الأحد 16 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

الخبرة العملية أولى وأبقى

المكسب ليس فى كليات القمة النجاح يصنعه الشغف لا الشهادة

«ظننت أن حياتى توقفت بعد إخفاقى فى الالتحاق بكلية الطب.. لكن القمة الحقيقية هى المكان المناسب لاجتهادى وشغفى».



«الخبرة العملية هى من صنعت مسارى المهنى، وليس التحاقى بكلية قمة».

«الأهل هم الأصل فى خدعة كليات القمة.. والنظرة بدأت تتغير تدريجيًا».

«الذكاء الاجتماعى والتعلم المستمر أهم من الشهادة.. وسوق العمل يبحث عن حَلِّ المشكلات».

«ضغط كليات القمة يسبب اضطرابات نفسية وفقدانًا للمعنى الوجودى.. والنجاح الحقيقى هو الرضا عن الذات».  

هذه شهادات حية تكشف الوهم الكبير الذى يعيش فيه معظمنا فى مرحلة الثانوية العامة، والذى يُسمى «كليات القمة». 

وتلك خلاصة تجارب ناجحة لمتخرجين ونصائح لخبراء، تؤكد أن النجاح لا يقتصر على الالتحاق بكليات بعينها.      

   لذا، نبحث فى هذا التحقيق حول تصحيح مفهوم شائع وهو كليات القمة.

المكان المناسب

قالت سلمى سعيد، 25 عامًا: «عندما أخفقت فى الالتحاق بكلية الطب، ظننت أن الحياة توقفت، وأن مستقبلى ضاع، وشعرت أننى حُكِم عليّ بالسجن مدى الحياة، لكننى أدركت لاحقًا أن القمة لم تكن فى «كليات القمة»، ولكن حينما يتم وضعك فى المكان المناسب لكَ». 

لكن الحقيقة أن النجاح الحقيقى لا يشترط الالتحاق بكليات بعينها، بل فى قدرة الشخص على اكتشاف ذاته وتحقيق أهدافه فى المجالات التى تتناسب مع شغفه وقدراته. 

تستطرد سلمى، التى تخرجت فى كلية التجارة شعبة إدارة الأعمال، حديثها عن مشاعر الإحباط التى كانت تسيطر عليها بعد أن فشلت فى الالتحاق بكلية قمة، طالما حلمت بها عائلتها قائلة: «كان المجتمع ينظر لى نظرة استنكار، علاوة على نظرات الخيبة فى عيون والديّ، شعرت بأننى لن أكون شيئًا إذا لم أدخل «كلية قمة». 

أضافت: هذه المشاعر أدت لتدهور حالتى النفسية حتى أصابتنى بالاكتئاب وأقدمت على الانتحار. 

كنت ألجأ للكذب أحيانًا على من حولى عند سؤالى عن المجموع خوفًا من نظرة الشفقة قائلة: «كنت أقول للجميع إننى حصلت على %95 بينما كنت قد حصلت على %83 فقط». 

واستطردت : «قررت أن أحصل على العلاج. وبدأت أتعلم من التجارب التى مررت بها وأركز على دراستى، واكتشاف شغفى.

درست فى مجال إدارة الأعمال، واكتشفت أن النجاح ليس فى الشهادات الجامعية فقط، بل فى الإصرار على التقدم والعمل الجاد. 

قررت أن أواصل طريقى وشاركت فى الأنشطة الطلابية، وفزت فى مسابقات، وعملت على مشاريع صغيرة حتى بدأت شركتى الخاصة».

تؤكد سلمى أن دراستها فى كلية التجارة كانت البداية لتحقيق طموحاتها وتطوير مهاراتها فى الإدارة والمالية قائلة: «دراستى فى كلية التجارة كانت الأساس الذى بنيت عليه نجاحى، وتعلمت كيف أتمكن من إدارة مشروعاتى، وكيف أتميز فى أى مسابقة تتعلق بالإدارة».

قالت سلمى: «الآن، وبعد مرور الوقت، أشعر بالامتنان لعدم دخولى كلية الطب. لأننى كنت سأدخلها لإرضاء أهلى أكثر من تحقيق حلمى الشخصى، فكرة «الدرجة الاجتماعية الأعلى» كانت دافعًا فى البداية، لكننى اكتشفت أن الرضا الحقيقى كان يكمن فى أهداف أخرى».

من الإعلام إلى التسويق الإلكترونى

بينما كان لسلمى حلم فى كلية الطب، كان لمحمد شهيد، البالغ من العمر 26 عامًا، خريج كلية الإعلام جامعة الأزهر، حلم بدأ بالالتحاق بإحدى كليات القمة، حيث رافقه حلم العمل فى الإذاعة، لكن القدر كان له رأى آخر.

«بعد أن تخرجت فى كلية الإعلام، بدأت أبحث عن فرصة للعمل فى مجالى الذى حلمت طوال سنوات دراستى أن أبدع فيه وأحقق ما كنت أطمح إليه. 

لكن الطريق لم يكن كما توقعت، فقد كان العمل به صعبًا، نظرًا لاستغلال أصحاب العمل للمتخرجين وتشغيلهم بدون مقابل فى وقت لا يقبل فيه وضعى الاقتصادى العمل بلا أجر، وهنا، بدأ حلم «كلية القمة» يتبدد تدريجيًا».

قال: «على الرغم من أننى عملت بالتسويق الإلكترونى، إلا أن تعليمى الأكاديمى كان له دور كبير فى تطوير مهاراتى وفهمى لسوق العمل، لكن فى النهاية، كانت الخبرة العملية هى التى حددت مسار حياتى المهنية».

وأضاف: «ما كنت أظنه حلمًا فى الإعلام تحول إلى واقع آخر، واليوم، أرى أن الالتحاق بأى كلية يجب أن يكون من أجل هدف معين، لا يقتصر الأمر على كليات القمة. نحن من نصنع نهاية قصتنا، ولا يجب أن تحدد درجات الثانوية مصيرنا».

خدعة كليات القمة

فى حديثه عن تأثير التعليم الأكاديمى على حياة الطلاب، يرى الدكتور رحاب الدين الهوارى، أستاذ المحتوى الرقمى بكلية الإعلام جامعة الأزهر، أن مفهوم «كليات القمة» لم يعد ذا قيمة كبيرة فى تحديد مسار النجاح، وأن الأهم هو معرفة الشخص لما يريد وكيف يحقق أهدافه. 

يقول الدكتور رحاب: «الأصل فى خدعة كليات القمة هم الأهل، خاصة فى الريف، إذ كان يُنظر إلى كليات القمة على أنها بوابة النجاح».

ويوضح الدكتور رحاب أن هذه النظرة القديمة وغير الواقعية كانت الدافع لإنشاء الجامعات الخاصة، التى نشأت نتيجة ضغط الأهالى على أبنائهم للحصول على شهادات القمة. لكن الواقع الذى نراه فى الجامعات اليوم هو أن العديد من الخريجين من كليات القمة لا يعملون فى مجالاتهم الأكاديمية، بينما نجد آخرين يحققون نجاحات ضخمة فى مجالات مختلفة.

وعلى الرغم من ذلك، يشير الدكتور رحاب إلى أن رؤية الطلاب حول «كليات القمة» بدأت تتغير بشكل تدريجى. 

«اليوم، نجد أن العديد من الطلاب أصبحوا أكثر وعيًا بما يسعون لتحقيقه فى حياتهم المهنية، ويركزون على التخصصات التى تلبى احتياجات السوق، وأبسط مثال على ذلك هو ابنى، الذى قرر الالتحاق بقسم البيزنس بناءً على ما سيتطلبه سوق العمل، بدلًا من أن يتبع تقاليد كليات القمة».

نجاح لا يتوقف 

فى إطار حديثه عن واقع سوق العمل فى مصر، يؤكد المهندس أحمد عبد العزيز، البالغ من العمر 31 عامًا، والذى يعمل فى مجال رقمنة المحال والمصانع، أن التعليم الأكاديمى يُعد جزءًا من معادلة النجاح ولكن ليس كل شىء.

 «التعليم الأكاديمى يزود الفرد بالمعرفة الأساسية التى تساعده فى التفكير والتحليل، لكنه ليس العامل الوحيد الذى يضمن التفوق فى الحياة المهنية. فالعديد من الأشخاص الذين درسوا فى كليات الهندسة أو التجارة نجحوا فى مجالات بعيدة تمامًا عن تخصصاتهم الدراسية. النجاح، فى النهاية، يعود إلى الشخص نفسه، والبيئة الداعمة، وتوافر المقومات اللازمة لتحقيق الهدف».

ويستكمل المهندس أحمد، الذى تخرج من إحدى «كليات القمة» بدوره، حديثه قائلًا: «رغم تخرجى فى كلية الهندسة إلا أن سبب تفوقى فى التجارة هو التحاقى بسوق العمل منذ المرحلة الثانوية، إذ أصبحت على دراية كاملة بأسرار السوق، وتمكنت من الاستفادة من الفرص المختلفة التى ظهرت لى عبر العمل فى عدة جهات وامتلاك شركات خاصة. تعلمت من كل تجربة أن النجاح لا يتحقق بدون سعى وجهد مستمر، سواء من خلال التعليم الأكاديمى أو من خلال العمل الميدانى».

ويشدد المهندس أحمد على أن التعليم الأكاديمى وحده لا يحدد النجاح، قائلًا: «سوق العمل يبحث عن الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على حل المشكلات، لا من يتهربون منها». 

يرفض الخبير فى سوق العمل تصنيف «كليات القمة» قائلًا: «ليس هناك ما يسمى بكليات القمة. فى مصر يلتحق بكلية الحقوق من يحصل على درجات متدنية فى الثانوية، بينما تعتبر تلك الكلية من أرقى الكليات فى أمريكا». 

يختتم المهندس أحمد حديثه بتأكيده على أن الفرص فى سوق العمل لم تعد حكرًا على خريجى «كليات القمة»: «فى الوقت الحالى، أصبح الذكاء الاجتماعى والتعلم المستمر هو العامل الأهم». 

 التأثيرات النفسية 

وفى سياق الحديث عن تأثير «كليات القمة» على الطلاب، يؤكد الدكتور إبراهيم خطاب، إخصائى الصحة النفسية والخبير فى المهارات الحياتية، أن مفهوم «كليات القمة» فى مصر هو شكل من أشكال الدلالة على وجود مكانة اجتماعية أعلى، وأن كل من بلغ تلك المكانة ناجح ومن دون ذلك فاشل، فإما أن تكون فى كلية قمة أو تصبح لا شىء.

وغالبًا يكون الأثر النفسى الناتج عن ثقافة «كليات القمة» هو القلق والتوتر المزمن سواء قبل أو بعد الامتحانات أو مع ظهور النتائج، لأن الطلبة ممن يكون لديهم هدف الالتحاق بإحدى كليات القمة يصابون بشكل من أشكال التوتر والقلق، علاوة على تدنى تقدير الذات والشعور بالدونية إذا لم يدخلوا لواحدة منها، إلى جانب حدوث احتراق دراسى، وهو ينتج عن أن أغلب الطلبة ممن يلتحقون بكليات القمة لا تكون تلك رغبتهم الحقيقية فى الالتحاق، لكن يُبنى ذلك على رغبة أو ضغط من حولهم سواء من الأهل أو المجتمع.

ففى دراسة تم تطبيقها عام 2021 على طلاب جامعة القاهرة وجدوا أن حوالى %64 من طلاب الطب يعانون من الاحتراق النفسى وتزيد النسبة عند الطلاب ممن ليس لديهم دافع ذاتى حقيقى لدخول كلية الطب.

ويوضح الدكتور خطاب أنه نتيجة لهذا النظام تصبح لدينا 3 أشكال رئيسة لهذا الضغط:

المشكلة الأولى هى عدم إكمال الطريق، إذ إن أغلب الطلاب ممن نجحوا فى الالتحاق بكليات القمة لا يكملون الطريق لأنهم يتخيلون أن الدراسة مع دخول الكلية تقل، لكن ما يحدث هو مضاعفة العمل.

المشكلة الثانية تتمثل فى تأجيل الأنشطة والهوايات،حيث يتم تأجيل الأنشطة والهوايات بدعوى الانتهاء من الثانوية العامة، لتمر السنوات ويجد الطالب نفسه لا يملك أى مهارات وتبدأ الثقة فى النفس تتناقص تدريجيًا.

النقطة الثالثة، تتعلق بربط المجموع بالنجاح، فالتركيز على أن المجموع هو مؤشر النجاح الوحيد.

ويؤكد أن النتائج النفسية الناجمة عن هذا الضغط متنوعة، حيث يمكن أن تتسبب فى اضطرابات القلق والاكتئاب، «أثبتت الدراسات أن اضطراب القلق يزداد بشكل كبير بين الطلاب أثناء الامتحانات، كما أن فقدان المعنى فى حياة الطلاب أمر شائع؛ إذ يفعلون كل شىء فقط لإرضاء الآخرين، ما يؤدى إلى ما يسمى بالفراغ الوجودى».

ويضيف الدكتور خطاب، أن من الأعراض النفسية الأخرى التى قد تظهر نتيجة للضغط الاجتماعي: اضطرابات الأكل والنوم، «التوتر الناتج عن هذه الضغوط ينعكس على الجهاز الهضمى والأرق، ويأخذ شكلين: إما الإفراط فى تناول الطعام أو الامتناع عنه تمامًا، بالإضافة إلى مشاكل فى النوم مثل الأرق التام».

أما الأهم من ذلك، فيشير الدكتور خطاب إلى اضطراب الهوية الذى يعانى منه الطلاب الذين يسعون دومًا لإرضاء الآخرين على حساب أنفسهم. «الطلاب الذين يتعرضون لهذا الضغط الاجتماعى يبدأون فى فقدان جزء من شخصيتهم وهويتهم، حيث يصبح هدفهم الوحيد هو القبول الاجتماعى، مما يجعلهم يتنازلون عن أشياء كانوا يحبونها فى سبيل تحقيق رضا الآخرين».

فى النهاية، يحذر الدكتور خطاب من التأثيرات النفسية التى قد تنجم عن الضغط المرتبط بكليات القمة، مؤكدًا أن النجاح لا ينبغى أن يُقاس بالكلية التى يلتحق بها الطالب، بل بما يحققه من نجاحات شخصية ومهنية وعاطفية.