الإثنين 13 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

1.5 مليار غرزة تروى قصص اللاجئات والناجيات والبدويات

مشروع الفستان الأحمر

وسط سيل الأخبار اليومية عن النزوح ومآسى اللاجئين، وفى زمن تتصاعد فيه الانقسامات العرقية والطائفية، جاء مشروع الفستان الأحمر كحدث فنّى استثنائى وُلد من رحم معاناة هؤلاء اللاجئين ليرى النور ويساعد فى إيصل صوتهم إلى العالم.



الفستان بلونه الأحمر بمثابة صرخة ألم جماعية منسوجة بخيوط من الحرير فى ظاهرها، لكنها فى الواقع منسوجة بخيوط الألم والمعاناة والصمود. فالفستان الأحمر المنسوج بمليار ونصف المليار غرزة نجح فى أن يثبت للعالم أن الفن قادر على تجاوز الحواجز؛ بل تجاوز اللغات ليصبح منصة إنسانية عالمية تجتمع فيها اللاجئات والناجيات جنبًا إلى جنب مع الفنانات ليحكين عبر التطريز قصصًا صامتة  لثقافات مختلفة  وأكثر صدقًا من ضجيج السياسة والأخبار.

 بداية الفكرة 

فى عام 2009  قررت الفنانة البريطانية «كريستى ماكلويد»  أن تبحث عن وسيلة فنية تعبر من خلالها عن هوية اللاجئات وتمكينهن وإيصال صوتهن للعالم. فقررت تصميم فستان أحمر مصنوع من «حرير الدوبيون»  ليكون بمثابة  لوحة عالمية متنقلة تجوب العالم وتطرزها نساء من خلفيات مختلفة. 

أرادت «كريستى» أن يكون التطريز وسيلة للتعبير عن الهوية والألم والفخر والنجاة؛ خصوصًا لأولئك الذين لم تُمنح لهم  الفرصة للحديث. استمر العمل على مشروع «الفستان الأحمر» لأكثر من 14 سنة بمشاركة 380 شخصًا من 51 دولة؛ حيث أضافوا ما يقرب من مليار ونصف المليار غرزة.

 ومن المتوقع أن يسجل هذا العمل فى «موسوعة جينيس» عام 2026 كأكبر مشروع تطريز جماعى فى العالم. والفستان مصنوع من 87 قطعة من حرير الدوبيون باللون الأحمر العنّابى، وشارك فى تطريزه 367 امرأة وفتاة و11 رجلاً وفتى واثنان آخران ليصبح لوحة فنية تعبر عن التنوع الإنسانى والتجارب المختلفة حول العالم، وتنقلت قطع الفستان بين الدول ثم عاد الثوب الكامل ليجوب العالم بعد اكتماله.

 دعم المشروع 

 حصلت «كريستى» فى البداية على تمويل من «المجلس الثقافى البريطانى» الذى  أتاح لها البدء بجولات حول العالم. فسافر الفستان إلى أكثر من 28 دولة فى السنوات الأولى من التمويل؛ حيث تم تسليمه يدويًا إلى المشاركين أو أُرسل بالبريد إلى مناطق نائية فى إفريقيا وقارات أخرى. وفى كل محطة من محطاته، كان المشاركون يطرزون شيئًا يعبر عنهم سواء رمز أو كلمة أو مشهد أو حتى جرح.

 وبعد ذلك تم تمويل أجزاء من المشروع عبر ما يُعرف بـ«منصات التمويل الجماعى»، وهى وسيلة لجمع التبرعات لفرد أو منظمة من العائلة والأصدقاء والغرباء والشركات  وغيرهم، وذلك باستخدام وسائل التواصل الاجتماعى؛ حيث ساهم أفراد ومؤسّسات فى دعم تكاليف السفر والإنتاج وتوثيق العمل، بالإضافة إلى أن المشروع  تلقى دعمًا من جهات فنية وثقافية دولية؛ خصوصًا عند عرضه فى معارض ومتاحف فى «لندن وباريس والقاهرة ودبى والمكسيك  وإيطاليا».

وعلى الرغم من أنه لم يتم الإعلان عن رقم دقيق لتكلفة المشروع؛ فإنه بالنظر إلى استغراقه لأكثر من 14 عامًا وعدد الفنانين المشاركين وجولاته حول العالم ، يُقدّر الخبراء التكلفة بنحو مليون جنيه استرلينى أو أكثر.

 مشاركة اللاجئات 

تعتبر مشاركة اللاجئات فى مشروع «الفستان الأحمر» من أكثر عناصر المشروع تأثيرًا وإنسانية؛ إذ حوَّل المشروع فن التطريز إلى وسيلة للتعبير عن الألم والنجاة والهوية فى ظل ظروف قاسية عاشتها هؤلاء النساء.

وجدير بالذكر أن المشروع شاركت فيه لاجئات من «فلسطين وسوريا وأوكرانيا» ممن فقدن أوطانهن بسبب الحروب والنزاعات. 

كما ساهمت طالبات لجوء فى «المملكة المتحدة» من دول مثل «العراق وإيران والصين ونيجيريا وناميبيا» فى المشروع. بعض هؤلاء النساء كن ضحايا للعنف أو الاضطهاد السياسى والدينى. ولم يغفل المشروع الناجيات من الحروب الأهلية فى «كوسوفو ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية» ممن فقدن أسَرهن أو تعرضن لانتهاكات جسيمة.

بعض المشاركات استخدمن زخارف تقليدية من ثقافاتهن الأصلية مثل نقوش التراث الفلسطينى الحاضرة بقوة فى الفستان والتطريزات السورية المشهورة عالميًا.

 نجح المشروع فى تحقيق التمكين الاقتصادى لللاجئات والناجيات؛ حيث حصلن  على أجور مجزية  مقابل عملهن مما ساعد فى تحسين أوضاعهن المعيشية ولو بشكل محدود. وحرص القائمون على المشروع أن تكون المشاركة طوعية ومحترمة للثقافات المختلفة دون فرض أى تصميم أو نقش معين. كما حصلت المشاركات على فرص للظهور فى معارض عالمية.

 نساء سيناء  

فى رحلته حول العالم  لم يغادر الفستان الأحمر القارة الإفريقية دون أن يتوقف فى «مصر» وتحديدًا فى «سيناء»؛ إذ كانت مشاركة نساء سيناء  فى المشروع واحدة من أكثر المحطات تميزًا؛  حيث أضفن إليه لمسة تراثية متفردة تُعَبر عن هوية المكان وروح المرأة البدوية.

 فقد شاركت أكثر من 50 سيدة بدوية من «سانت كاترين» فى التطريز ضمن دعوة وجهتها الفنانة البريطانية بالتعاون مع مؤسّسة فن سيناء التى تديرها  السيدة «سليمة جبالى عواد»، وتم تسليم كل سيدة قطعة من القماش الأحمر لتقوم بتطريزها بحرية كاملة دون فرض أى تصميم مسبق مما سمح لكل مشارِكة بأن تُعَبر عن قصتها الشخصية وثقافتها المحلية.

استخدمت النساء الإبرة والخيط والخرز فى تطريزات مستوحاة من الطبيعة السيناوية مثل الجبال والنباتات والحياة البدوية اليومية وحكايات أرض الفيروز الساحرة مما جعل نقوشهن متفردة لا تشبه أى تطريز آخر فى المشروع. وهو ما عبرت عنه صاحبة المشروع مؤكدة أن الفن السيناوى يحتل مكانة بارزة فى مشروع الفستان الأحمر. وقد أُقيمت احتفالية فى سانت كاترين لتكريم المشاركات عقب انتهاء العمل عام 2015. 

لكن المشروع زار مصر مجددًا عام 2022 ليعرض فى السفارة البريطانية بالقاهرة فى احتفالية خاصة بحضور صاحبة المشروع  كريستى ماكلويد والسفير البريطانى تكريمًا لمساهمة نساء سيناء.

 معارض وجولات  عالمية 

تجدر الإشارة إلى أن المشروع  زار أكثر من 47 دولة، منها «الكونغو وأستراليا وبولندا والهند والمكسيك وكردستان وكوسوفو ورواندا واليابان والسويد وبيرو والمملكة العربية السعودية وكينيا وجنوب إفريقيا وفرنسا والمملكة المتحدة والإمارات ومصر» وغيرها. وفى كل دولة تم تسليم قطع من الفستان إلى فنانين ومطرزين محليين ليضيفوا لمساتهم الخاصة التى تعكس ثقافتهم وقصصهم او معانتهم.

 كما عرض الفستان فى عدد من المتاحف والمَعارض الفنية المرموقة  منها «الأكاديمية الملكية للفنون»  و«متحف الأزياء والنسيج» فى لندن وGalerie Maeght أو «جاليرى ماييت» فى باريس وفى Art Dubai وMuseo De Arte Popular فى مدينة مكسيكو، فضلاً عن عرضه فى المكتبة الوطنية فى كوسوفو ومتحف War Childhood فى سراييفو ومركز Southern Vermont للفنون فى مانشستر وFrick Pittsburgh ومتحف Fuller Craft فى ماساتشوستس. هذا بالإضافة إلى عرضه فى متحف National Waterfront فى ويلز وHampi Art Labs فى الهند.

 ومن ناحية أخرى، فاز الفستان بالجائزة الأولى فى عام 2012  فى مسابقة Premio Valcellina Textiles فى مانياجو بإيطاليا. كما كان الفستان محط أنظار التجمعات السياسية ودعى إلى الدورة الشتوية للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) حول المساواة وعدم التمييز فى ستراسبورج فى يناير 2023؛ حيث ساهمت لاجئتان أوكرانيتان بالتطريز خلال الحدث نيابة عن جميع نساء الجمعية.

 وحسب القائمين على المشروع يجرى الآن العمل على فيلم وثائقى يوثق هذه الرحلة الطويلة ويعرض قصص المشاركين وتجاربهم وتأثير المشروع على حياتهم.

وهكذا تجاوز الفستان الأحمر كونه مجرد قطعة فنية تجوب المتاحف والمعارض العالمية ليصبح سجلاً حيًا يوثق قصص الألم والصمود يحفظ التراث الثقافى للشعوب من خلال تطريزات مستوحاة من ذاكرتهم وهويتهم.