لا قوانين دولية أوقفت الجريمة ولا قيم إنسانية منعت الاحتلال علــى مــدار عـــام كامـــل حرب الإبادة مستمرة فى قطاع غزة

آلاء شوقى
غربت الشمس فى السابع من أكتوبر 2023 بقطاع غزة ولم تشرق حتى اليوم، كل ما تقع عليه الأعين هو ظلام دامس، تدمير واسع وغير مسبوق لكل مظاهر الحياة، استباحت قوات الاحتلال أرض القطاع وسماءه بالقنابل والصواريخ ولم تفرق بين كبير أو صغير، الكل مستهدف، وكل متحرك يجب أن يسكن خوفًا أو هلعًا أو عجزًا أو موتًا، بينما ينتظر الجميع خبرًا لشروق جديد على الأرض المكلومة.
فى «غزة» لا يوجد ملاذ من هجمات الاحتلال، حتى فى تلك الأماكن التى من المفترض أن تكون محصنة بموجب القانون الدولى الإنسانى كالملاجئ والمستشفيات.
فى «غزة» لا يوجد للمدنيين العزل حقوق فى الحياة والأمان.. الناس محاصرون فى سجن كبير، يندر فيه الماء والغذاء، ويمنع عنه الوقود والكهرباء، فى ظل نقص حاد فى الإمداد الطبى والدواء.
مر عام كامل من العدوان الغاشم، أسفر عن مأساة غير مسبوقة، أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولى، فيما تواصل «الولايات المتحدة» مباركتها لسفك الدماء، وتأكيدها حماية الاحتلال ودعمه بالسلاح والأموال أو فى المحافل الدولية، وتحديدًا مجلس الأمن.
انتهاك القوانين الدولية
بعيدًا عن عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، استخدم الاحتلال سلاحى التجويع والعطش -المجرّم دوليًا- كأحد أسلحة الحرب، حيث ارتفعت نسب المجاعة بشكل غير مسبوق فى «غزة»، فى ظل منع وصول المساعدات الإنسانية، ما أدى لاستشهاد عدة أطفال من المجاعة.
كما قال تقرير لمنظمة «أوكسفام» -صدر مؤخرًا- إن مدينة «غزة» فقدت كل قدرتها على إنتاج المياه تقريبًا، بعد أن تضررت أو دمرت 88 % من آبار المياه، و100 % من محطات تحلية المياه بسبب العدوان الإسرائيلى الذى استهدف مقرات المياه عن عمد؛ كما دمر شبكات الصرف الصحى، ومحطات المعالجة، ومحطات الضخ، والشبكات فى مختلف المناطق داخل القطاع المحاصر.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اتبع الاحتلال فى «غزة» استراتيجية تخريبية وحشية تخالف كل القوانين الدولية والإنسانية، عبر تدمير كل ما يصلح للبقاء على قيد الحياة فى «غزة»، بداية من البنايات السكنية، وصولًا للمستشفيات والمدراس.
فعلى سبيل المثال، أفادت بيانات البنك الدولى، بتعرض نحو 90 % من المرافق الصحية إلى دمار كلى، بسبب استهداف الاحتلال المباشر للمستشفيات والمراكز الطبية، ما أدى لانهيار نظام الرعاية الصحية فى القطاع، الذى لا يزال فى حالة سقوط حر، حيث لا تعمل سوى قلة قليلة جدًا من المستشفيات بشكل جزئى من أصل 36 مستشفى بالقطاع، حسب تصريحات لمدير منظمة الصحة العالمية، وذلك بسبب استهداف الاحتلال لها بصورة مباشرة، بما يخالف القوانين الدولية والإنسانية.
وذلك إلى جانب تدمير المدارس التى تحول أغلبها إلى مراكز إيواء نازحين، والبنية التحتية لقطاع «غزة»، الذى تحول إلى - ما وصفه- بأكبر منطقة ركام فى العالم.
كما وصفت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» الظروف الصحية والمعيشية فى «غزة» بغير الإنسانية؛ مشيرة إلى جبال النفايات التى تتراكم فى المناطق الوسطى من «غزة»، بينما تتسرب مياه الصرف الصحى بالشوارع؛ مؤكدة أنه ليس أمام العائلات أى خيار سوى العيش بجانب هذه النفايات المتراكمة، ما يسفر عن تداعيات صحية وخيمة.
قرارات أممية غير ملزمة
على مدار عام كامل، تحركت العديد من الدول –العربية تحديدًا- مثل: «مصر، والجزائر، والأردن»، وغيرها فى المحافل الدولية، وبين أروقة الأمم المتحدة، فى محاولة لدعم القضية الفلسطينية، وتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، وهى: «وقف العدوان، ووقف إطلاق النار»؛ و«إدخال المساعدات الإنسانية»؛ و«وقف ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب فى غزة».
وبالفعل، اتخذت الأمم المتحدة العديد من القرارات العامة لصالح «غزة»، إلا أن الاحتلال لم يآبه لها، وضرب بها عرض الحائط.
ومن أبرز القرارات الأممية، اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة -لأول مرة- فى 27 أكتوبر 2023، وبأغلبية 120 عضوًا، قرارًا عربيًا يدعو إلى هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة، تفضى إلى وقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين فى شتى أنحاء قطاع «غزة» فورًا، وبدون عوائق، فى إطار الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة، التى حملت عنوان: «الأعمال الإسرائيلية غير القانونية فى القدس الشرقية المحتلة، وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة».
وطالب جميع الأطراف المعنيين بالامتثال الفورى والكامل لالتزاماتها بموجب القانون الدولى، وتمكين وتسهيل الوصول الإنسانى للإمدادات والخدمات الأساسية إلى جميع المدنيين المحتاجين فى «غزة».
كما رفض القرار، الذى عنون بـ«حماية المدنيين والتمسك بالالتزامات القانونية والإنسانية» بشدة أية محاولات للترحيل القسرى للسكان المدنيين الفلسطينيين؛ كما دعا إلى إلغاء الأمر الذى أصدره الاحتلال الإسرائيلى للمدنيين الفلسطينيين، وموظفى الأمم المتحدة، فضلًا عن العاملين فى المجال الإنسانى والطبى، بإخلاء جميع المناطق الواقعة فى شمال «غزة»؛ وهو ما لم يطبق الاحتلال أيًا منه، أو يحترم القرار؛ بل على العكس، أدان مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة القرار، معتبرًا -من وجهة نظره- أن الأمم المتحدة لم تعد تحمل ولو ذرة واحدة من الشرعية أو الأهمية!.
كما اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا آخر، بأغلبية 121 عضوًا، صادرًا عن الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة فى 23 ديسمبر 2023، يدعو إلى وقف فورى لإطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، وأن تمتثل جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولى؛ داعية إلى تنفيذ هدنة إنسانية.. وهو ما لم يلتزم به الاحتلال أيضًا.
أما فى 10 مايو 2024، فاتخذت الأمم المتحدة قرارًا مهمًا، بأغلبية 143 صوتًا، دعا إلى ترقية حقوق «فلسطين» فى الأمم المتحدة كدولة مراقبة، دون تقديم العضوية الكاملة؛ وحث مجلس الأمن لإعطاء نظرةٍ إيجابية لطلب فلسطين.
وفى نفس اليوم، أهان الاحتلال الإسرائيلى الأمم المتحدة، التى تحظى بقدسية أخلاقية لدى المجتمع الدولى، حينما قام مندوب الاحتلال لدى الأمم المتحدة -فى سابقة من نوعها- بتمزيق صفحات من ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة، احتجاجًا على مشروع قرار؛ كما استخدم المندوب الإسرائيلى ألفاظًا حادة، وإهانات وجهها للمندوبين ممثلى دول العالم فى الجمعية العامة، وتمادى فى انتهاكه لاحترام المنظمة، حيث وصف هيئة الأمم المتحدة بـ«الوقاحة».
ومع ذلك، أدى القرار الأممى إلى اتخاذ البعثة الفلسطينية الحق فى الجلوس فى الجمعية العامة بين الدول الأخرى حسب الترتيب الأبجدى، بدلًا من مقعدها الحالى كمراقب فى الجزء الخلفى من الغرفة.
فى المقابل، كان رد الاحتلال على قرارات الأمم المتحدة التالية التى دعت إلى هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، هو تكثيف الغارات الجوية، وشن الهجمات البرية والبحرية على مختلف مناطق قطاع «غزة»، بالإضافة إلى قطع الاتصال وخدمات الانترنت، وعزل المنطقة عما يحدث من جرائم إنسانية.
إسرائيل بين العدل والجنائية الدولية
خلال الشهور الماضية، انصب تركيز العالم على أهم وأعلى محكمتين حول العالم، وهما محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، لموقفهما من مجازر الاحتلال.
ففى مارس 2024، أمرت العدل الدولية، إسرائيل، بضمان توفير مساعدة إنسانية عاجلة لقطاع غزة دون تأخير، مؤكدة أن «المجاعة وقعت» فى القطاع؛ مشيرة لملاحظتها تدهور الظروف المعيشية الكارثية فى «غزة»، فى ظل الحرمان واسع النطاق من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية.
وأمرت المحكمة، بالإجماع، إسرائيل باتخاذ جميع التدابير اللازمة والفعالة لضمان التنفيذ الكامل دون تأخير وبالتعاون مع الأمم المتحدة، لإيصال الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التى تشتد الحاجة إليها؛ كما أمرت إسرائيل -بشكل فورى- بضمان عدم قيام قواتها العسكرية بارتكاب أعمال تشكّل انتهاكًا لأى من حقوق الفلسطينيين فى «غزة»، كمجموعة محمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.. إلا أن كل هذا لم يحدث على الإطلاق.
على كل، يذكر أن أحكام محكمة العدل الدولية نهائية، وليس هناك إمكانية للاستئناف، إلا أن الأمر متروك للدول المعنية لتطبيق قرارات المحكمة فى ولايتها القضائية الوطنية.. وفى معظم الحالات، تحترم الدول التزاماتها.
من جانبه، طلب مكتب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية - فى مايو الماضي- إصدار أوامر لاعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، ووزير دفاع جيش الاحتلال «يوآف جالانت»، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بسبب دور كل منهما فى الحرب.
وأوضح -حينها- المدعى العام «كريم خان» أنه مع الأخذ فى الاعتبار بالأدلة، التى تم جمعها وفحصها من قبل مكتبه، فإن «نتنياهو، وجالانت» يتحملان المسئولية الجنائية عن جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، مرتكبة على أراضى دولة «فلسطين» فى قطاع «غزة»، اعتبارًا من 8 أكتوبر 2023، ومنها: تجويع المدنيين عمدًا كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب؛ والتسبب عمدًا فى معاناة شديدة، أو إلحاق ضرر جسيم بالجسم أو الصحة؛ والقتل العمد؛ وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين؛ والإبادة والقتل، بما فى ذلك ما يتعلق بتجويع المدنيين المؤدى إلى الوفاة؛ والاضطهاد والأفعال اللا إنسانية الأخرى التى تُعتبر جريمة ضد الإنسانية وجرائم حرب.
ومع ذلك، ليس لدى المحكمة أى وسيلة لتنفيذ الاعتقال، حيث يُلزم نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، فيما يخص قضايا تنطوى على أوامر اعتقال ضد رؤساء دول فى الحكم، جميع الدول الموقعة على المحكمة الجنائية الدولية وعددها 124 دولة فقط، باعتقال وتسليم أى فرد يسرى ضده أمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية إذا وطأت قدماه أراضيها.
وفى هذا الصدد، يذكر أن العديد من الدول لم توقع على نظام روما، ومن بينها «الولايات المتحدة، التى كانت -مثل العادة- أولى المعترضين على قرار المحكمة الجنائية الدولية، حيث وصف الرئيس الأمريكى «جو بايدن» -حينها- طلب المدعى العام بإصدار أوامر اعتقال بحق قادة الاحتلال الإسرائيلى بأمر شائن!.
مجلس الأمن يفشل أمام الاحتلال الإسرائيلى
منذ أكتوبر 2023، تمحورت أغلب الاجتماعات فى مجلس الأمن حول «فلسطين»، وتحديدًا حول الوضع فى «غزة»، بما فيها الإنسانى والميدانى، باستثناء جلسة واحدة للنقاش والتصويت على طلب «فلسطين» الحصول على عضوية كاملة فى الأمم المتحدة.
وخلال الشهور الماضية، تبنى مجلس الأمن أربع قرارات حول «غزة» تتمحور حول تقديم المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى هدنة، أو وقف إطلاق نار إنسانى، إلا أن «الولايات المتحدة» استخدمت خلال نفس الفترة حق النقض (فيتو) خمس مرات لحماية الاحتلال، منها: ثلاث مرات ضد مشاريع قرارات تطالب بالهدنة، ومرة ضد تعديل روسى شفوى على أحد القرارات قبل تبنيه، والمرة الخامسة ضد عضوية كاملة لفلسطين فى الأمم المتحدة.
كذلك ضغطت «الولايات المتحدة» على العديد من الدول، للحيلولة دون تصويتها لصالح عدد من القرارات الأخرى التى قدمت، ولم تحصل على عدد الأصوات اللازم لتبنيها.
ومع ذلك، يذكر أن مجلس الأمن أصدر قرارًا فى 25 مارس 2024، رقم (2728)، من قبل أعضاء مجلس الأمن الـ 14، دون أى معارضة، حيث امتنعت «الولايات المتحدة» عن التصويت، أمر بوقف إطلاق النار، واحترام جميع الأطراف الهدنة خلال شهر رمضان، ما يفضى إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، وهو ما لم يحدث، إذ لم ينفذ الاحتلال أو يحترم القرار، ليختلق على أثره مناقشات واسعة حول مدى فاعليته وإلزاميته؛ معتبرًا -بتأييد أمريكى- أن الصيغة تحتاج إلى وضع تفسير متوافق عليه أولًا.. وعادة ما استغل الاحتلال الإسرائيلى تلك الثغرة للتنصل من القرارات الدولية، عبر إثارة جدل قانونى حول المصطلحات المستخدمة لا ينتهى تفسيرها.
لم يكن قرار مجلس الأمن رقم (2728) الوحيد الذى صدر بحق «غزة»، بل اتخذ المجلس القرار رقم (2735)، الذى اعتمد فى شهر يوليو الماضى، والذى حصل على 14 صوتًا فى مجلس الأمن لهدنة مكونة من ثلاث مراحل، وهى: الوقف الفورى التام والكامل لإطلاق النار، وإطلاق سراح المحتجزين، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلى من المناطق المأهولة بالسكان فى «غزة»، وعودة المواطنين إلى ديارهم وأحيائهم فى جميع مناطق «غزة»؛ فضلا عن التوزيع الآمن والفعّال للمساعدات الإنسانية على نطاق واسع فى جميع أنحاء القطاع، ووقف دائم للحرب وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من القطاع، والشروع فى خطة كبرى متعددة السنوات لإعادة إعمار قطاع «غزة».
ومع ذلك، لم يُنفذ القرار حتى الآن، إذ عدمت حكومة الاحتلال إلى عدم تمكين «الولايات المتحدة» من فرض موقف صارم لتنفيذ هذا القرار، علما بأنه كان من المفترض على الإدارة الأمريكية العمل على تطبيقه.
.…
فى النهاية.. دفع الاحتلال الإسرائيلى العالم أمام منعطف خطير جراء عدم امتثاله للقوانين الدولية والإنسانية؛ بينما أحرج (الغرب) -من ابتدع تلك القوانين الحاكمة للنظام الدولى- أمام عدم تطبيقه تلك القواعد على الاحتلال، رغم استخدامه لها مرارًا أمام ما يخدم مصالحهم.
فكم الصورة المأساوية لانتهاك القوانين الدولية والإنسانية، التى تعد نقطة فى بحر ممارسات الاحتلال اللا إنسانية بحق المدنيين العزل من كبار، ونساء، وأطفال، كان كفيلًا ليغير العالم نظرته لتلك المؤسسات الحاكمة، بداية من الأمم المتحدة، ووصولًا لمجلس الأمن، مرورًا بالمحكمتين «العدل والجنائية الدولية».
فلن ينسى أحد، أنه حين انتهكت كل القوانين الدولية والإنسانية.. كان قطاع «غزة» شاهدًا، والاحتلال الإسرائيلى دليلاً.