خطيئة خلط الدين بالسياسة فى «محاكمة» ميراث الريح!

حسام عطا
هكذا تحدث الأستاذ فى مسرحية «ميراث الريح»، وهو حديث يهون علينا كثيرا الخسارة الفادحة التى نجمت عن إشعال كل هذه النيران فى مصر، لأن العائد غير «الملموس» ماديا وهو عائد كبير يكمن فى أن الروح المصرية قد تخلصت من الخطأ الأساسى الذى عطلها كثيرا، ألا وهو خلط الأشياء المادية بالحقائق الروحية العظيمة أو قل خلط الدين بالسياسة والعلم والمعرفة.
كما أنها مصر العميقة الفهم قد استطاعت أن تسخر من أفكار الخرافة، وتضحك لأن الضحك هو التعبير الإنسانى عن حيوية العقل.إنه ثمن إعلاء قيمة العقل.
ولأن المخرج طارق الدويرى هو واحد من هؤلاء الذين ينحازون للفكرة التى ترفع الإنسان فوق كل مخلوقات الأرض ألا وهى القدرة على التفكير، فقد كان أن صبر مدافعا عن فكرته عن المسرح لمدة عام ونصف العام من العمل المؤلم المتقطع حتى يستعيد للمسرح المصرى الاحترافى اختيارا كاد أن يختفى ألا وهو كون المسرح المصرى بيتا للتفكير المتحضر، وكان أن خرجت مسرحية المحاكمة للنور على مسرح ميامى.. المسرحية كتبها جيروم لورانس وروبرت لى، عام 5591 وظل النص محاصرا لعدة سنوات إثر الحالة العقلية المرعبة لنيران المكارثية التي أخافت البشر فى أمريكا، حيث كانت لجنة للتفتيش فى حرية الاعتقاد نشطت فى خمسينيات القرن العشرين.
والمسرحية مأخوذة عن حادثة حقيقية لمدرس قرأ فصلا من كتاب «أصل الأنواع» لدارون على تلاميذه، فتم فصله وإحالته للمحاكمة.
والمسرحية صيغة من مسرح المناقشة تستلهم تلك المحاكمة بخيال فنى وأفق فكرى رحب وممتع.
وعرض المحاكمة يكاد يقدم نص ميراث الريح بكل أمانة إلا من بعض الإضافات اللفظية فى النهاية تحصر الشخوص لتشير لأشخاص وأحداث معاشة بعينهما، مما يخصم من قيمة التفسير الإخراجى عبر الإشارة بالأصابع لأسماء بعينها وهو إشباع للدلالة لا محل له من إضافة جديد، بل يخالف التقليد الدرامى المتعارف عليه ألا وهو أن المعد الدرامى ليس من حقه الإضافة حوارا وحدثا للنص الأصلي، وإن كان من حقه أن يمارس الحذف.. ولأن طارق الدويرى بذل جهدا مدققا فى نسج عناصر عرضه الجميل، فالأمر يستحق أن يبادله النقد دقة بدقة ليضع يده على تلك الهفوات التقليدية التى عليه أن يغادرها هو وكل الجادين فى الفن المسرحى فى مصر، من الكتابة على النصوص الراسخة مثل ميراث الريح، بينما أدوات المخرج تتيح له أن يقول بها ما يشاء، إلى إشباع الدلالة، وهى خطأ أصيل فى الفن المصرى الجميل، حيث يقول الفنان المعنى الواحد بكل اللغات المسموعة والمرئية، مما يؤدى إلى فقد المتلقى لمتعة التأويل والاكتشاف.
لكن يبقى للعرض حق أنه يستعيد للمسرح المصرى جماله وفكره بعد غياب طويل، حيث ينسخ المخرج علاقات متناغمة بين المنظر المسرحى المبتكر لمحمد جابر وهو عالم معدنى حديدى يصف البلدة بالقسوة، حيث قاعة المحكمة الرمادية التى يظهر خلفها سلم حديدى صاعد وهى تتحول لساحة للمدينة، كما تستخدم القرص الدوار لصناعة المواجهات الدرامية، وتصنع مادة فيلمية للشخوص الدرامية قدمها عمرو الوشاحى بحساسية سينمائية، لكنها كانت تكرر مشهد التمثيل الواقعى فى معظم الأحيان.
أما موسيقى تامر كروان فكانت قادرة على رصد حالة الصراع الفكرى الحاد بين محامى الدفاع المؤمن بحرية الفكر، وبين السيد الفاضل ممثل الادعاء، وهو المنحاز لأن العلم لا يجب أن يخالف الكتاب المقدس، لأنه كما جاء فى العهد القديم:
ما ورثته عن أبى هو خير لى وكفاية، وهو التفسير الحرفى للكتاب المقدس، بينما يؤمن أهل العقل بأن ليس كل الماضى فيه الكفاية، بل النظر للبحث عن الجديد والمختلف.
الإضاءة المسرحية لأبوبكر الشريف التى تستخدم اللون الأبيض ثم الإظلام، تحقق بالفعل التأثير النفسى لهذا العالم غير الملون الذى تأتى أفكاره فى صراع بين الأبيض والأسود.
ولهذا عندما ينتصر الأستاذ ويحصل المتهم على حكم مخفف بغرامة دون حبس فى توازن صارم للعدالة التي تدين ولا تعاقب، يموت الأستاذ الفاضل من الانفعال والصدمة، ويذهب معه للموت خطب وأفكار كان قد أعدها لترشحه فى الانتخابات الرئاسية هذا الموت المعنوى يدفع الأستاذ للحزن عليه، فيهاجمه الصحفى المعارض، لكن الأستاذ يحزن لأنه يحترم جهد خصمه الإنسانى ويحترم حقه فى النظر إلى السماء لأبعد مدى، إنه التعاطف مع المتعصبين، لأن مأساة المتعصب أنه لا يقبل الخسارة ولا يعترف بالخطأ ولا يستخدم حقه الإنسانى فى أن يكون مخطئا.
يبقى للصياغة الحركية لضياء ومحمد تأثيرها الملهم فى حركة الجموع التى تصنع الضجيج وتبحث عن بطل يقودها، ثم سرعان ما تنقلب عليه وتأكله فقد كانت صياغة مسرحية جادة لمجموعة العمل، أما صاحب الحضور المسرحى الخاص عادل خلف فقد كان تعبيرا عن البساطة والإجادة ويبقى لأحمد فؤاد سليم فى دور الأستاذ ولأشرف عبدالغفور فى دور السيد الفاضل التقدير الحق للإخلاص لمهنة المسرح، ولقدرتهما على الإمتاع الفنى فى أيام الضجة والانفلات المسرحى الطويلة.
طارق الدويرى بلاشك فنان يقبض على الجمر فى زمن السهل العامى العشوائى التجارى فى الفن المصرى، أما هو فيذهب بلا خوف لعالم الأفكار اللامعة ولعناصر الإبداع الجميل.
كما يحسب للمسرح القومى ولمديره خالد الذهبى هذا العرض الذى يستعيد روائع المسرح العالمى لمسرح الدولة.