الثلاثاء 17 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصر أولا..  تصريحات صباحية وعكسها مسائية الإهمال الثقافى أخطر من الفساد المالى

مصر أولا.. تصريحات صباحية وعكسها مسائية الإهمال الثقافى أخطر من الفساد المالى

فى الوقت الذى تتسابق فيه دول العالم بشكل عام، والدول الشقيقة المجاورة بوجه خاص على بناء عقول مواطنيها بالاهتمام بالعمل الثقافى.. قررت وزارة الثقافة المصرية أن تتوقف عن هذه المسيرة، وتسير عكس التيار الطبيعى من خلال غلق أبواب الوعى المتمثلة فى بيوت الثقافة ومكتباتها. 



الأزمة الأخيرة على غرار ما سبق، وكتبت كثيرًا.. كانت كاشفة لغياب سياسات ثقافية واضحة للوزارة المعنية وللوزير أحمد هنو، ولم تكن فقط مجرد أزمة إدارية، بل هى تعبير عن غياب تصور ثقافى حقيقى. إن تبرير الإغلاق بسوء أداء العاملين أو قلة عدد الموظفين، هو طرح.. يعكس ضيق أفق خطير فى فهم دور الثقافة ومعناها. والمؤكد أنه لا يوجد وطن ينهض دون ثقافة، ولا أمن قومى.. يحافظ عليه فى غياب الوعى والمعرفة. ما حدث فى قصور الثقافة هو جرس إنذار.. ربما يمثل الفرصة الأخيرة لتصحيح المسار، وليس إغلاقه.

المرج ومنوف وسلس الليان وببا

الأزمة التى ظهرت مع قرار إغلاق أكثر من 123 بيت ثقافة ومكتبة مثلما حدث فى كل من: المرج ومنوف وسرس الليان.. ليست أزمة إدارية، بل هى أزمة تمس بنية العقل الثقافى الوطنى المصرى.

فى منوف، تحول بيت الثقافة إلى مبنى إدارى صامت، بعدما كان يمثل.. ساحة للإبداع والمسرح. وفى سرس الليان.. أغلقت المكتبة الوحيدة بقرار بيروقراطى، وحل الظلام والصمت مكان النور والقراءة. وفى بيت ثقافة المرج.. الذى يمثل المتنفس الوحيد تقريبًا لشباب هذا الحى الشعبى حيث يتم تقديم عروض مسرحية، وندوات، وتقديم كتب مجانية للأطفال... جاء قرار الإغلاق المؤقت، والذى لم يعد مؤقتًا.. تحت لافتة «مغلق للصيانة». 

وبالمناسبة، تم صرف مبلغ 500 ألف جنيه على بيت ثقافة مركز ببا بمحافظة بنى سويف، وهو ضمن قائمة الإغلاق أيضًا. وللعلم، هناك قصر ثقافة بنها الذى تم تجديده سنة 2012، وهو صرح متميز... تم إغلاقه دون مقدمات تحت مسمى التجديد، وترميمه للمرة الثانية، بعد سقوط عدد 4 بلاطات من واجهة القصر.

الحصن الأخير والتطرف..

بيوت الثقافة ومكتباتها فى القرى والمراكز الصغيرة، لا تعتبر فقط مجرد وسيلة معرفية. بل تقوم بدور ثقافى واجتماعى وإبداعى.. بالغ الأهمية. إنها ببساطة البديل الموضوعى للفكر والخطاب الدينى المتشدد والمتطرف، والبديل عن العزلة الرقمية التى سيطرت على الأجيال الجديدة.. دون استثناء. بيت الثقافة والمكتبة هما المكان الذى تعلم فيه ملايين الأطفال.. الرسم والتمثيل والشعر والغناء.. حيث مثل لهم جميعًا فرصة لاكتساب مهارات وإبداعات جديدة.

وحين تغلق هذه البيوت والمكتبات بقرارات إدارية ساذجة.. لا يتم فتح وسيلة بديلة، بل يترك المجتمع لفراغ أسود قاتل.. يحتله الجهل والتعصب والفرز الطائفى.

وزارة الثقافة.. خدمية أم استثمارية؟!

يبقى السؤال الأساسى الذى طرحته كثيرًا قبل ذلك: هل وزارة الثقافة.. جهة خدمية أم جهة استثمارية؟ والواقع أنه سؤال مُركّب ومُعقّد. لأن وزارة الثقافة لا تعمل بمنطق اقتصاد السوق.. فهى ليست شركة، بل المفترض أنها مؤسسة ثقافية تنويرية وظيفتها بناء المواطن المصرى.

أقول المفترض.. لأن ما يحدث اليوم هو على النقيض تمامًا: يتم اتخاذ قرار الغلق بناء على احتساب عدد الزوار لبيوت الثقافة ومكتباتها، وكلما قل العدد، يتيسر اتخاذ قرار الإغلاق، وهو منطق فاسد وكارثى فى كل الأحوال.. لأنه يفترض أن القراءة والشعر والمسرح والفن والغناء.. يجب أن يحققوا أرباحًا. وهو ما لم يحدث.. فملفات الصحة والتعليم والثقافة.. هى ملفات أمن قومى بالدرجة الأولى.. فلا يمنع وجود مستشفيات ومدارس خاصة.. أن تكون هناك مستشفيات ومدارس حكومية.. ولكل منهما مرضى وتلاميذ مستهدفون. وهو ما يعنى أن الثقافة.. يمكن أن تحقق أرباحًا استثمارية من خلال نماذج عديدة ذكرتها فى الدراسة التى نشرتها على صفحات مجلة «روزاليوسف» بعنوان «مصر أولًا.. المربع صفر: تقدير موقف ملف أمن قومى.. استثمار الثقافة المصرية.. حتمية التغيير وأمنياته!» فى 30 ديسمبر 2023. الثقافة أمن قومى..

أطرح السؤال المكرر: هل الثقافة أمن قومى مصرى؟!

نعم.. بكل قوة ووضوح وصراحة. والدليل البسيط على ذلك.. أن أكثر ما تستهدفه الجماعات المتطرفة فى المناطق المهمشة هو الهجوم والتشكيك فى الغناء والمسرح والموسيقى والكتب.. لإدراكها خطورة الوعى بتهديد خطابها المتشدد والمتعصب.

النتيجة للقرارات التى صدرت ولتصريحات د. أحمد هنو «وزير الثقافة» المتعددة.. أنه تم فعليًا.. تقليص أدوات الوزارة بأنشطتها الثقافية، وهو ما يعنى بشكل غير مباشر.. إضعاف خط الدفاع الأساسى ضد التعصب والكراهية. 

إن بيت الثقافة والمكتبة فى أصغر قرية مصرية هو أهم وقاية استباقية من الجهل والتطرف.

تصريحات.. وعكسها..

المتتبع لتصريحات وزير الثقافة خلال الفترة الأخيرة، يستطيع أن يرصد العديد من التناقضات الملفتة للنظر. صرح فى لقاء تليفزيونى: (أن غلق بعض بيوت الثقافة يعود لانخفاض نسب الإقبال). ثم قال فى بيان لاحق: (نغلق بعض المراكز مؤقتًا من أجل التطوير». ثم عاد وقال: (نفتتح مركزًا ثقافيًا جديدًا كل شهر). ومع ملاحظة الخلط فى التصريحات بين كل من: قصور الثقافة وبيوت الثقافة والمكتبات.

والطريف، أنه إذا كان هناك افتتاحات جديدة كل شهر بالفعل.. فلماذا لا يتم إعلان قائمة واضحة بتلك الافتتاحات؟ ولماذا لا يتم نشر جدول زمنى دقيق لإعادة تشغيل المراكز المغلقة تحت لافتة الصيانة وغيرها؟ ولماذا نشعر أننا أمام تصريحات للدعاية والتسويق، وليست تخص شأنًا ثقافيًا متخصصًا؟ كل هذه التناقضات.. تثير اللغط والشكوك فى حقيقة توجهات الوزارة، وتؤكد أن هناك خللًا فى سياساتها الثقافية -إن وجدت- وطريقة صناعة القرار الثقافى واتخاذه.

الفساد الثقافى أخطر من المالى..

كتبنا كثيرًا على صفحات مجلة «روزاليوسف»، وآخرها العدد السابق.. بهدف الانتباه لخطر الانهيار الثقافى.. فالكتابة عن أزمة الثقافة ليست ترفيهًا، بل هى واجب وطنى بالدرجة الأولى. والصمت على ما يحدث هو خيانة للإبداع والتنوير وتاريخ الثقافة المصرية. والنقد هنا هو محاولة لوقف النزيف قبل ضياع هذا الملف المهم للدولة المدنية المصرية. ومع التأكيد على أن غالبية من يكتب منتقدًا وزارة الثقافة.. هو فى الحقيقة يحرص على حماية صورتها والحفاظ على الهوية المصرية الأصيلة.

حين أكتب عن الإهمال والفساد الثقافى، لا أقصد بالضرورة الفساد المالى. لأن الأخطر هو فساد ترتيب الأولويات فى ظل غياب رؤية واضحة، وشيوع نوع من الإهمال الممنهج للوعى.

هذا النوع من الفساد لا ترصده تقارير الجهات الرقابية، بل يظهر فى نشأة أجيال من الشباب.. لم يعرفوا فى طفولتهم المسرح والغناء والشعر والتمثيل.

الفساد المالى هو الأقل ضرارًا.. لأن رصده وتجريمه سهل، أما الإهمال الثقافى فهو الأخطر لأنه يمثل تشكيل عقل المواطن فى المستقبل.

تجهيل المواطن.. مقصود!

ما سبق.. هو طرح خطير ومثير جدًا، ولكنه ضرورى. ما يقوم به د. أحمد هنو «وزير الثقافة» هو انسحاب ناعم للدولة من ملف الثقافة، ولا أعتقد بعد كل ما سبق.. أن تلك التصريحات والقرارات هى صدفة.. فى ظل وجود حفلات ترفيهية بميزانيات ضخمة، والمقابل، غلق بيوت الثقافة ومكتباتها بحجة قلة العائد أو بمعنى أدق الربح المادى.

إن تجهيل المواطن المصرى.. فكرة لا يتم التصريح بها قطعًا، ولكنها تتحقق على أرض الواقع من خلال القرارات اليومية التى تهمل الفكر الثقافى لصالح العشوائية والغوغائية والفوضوية التى استهدفت منظومة الثقافة المصرية. وكأن تجهيل المواطن المصرى أصبح هو المستهدف.

نقطة ومن أول السطر..

إغلاق بيوت الثقافة ومكتباتها.. هو إغلاق لعقول المواطنين، وحرمانهم من الحلم والإبداع. وكل مواطن.. يتم حرمانه من الثقافة، هو تجهيز لمشروع مستقبلى متطرف ومتعصب.. قابل للتوظيف والاستخدام لصالح أى خطاب متطرف.

لا نحتاج الآن لبيان جديد من الوزارة أو الوزير أو وكلائهم.. بل نحتاج لإعلان واضح لدور وزارة الثقافة وسياساتها القادمة لاستدعاء وإحياء دورها الوطنى.

الثقافة ليست بندًا فى موازنة أو ميزانية… بل هى ركيزة أساسية فى بناء وطن مستقر متماسك ومستنير وعقلانى.

الثقافة.. ليست رفاهية.

الثقافة.. أمن قومى مصرى. 

الثقافة.. هى السبيل لتحقيق الدولة المدنية المصرية.

الثقافة.. هى الحل. والحل فى الاستثمار الثقافى.