الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الوساطة العُمانية هل تنجح فى نزع فتيل الحرب الإقليمية؟ مفاوضات «الأمل الأخير»!

تحافظ العاصمة العُمانية، مسقط، على موقعها المتفرّد فى خارطة الجغرافيا السياسية بمنطقة الخليج العربى، لا سيما أنها الجسر التفاوضى بين أعداء لا يلتقون إلا عند الضرورة القصوى، والوسيط المأمون لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، خلال المفاوضات غير المباشرة، التى تنعقد جولتها الثالثة «اليوم السبت» السادس والعشرين من أبريل الجارى، تتمسك خلالها طهران ببرنامجها النووى «السلمى» ورفع الحظر الاقتصادى، حتى تمارس أنشطتها بـ«شكل طبيعى».



واستباقًا للجولة الثالثة وصف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المحادثات بـ«الجيدة للغاية»، وسط تحذيرات إيرانية من «محاولات إسرائيلية للتأثير سلبًا على المفاوضات»، على خلفية تحريض حكومة بنيامين نتنياهو على ضرورة الاستهداف العسكرى لإيران، وإن كان هذا الخيار ليس محل اتفاق فى تل أبيب، كما أن «الإقدام عليه دون موافقة أمريكية، لن يكون مأمون العواقب» بحسب النقاش الدائر، حاليًا، فى إسرائيل!

الاجتماع المنتظر، السبت، يخصص للنظر فى محصلة عمل الخبراء الأمريكيين-الإيرانيين، استكمالًا للاجتماع الفنى بين الخبراء الفنيين من البلدين، بين الجولتين الثانية والثالثة، تمهيدًا للدخول فى التفاصيل ووضع إطار للاتفاق، بعدما استغرقت ثانى جولات التفاوض فى العاصمة الإيطالية، روما، حوالى 4 ساعات؛ للبحث عن قواسم مشتركة تقرب وجهات النظر بين وفدى البلدين.. وإجراء محادثات فنية (تشارك فيها، غالبًا، أعلى المستويات فى مجال الطاقة فى البلدين، وخبراء فى الملفات ذات العلاقة) يعنى وجود أجندة حقيقية ورغبة عملية لطرفى التفاوض، تستهدف التغلب، أولًا، على الإشكاليات الدقيقة، ومستقبل عملية تخصيب اليورانيوم، ونسبته، وثانيًا، بحث مصير العقوبات الاقتصادية، وكيف سيتم التعامل معها، وثالثًا، تعكس المحادثات الفنية أيضًا أن الجانب الأمريكى لم يضغط حتى الآن على نظيره الإيرانى فى ملف شائك كتجميد البرنامج النووى.

 «غير مباشرة»

وعن إمكانية انعقاد «مفاوضات مباشرة» لم يحسم وزير الخارجية الإيرانى، عباس عراقجى، الملف، لكنه ترك الباب مواربًا، لكنه تمسك خلال هذه الفترة بأن «إيران لا تنوى التفاوض علنًا»، وفى الوقت نفسه حاول الموازنة بين مصالح إيران والمطالب الأمريكية «أى اتفاق قد يتم التوصل إليه يجب أن يرتكز على حماية اقتصادنا، إلى جانب التحقق الذى يضمن الطبيعة السلمية لبرنامجنا النووى».

وتتشدّد إيران فى الشكل «غير المباشر» للمفاوضات، بما يحفظ لها الحد الأدنى من الاعتبارات السيادية، وسط تأكيدات من عراقجى بأن المباحثات لن تكون «مفاوضات مرهقة ولا حوارًا للعرض الإعلامى»، وهو تصريح يحمل فى طياته استبطانًا لرسائل داخلية موجّهة للرأى العام الإيرانى فى المقام الأول، حيث تشهد البلاد نقاشات حادّة حول جدوى التفاوض فى ظل تهديدات الحرب المتصاعدة. الخطاب الإيرانى الداخلى يبدو مرتبكًا وموزّعًا بين التصعيد والتطمين.

يرجع هذا لكون «مفاوضات مسقط»، لا تدور فقط حول البرنامج النووى، كما يردد الإعلام الرسمى الإيرانى، بل تتشعّب لتطال الأذرع الإيرانية فى المنطقة، وتورّط طهران فى تسليح الجماعات الحليفة، وعلى رأسها ما يسمى بـ«محور المقاومة»، فيما يعتبر الأمريكيون هذه الأذرع تهديدًا مباشرًا لحلفائهم فى الشرق الأوسط، بينما ترى طهران أنها أدوات توازن إقليمى تكفل لها الردع الاستراتيجى فى مواجهة أى عدوان محتمل!!

مساعد وزير الخارجية، تخت روانجى، ذكر أن المفاوضات تركّز على البرنامج النووى، فيما صرّح المتحدث باسم الخارجية إسماعيل بقائى بأن «كافة القضايا قيد التفاوض»، وهذا التناقض يعكس حالة من التردد، وربما اختبار داخلى لمدى جدوى الانخراط فى المسار التفاوضى دون المساس بـ«الكرامة الوطنية»، وهى العبارة المفتاحية التى يلوّح بها مستشار الوزير، محمد حسين رنجبران، عندما قال «سواء فشلت المفاوضات أو نجحت، فإن المنتصر هو الشعب والنظام».

 ثلاث جبهات 

يدخل النظام الإيرانى الجولة الثالثة وهو فى موقف دفاعى حرج، يسعى من خلال المباحثات إلى امتصاص صدمة استراتيجية محتملة، تتحدث التسريبات عن أنها قيد النقاش فى إسرائيل، التى تستهدف ضرب منشآت  نووية حساسة كـ«نطنز» و«فوردو»، كما تواجه إيران أزمة اقتصادية حادّة أثّرت على الشعب والنظام على حد سواء، مما يضع النظام تحت ضغوط داخلية كبيرة، علمًا بأن استمرار العقوبات الاقتصادية عاملٌ رئيسيّ فى تعميق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما يضطر القيادة إلى البحث عن حلول تسهم فى تخفيف هذه الضغوط وإظهار قدرتها على تحقيق مكاسب ملموسة للشعب.

ورغم هذه التحديات، تواصل الولايات المتحدة استخدام ملف إيران النووى كأداة رئيسية لضمان حماية مصالحها الاستراتيجية، خاصة فى ظل التحالف الأمريكي-الإسرائيلى. وهذا الواقع يعكس التوتر المتزايد بين الاحتياجات الداخلية الإيرانية وضغوط القوى الخارجية. وبالتالى، تصبح المفاوضات فى هذا السياق عملية محفوفة بالمخاطر، حيث إن أى خطوة غير محسوبة قد تؤدى إلى تفجير أزمة إقليمية ذات تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار فى المنطقة.. يبدو أن الجانب الأمريكى ينظر إلى هذه الجولات غير المباشرة كفرصة لاستشراف حدود التنازلات المحتملة من الجانب الإيرانى، واستغلال اللقاءات لاكتشاف مدى استعداد إيران للتخلّى عن بعض من مواقفها الصلبة مقابل بعض الإغاثات الاقتصادية أو التنازلات الأخرى. كما يُعدّ توجيه الانتقادات بشأن دعم الميليشيات جزءًا لا يتجزّأ من الحملة التى تهدف إلى الضغط على النظام الإيرانى داخليًا وإقليميًا.

 دوافع وشروط

إيران تسعى عبر هذه المفاوضات إلى تحقيق أهداف رئيسية تتعلّق بإعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية والسياسية، بينما تحاول تأمين مكانتها النووية على الساحة الدولية. أول هذه الأهداف يتعلّق بالحاجة الماسّة للإغاثة الاقتصادية، حيث تطمح طهران إلى الوصول الفورى إلى مليارات الدولارات من أصولها المجمّدة فى الخارج.

أما الهدف الثانى فيتمثّل فى تأكيد الشرعية النووية لإيران، وهو مسعى ثابت فى سياستها الخارجية. إيران تُصرّ على أن برنامجها النووى هو برنامج سلمى، وتُبدى استعدادها للعودة إلى مستويات التخصيب التى كان متفقًا عليها فى اتفاق 2015، مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها، ومع ذلك، تتمسّك إيران برفض تفكيك بنيتها التحتية النووية أو تقديم أى تنازلات تتعلّق ببرنامجها الصاروخى، الذى تعتبره جزءًا أساسيًا من سيادتها وأمنها القومى.

أما الهدف الثالث، فهو يرتبط بالتحوّلات الإقليمية التى قد تشهدها المنطقة نتيجة لهذه المفاوضات. فى خطوة قد تعكس استعدادًا لتقليص بعض الأنشطة الإقليمية، أعلنت إيران عن انسحابها من بعض المواقع فى سوريا، مما يراه البعض إشارة إلى استعدادها للتوصّل إلى اتفاق نووى. لكنها فى الوقت ذاته ترفض رفضًا قاطعًا التفاوض بشأن دعمها لوكلائها فى المنطقة أو تقليص قدراتها الصاروخية، حيث ترى أن هذه القضايا تتعلّق بسيادتها ولن تكون جزءًا من أى مفاوضات نووية.

وسبق أن حدّدت الإدارة الأمريكية مهلة 60 يومًا، مصحوبة بتحذير غير مسبوق: فى حال رفضت طهران الامتثال، فإن واشنطن لن تتردّد فى إحالة الملف الإيرانى إلى مجلس الأمن لوضعه تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذى يتيح استخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر. لكن إيران، رغم التصريحات الحادّة لقادة الحرس الثورى، تُدرك أن المواجهة المفتوحة قد تعنى نهاية مشروعها الإقليمى، وربما انهيارًا داخليًا لا يمكن السيطرة عليه، خاصة بعد التراجع فى سوريا، والانكماش فى العراق، وتصاعد الضغط فى اليمن ولبنان.

 سيناريوهات.. وأفق

تتعدّد سيناريوهات المفاوضات الإيرانية-الأمريكية (برعاية من سلطنة عُمان). أولها، التوصّل إلى اتفاق جزئى يشمل تخفيفًا محدودًا للعقوبات مقابل وقف التخصيب بمستويات مرتفعة، وتجميد بعض أنشطة برنامج الصواريخ الباليستية دون تفكيكه. هذا السيناريو مرجّح إذا أظهرت إيران مزيدًا من المرونة خلال المهلة المحددة، وتخلّت واشنطن عن شرط تفكيك «محور المقاومة» أو ربطت هذا الملف بجولات تفاوض لاحقة.

بينما السيناريو الثانى يعنى فشل المفاوضات وتصعيدًا تدريجيًا، قد يبدأ بعمليات محدودة سيبرانية أو استخباراتية، ثم يتحوّل إلى ضربات جوية تستهدف المنشآت النووية، خاصة إذا اعتبرت إسرائيل أن إيران تقترب من العتبة النووية. هذا المسار سيفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة إقليمية شاملة.. أما ثالث السيناريوهات، فهو إدارة الصراع دون انفجار، وهو سيناريو الإبقاء على حالة «اللاحرب واللاسلم»، حيث يستمر الضغط الأمريكى والعقوبات، مع بقاء القنوات الخلفية مفتوحة، دون تقدم حقيقى.

تتعلّق أنظار طهران بصيغة تُشبه الاتفاق النووى لعام 2015، الذى كان إنجازًا دبلوماسيًا بارزًا. فرغم موافقة إيران آنذاك على تقييد برنامجها النووى مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية، فإن انسحاب الولايات المتحدة فى 2018، خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس دونالد ترامب، وإعادة فرض العقوبات، أدّى إلى تصعيد التوتر وتجميد الاتفاق.

وأمام ذلك، ردّت إيران بتكثيف أنشطتها النووية، لا سيّما تخصيب اليورانيوم بنسبة %60، وهى مستويات تقترب من الدرجة العسكرية، مما أثار مخاوف دولية، قبل محاولات لإحياء الاتفاق فى فيينا عام 2022، لكن كل جولاتها باءت بالفشل بسبب انعدام الثقة المتبادلة والتغيرات السياسية فى كل من طهران وواشنطن.

ومن ثم تمثّل المفاوضات الحالية فى مسقط، بوساطة عُمانية، فرصة جديدة لمعالجة الأزمة النووية وتهدئة التوترات الإقليمية.

تمثّل الجولة الثالثة من المفاوضات (برعاية سلطنة عُمان) منعطفًا حاسمًا فى ملف العلاقات الأمريكية-الإيرانية، فى إطار دبلوماسى متحفّظ يهدف إلى إعادة رسم ملامح الأمن الإقليمى وتخفيف حدّة التوترات التى أفرزتها سياسات الفترة الماضية. فهى ليست فقط محاولة لإنقاذ الاتفاق النووى، بل تحايل دبلوماسى على تراجع استراتيجى أكبر تمرّ به طهران، التى وجدت نفسها مُجبرة على تقليص وجودها الإقليمى، فى لحظة لم تَعُد فيها اليد العليا لها كما كانت فى السنوات الماضية.

فى المقابل، تُدرك الولايات المتحدة (رغم لغة التهديد) أن خيار الحرب مكلف، وتسعى لإجبار طهران على التراجع دون إطلاق رصاصة واحدة. وبينما تتحدث الوفود عن «أجواء إيجابية»، يُدرك المراقبون أن الشياطين تكمن فى التفاصيل، وأن المفاوضات ليست إلا بداية مسار طويل، قد يقود إلى اتفاق نووى جديد، أو إلى حرب لا تُشبه سابقاتها، لكنها ستُولد حتمًا من رحم التفاوض.