حيث تلتقى التكنولوجيا الحيوية مع الإبداع الفنى ليظهر ما يسمى بـ«الفن الجينى» الذى يحول الحمض النووى أو الـDNA إلى مادة للإبداع.



 

هل تخيلت يومًا أن تسترخى تحت بطانية تحمل جزءًا منك، ليس مجازيًا، بل حرفيًا؟ وأن تغطى جسدك بألياف منسوجة وفقًا لشفرتك الوراثية الخاصة؟ هذا تحديدًا ما تعد به شركة ناشئة تحمل اسم (Lifeweave)، مرتبطة بمعهد برود الشهير للبحوث الطبية والجينية فى هارفارد وMIT.. وتتمثل الفكرة فى أن يتحول جينومك الشخصى إلى نسيج منسوج، يترجم عبر خوارزميات خاصة إلى أنماط وألوان هندسية أو زهرية، لتصبح كل قطعة فريدة من نوعها، مثل صاحبها تمامًا.

>من اللعاب إلى اللوحة

الفكرة بسيطة فى ظاهرها، لكنها معقدة فى جوهرها، إذ تبدأ رحلة البطانية من صندوق صغير يصل إلى العميل لجمع عينة من اللعاب، ثم تتم إعادة هذه العينة إلى مختبر «معهد برود» فى ولاية (ماساتشوستس) الأمريكية، حيث يُعزل الحمض النووى ثم يُترجم إلى بيانات رقمية. وهنا تتدخل الخوارزميات، ليتم تحويل كل جزء من الشفرة الوراثية إلى مربع ملون فى النسيج، فى عملية معقدة تشبه التشفير أو تحويل الأكواد. وفى النهاية، تكون النتيجة نسيجا يتكون من شبكة ألوان وزخارف تمثل هوية بيولوجية، لا تشبه أى واحدة منها الأخرى.

لكن، على عكس ما قد يتوقعه البعض، لا يُرى فى هذه الأقمشة حلزونات مزدوجة أو صيغ كيميائية معقدة. بل تظهر أنماط فنية راقية تتمثل فى زهور متفتحة، وأشكال هندسية، وكأنها قطع من متجر فاخر للديكور أكثر منها تجربة علمية. وتعرض الشركة منتجاتها بأسعار باهظة، فتعلق «أليساندرا ترونكوني»، مؤرخة الفن الإيطالية، التى اشترت إحدى هذه الأعمال مقابل 1500 دولار قائلة: «إنها بطانية ملونة وناعمة، تنشر الضوء فى الغرفة. لكنها أكثر من ذلك.. إنها قطعة من نفسى.

>الفن يلتقى العلم

أما صاحب الفكرة الغريبة فهو الفنان الإيطالى «إميليو فافاريلا»، أستاذ دراسات الإعلام والسينما فى كلية «سكيدمور» بـ(نيويورك)، إذ فكر فارفاريلا عام 2019، أثناء دراسته للدكتوراه فى هارفارد، فى كيفية تحويل الحمض النووى إلى نسيج مرئي. وفى عام 2020، وبدعم من وزارة الثقافة الإيطالية، نسج «فافاريلا» جينومه الشخصى فى نسيج ضخم أصبح اليوم جزءًا من مجموعة متحف الفن الحديث فى بولونيا. ومن هنا انطلقت شركة «Lifeweave» لتفتح بابًا جديدًا للفنون وهو الفن الشخصى المبنى على الجينات. 

>هل بياناتك الجينية فى أيدٍ آمنة؟

ولكن السؤال الذى قد يراود أى شخص قبل أن يرسل عيّنة من حمضه النووى للشركة هو: إلى أين ستذهب بياناتي؟ ومن يضمن لى حمايتها؟ فى حالة شركة lifeweave تتم العملية داخل مختبر تابع لمعهد برود فى ولاية ماساتشوستس، وهو نفس المكان الذى أقام فيه «فافاريلا» فى فترة إقامته الفنية بين أبريل 2022 ويناير الماضي. وتؤكد الشركة أن عملية استخراج الحمض النووى تجرى بصورة مجهولة تمامًا، وأن كل البيانات تُشفَّر قبل إرسالها إلى منصة «تيرا.بيو»، المخصصة للأبحاث الطبية الحيوية. وتشدّد على أن: لا بيع للبيانات، لا مشاركة مع أطراف ثالثة، والعميل يملك الحق الكامل فى الحصول على بياناته الخام أو المطالبة بحذفها نهائيًا. 

وتؤكد العميلة الإيطالية «أليساندرا ترونكوني» التى تعرّفت على هذا الفن لأول مرة فى معرض أقامه فافاريلا بروما. أنها لم تتردّد فى طلب نسخة من النسيج بمجرد التعرف عليه ليكون خاصًا بها تستخدمه كبطانية وكقطعة فنية فاخرة. موضحة إعجابها بفكرة امتلاك شيء فريد يمثلها، حتى وإن كان الأمر بطريقة مجردة جدًا من خلال الحمض النووى الذى هو الشيفرة الشخصية لكل شخص، وشددت على أن رؤية ذلك يتحول إلى تصميم هندسى أو زهرى أمر مذهل بحق.

>مجوهرات من الـDNA

لكن هذه ليست المرة الأولى التى يستخدم الحمض النووى للإنسان فى عمل يختلط فيه العلم مع الفن. ففى عام 2021 أطلقت شركة MyDNA  الكندية مجموعة فريدة من المجوهرات المصنوعة من الحمض النووي، حيث يمكن للعميل إرسال عينة من شعره أو لعابه، لتُستخلص منها جزيئات DNA وتُدمج داخل حجر صناعى شفاف يرمز إلى «الخلود الوراثي».

وقد أصبحت هذه القطع هدية رمزية بين الأزواج أو تخليدًا لذكرى شخص راحل، ليمتزج العلم بالعاطفة فى قطعة تلامس الجلد وتحمل جوهر صاحبها.

المشروع حاز شهرة واسعة على وسائل الإعلام عام 2022، واعتُبر امتدادًا لتيار “الفن الحيوي” (BioArt) الذى يسعى إلى دمج الحياة العضوية فى الإبداع البشري. لكنه فى الوقت نفسه، أثار بدوره أسئلة حول تجارية المشاعر وحدود التعامل مع المادة الوراثية بوصفها منتجًا فاخرًا.

ختامًا تفتح مثل هذه المشروعات «نافذة جديدة على علاقتنا بذواتنا: كيف يمكن لرمز الحياة أن يتحول من مجرد بيانات مخزنة فى معمل، إلى قطعة ملموسة تلامس بشرتنا وتزين منازلنا. قد يراها البعض رفاهية مفرطة، وقد يراها آخرون مخاطرة ببياناتهم الأكثر خصوصية، لكن ما لا جدال فيه أن هذه التجربة تضعنا أمام سؤال أبعد من التقنية والفن وهي: هل نحن مستعدون لأن نرى هويتنا الوراثية وقد تحولت إلى عمل فنى يومي، نغطى به أجسادنا ونحكى من خلاله قصتنا؟.