السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الفلاح المصرى بلا زراعة

الفلاح المصرى بلا زراعة
الفلاح المصرى بلا زراعة


 
ينصح الأطباء النفسيون مرضى الاكتئاب بالذهاب للأماكن الخضراء والواسعة، والعودة للطبيعة وذلك لـمَّا كان الفلاح عضواً منتجاً يهتم بأرضه ويرعاها كأبنائه بل أكثر.. فعلى مدار الأجيال اقترن اسم الفلاح بالزراعة والإنتاج الحيوانى.. تخيل أن هذا الفرد ترك مهنته الإنتاجية وصار عبئاً على الدولة.. ولكن لا تتخيل فقد صار هذا التخيل أمراً واقعاً.
 
وكانت من المحافظات الأكثر نموذجا للفلاح المصرى محافظة كفر الشيخ التى اعتمد سكانها على الزراعة والصيد، فقد كان للفلاح دورة ثابتة فى حياته، وكانت تلك الدورة تتوقف، لكل ما يتعلق به وبأسرته بالحصاد كل عام، فتوقيت الحصاد يعد يوم الزفاف الثابت كل عام وخاصة تأجيل الأفراح والمناسبات الخاصة بأبنائهم كل عام حتى توقيت الحصاد لما يحمله من خير ومال ليتمم الفرحة كى يستطيع الحصول على الأموال الكافية لتجهيز العروسة أو العريس، فيبدأ عمله منذ الصباح الباكر بعد صلاة الفجر مباشرة بخطوات ثابتة للخروج إلى أرضه ومعة «المواشى» التى تعد جزءا من ميراثه الذى يساعده على الحياة فى فترة عدم وجود أموال ثابتة للعيش عليها، فمن يمتلك «جاموسة» أو «بقرة» فهو يمتلك ميراثا ثابتا لوجود الأموال طوال العام حتى موعد الحصاد، وتستطيع الثروة الحيوانية البسيطة أن تراعى عائلة كاملة طوال العام لما تحمله من الألبان، وأيضا الثروة من الطيور التى تقوم بها ربة المنزل تجعلها لا تحتاج إلى شراء البيض أو اللحوم أو الألبان، والأرز يكون مخزنا طوال العام بعد الحصاد، وأيضا جميع أنواع الخضار يحرص الفلاح المصرى على تخصيص جزء صغير طوال العام لزراعة جميع أنواع الخضار حسب الموسم فهو غنى أيضا دون الحاجة لغيره.
 
فكان قديما يحصل الفلاح على دعم كبير من الدولة نظرا لدوره الكبير فى تنظيم المنظومة الزراعية المهمة، فقد كان هناك دور كبير للجمعيات الزراعية التى كانت تخدم الفلاح بتقديم المبيدات والبذور «تقاوى» المحاصيل والسماد حتى يقوم الفلاح بإتمام عملية الزراعة بشكل منظم مع الدعم الحكومى، وفى توقيت الحصاد يقوم على الفور بتسليم الحصاد الخاص به إلى الجمعيات الزراعية التى تعامل معها، إلا أن ذلك قد تغير بشكل كامل حاليا فقد توقفت الجمعيات الزراعية عن ذلك بشكل كبير، ولا يوجد إلا القليل منها يخدم الفلاح الذى تحولت مهنته التى تعلمها من أجداده إلى حالة إحباط كاملة نظرا للصعوبات التى يواجهها والتحديات المادية الكبيرة التى لا يمتلكها ويقوم بشراء جميع محتويات أرضه من السوق السوداء أيضا بأسعار باهظة، وفى توقيت خروج المحاصيل لا يجد ثمن ما قام به وما قد أهدره طوال العام حتى تخرج المحاصيل بشكل قليل.
 
وكان هناك فى فترة الخمسين عاما الماضية دور كبير للمشرف الزراعى، فكان يشرف على الأرض الزراعية بشكل ثابت ولكل منطقة مشرف زراعى خاص بها، وتنشأ علاقة وطيدة بين المشرف والفلاح، ومازال موجودا إلا أن وجوده أصبح تقليديًا وليس مهمًا مثل الماضى .
 
حاليا يلجأ الفلاح إلى السوق السوداء لبيع محاصيله بثمنٍ بخس، وكان قديما يعتمد الفلاح على نفسه بشكل كامل عن العمل داخل الأرض، أيضا يتبادل مع جاره الفلاح مساندته فى العمل، وهكذا تكون هناك منظومة متماسكة فى العمل مقابل المساندة المشتركة بينهم، إلا أن تلك الملامح أختفت حاليا لارتفاع أسعار العمال القادمين للعمل فى الأراضى الزراعية بعد أن وصلت أجرتهم إلى 100 جنيه وأكثر للعامل الواحد طوال اليوم .
 
وكان دور ربة المنزل المعروف بأنها هى المنظومة الداخلية لرعاية الأبناء فى الذهاب للمدارس فى الصباح ومتابعة المنتجات الحيوانية داخل البيت ثم مساندة الزوج بعد الظهيرة فى الذهاب له بالطعام ومتابعته أيضا، فتلك المظاهر اختفت تماما حاليا، فالمرأة أصبحت فى بيتها فقط إلا القليل الذى مازال يحرص على ذلك.
 
ومع الزحف العمرانى الذى هدد الزراعة نظرا لأنها أصبحت لا تحقق مكاسب، فجعلت الفلاح أفقر شخص فى المجتمع المصرى، ولم تعد توفر للفلاح حياة كريمة مع عدم وجود دخل ثابت لحياتة نظرا للأمراض والمبيدات القاتلة التى أصابت إنتاجه من المحاصيل ليخرج بالحصيلة النهائية لا شىء فكان قراره البحث عن عمل جديد، وهو التصنيع أو الأعمال الحرة بقيامه بالبناء على الأرض الزراعية أو بيع الأرض ليأخذ ثمنها للوقوف على قدميه بمشروع ثابت له ولأبنائه ليدفن تراث الفلاح داخله وتتغير ملامح حياته، فقد تقلصت آلاف الأفدنة الزراعية داخل محافظة كفر الشيخ ومرض الفلاح المصرى الفقير لما واجهته أيضا من أمراض مثل فيرس «سى» ومياه الشرب الملوثة وأزمة الصرف الصحى وغلاء الأسعار لتختفى عشرات الملامح المهمة التى كانت من أهم ملامح التراث المصرى القديم.
 
ودخل ما يسمى بالتوك توك إلى القرى المصرية ليقبل عليه جميع الشباب كمصدر للرزق، لنظرا لما يجمعه من أموال بشكل يومى، عكس الفلاح الذى ينتظر كل عام الحصاد الذى يخرج بعكس ما هو متوقع، فأصبح الفلاح حاليا يبيع جزءا من ميراثه لشراء التوك توك للعيش من أمواله.