رجل أعمال محترم وآخر ليس كذلك

منير عامر
حين تأتى كلمة «رجل أعمال» أمام عيونى، فالذاكرة تهدينى صورة المليونير محمد فرغلى ملك القطن فيما قبل ثورة يوليو، وتزاحمها صورة رسمها إحسان عبدالقدوس فى رواية «شىء فى صدرى»، حيث يشتهى رجل أعمال كبير ابنة واحد من أصدقائه، وحاول اغتصابها بكل الطرق، وساعده طبعا مدير أعماله الذى يستطيع إحضار لبن العصفور إن طلب منه سيده ذلك، ولكن البنت كانت تحب، وانتصر الحب رغم أنف رجل الأعمال ومساعده الذى يقوم بدور القواد بعض الوقت ودور الشرير كل الوقت.
ومنذ الانفتاح «سداح مداح» وقلبى يمتلئ حرصا على الاحتفاظ بمسافة بينى وبين أى رجل يحمل وظيفة «رجل أعمال».
وأعترف أن رجل الأعمال الوحيد الذى أحببته إلى حد الأخوة، هو منصور حسن، بل ودعانى لأعمل بهيئة مكتبه السياسية كمستشار لوزير الدولة برئاسة الجمهورية، وكان العمل بدون مقابل مادى، بل بالمحبة وحدها، ومنصور حسن هو هذا السياسى النادر الذى مزج بين إيمان غير محدود بتجربة العدل الاجتماعى لجمال عبدالناصر وتقديس غير محدود لآفاق الديمقراطية النقية، لا الديمقراطية المسمومة، ومنصور حسن هو من ترصده حسنى مبارك وأبعده عن العمل العام، خوفا من مهاراته السياسية الباهرة، وخسرناه بأزمة ربوية خانقة، بعد أن ازدحم مناخ القاهرة بتراب التنافر الزاعق الذى سرق الأوكسجين من الهواء.
المعانى السابقة دارت فى رأسى عندما وصلنى صوت عبر المحمول يقول لى إنه «محمد فريد خميس»، وتعرفت على صاحب الصوت لأن أذنى تحفظ الأصوات وقادرة على تمييزها، نعم هو صوت رجل الأعمال اللامع الذى أحفظ له جميل رعايته لأحد زملائنا الراحلين إبان مرضه الصعب والعضال.
قال لى صاحب الصوت: «قرأت فى «روزاليوسف» تقييمك لتجربة إغراق المؤسسات الصحفية بالديون عبر الأربعين عامة الأخيرة، وتأثرت بما قرأت، فاتصلت بمن وصفته أنت أنه محترم وهو الوزير أحمد البرعى، وهو يقدر لك تفهمك لموقفه المحاصر بين ديون التأمينات الاجتماعية المتراكمة على المؤسسات الصحفية، وبين محاولة وزارة المالية الحجز على المخصصات المالية لتلك المؤسسات نتيجة طبع الكتب المدرسية، وعن نفسى أنا محمد فريد خميس قررت إرسال شيك بنصف مليون جنيه لـ «روزاليوسف» كمساهمة فى دعم رسالتكم، ومن المؤكد أنك تعلم أنه سبق إرسالى لشيك بمليون جنيه لنفس الهدف، فهى المؤسسة التى لم تغرق فى التسبيح بحمد أحد، وعندك رقم تليفونى.. فاتصل بى وقتما تريد.
وشكرت لرجل الأعمال موقفه ذلك، وبعبارات شديدة الوضوح والاحترام، رجوته أن يعلم عنى أنى سأتحدث مع رئيس مجلس الإدارة فى هذا الأمر مؤكدا أن «روزاليوسف» قادرة على نشر أى مادة عن مؤسساته المتعددة النشاط، فضلا عن علمه أن كاتب هذه السطور على مدى رحلة عمله بـ «روزاليوسف» والبالغة أربعة وخمسين عاما لم يدخل بيتى أو جيبى أى مليم من عمولة إعلانات أو أى مشاريع دعائية لأى رجل أعمال، ولم أملك طوال رحلة العمل إلا مرتبى الشهرى الذى ظللت أروى به شجرة أيامى منذ عملى بالصحافة، وبهذا المال الحلال قمت بتربية ثلاثة أبناء أكبرهم هو الإعلامى اللامع شريف عامر، حدث ذلك كنتيجة لما علمنى إياه أساتذتى إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم، فقد صار يقينا إيمانيا بأن تكون علاقتى بأى مصدر هى علاقة احترام متبادل، فضلا عن أن رأيى فى مجمل سلوك بعض الصحفيين وعلاقتهم ببعض من رجال الأعمال المعاصرين، هو رأى لا يسر أحدا.
كان محمد فريد خميس يعلم رأيى فى مواقفه الاجتماعية، فهو يحاول قدر طاقته أن يقدم الرعاية لبعض من الفنانين عبر ما يقتنيه من لوحات المعارض للمشاهير منهم، وقد شهدت إعجابه غير المحدود بلوحات زميلنا الفنان عبدالعال حسن، ومازلت أذكر أنى طلبت منه أن تقدم مصانع السجاد التى تتبع مجموعته الاستثمارية سجاجيد تكون على أى منها لوحة الفنان المصرى، وقد رحب بالفكرة، لكنى لم أرها مطبقة فى إنتاجه من السجاد.
وأتذكر كيف تدخل ذات مساء قديم ليضع حدا للخلاف بين مصانع أحمد عز للحديد الموجودة بمدينة السادات وبين مصانع بشاى، وعلى الرغم من علمه بقوة أحمد عز إلا أن أمانته مع نفسه كرئيس لاتحاد الصناعات جعلته يرسم حدودا فاصلة بين اثنين ينتجان نفس السلعة.
فى صباح اليوم التالى أبلغت أخى وزميلى المهندس عبدالصادق الشوربجى رئيس مجلس إدارة «روزاليوسف» بالحوار الذى دار مع الصوت الذى قدم لى نفسه على أنه محمد فريد خميس، وحكاية نصف المليون جنيه، وحاولت الاتصال بالرقم الذى سجلته عندى، فلم أجد ردا.
واندهشت لعدم الرد، فما أعلمه عن رجل الأعمال محمد فريد خميس هو الوضوح، ولا يمكن أن يضع نفسه فى نفس موضع أحد رجال الأعمال الذى عشت معه أياما فى مكتبة الإسكندرية، وكان إسماعيل سراج الدين قد استضاف من الهند قيادة شعبية كبيرة وهو السيد «بانكر روى» خريج جامعة كمبريدج، وهو من عاد إلى الهند بعد تخرجه لتقيم له والدته حفلا يضم أكبر بنات عائلات نيودلهى، لعل واحدة من البنات تخلب لبه فيطلب من الأم خطبتها، خصوصا أن العائلة تنتمى لحزب المؤتمر الذى أسسه غاندى، وهى عائلة تملك قرى بأكملها، ويعمل لديها سكان تلك القرى، وحين سألته والدته عمن أعجبته من بنات العائلات، خصوصا أن الحزب سيرشحه فى الانتخابات، أجاب: «بانكر روى» بأنه لن يعيش فى العاصمة، بل سيعيش فى المنزل القروى المتسع الذى تملكه العائلة. وبطبيعة الحال اندهشت الأم من قرار الابن، وتمتمت بينها وبين نفسها: «لذلك كنت أرفض سفرك إلى إنجلترا كيلا تتمرد على تقاليد العائلة»، قبل «بانكر روى» جبين والدته وذهب إلى مجموعة القرى التى تملكها العائلة، ووجد قرية من تلك القرى تقع على قمة جبل، نعم تتسع قمة الجبل لتكون مكانا فسيحا تسكن فيه عائلات كثيرة، وطبعا وصل إلى القرية نبأ وصول الشاب الذى سيمثلهم بحكم عائلته فى المجلس النيابى، ولمن لا يعلم - وحسب رواية أستاذى الشاعر الراحل العظيم صلاح عبدالصبور - «ديمقراطية الهند تحترف شراء الأصوات أيضا، فمن يرشح نفسه يدفع لصاحب الصوت مبلغا يكفيه طوال مدة بقاء النائب عضوا بالبرلمان، ولذلك لا يثور الناس هناك على حكوماتهم أو أحزابهم».
وقرر «بانكر روى» أن يخوض تجربة مختلفة، بأن ينشر نوعا مختلفا من الديمقراطية التى لا تعتمد على شراء الأصوات، بل تنتج الطعام وتحقق درجة من الكفاية البسيطة التى تمنع التسول كطريق إلى البرلمان»، وحاول أن يستمع إلى مطالب أهل القرية، فنظر إليه واحد من عواجيزها ليحدثه بلسان اليأس: «سيدى أنت لن تختلف، عمن سبقوك إلى عضوية المجلس النيابى فلماذا ترهقنا بالسؤال عن مطالبنا؟ إنها مطالب معروفة لدى كل الحكومات عبر نصف قرن من الزمان، نحن نحتاج إلى مياه نظيفة ونحتاج إلى الكهرباء، والحكومات ترصد فى كل عام مبلغا من المال لا يكفى لبناء مواسير ومضخات ترفع المياه من أسفل الجبل إلى أعلاه، فضلا عن المبلغ الآخر الذى ترصده الحكومات لمد كابلات الكهرباء يكون أقل قدرة على توفير شراء المعدات اللازمة لتلك المهمة، وياليتهم يسمعون آراءنا قبل أن يقوموا بإعلان عجزهم وقبل أن تعود الأموال المرصودة لتطوير قريتنا مرة أخرى لخزانة الولاية التى نعيش فيها.
وجلس «بانكر روى» يستمع للعجوز الهندى الذى ابتسم قائلا: «العضو السابق للمجلس النيابى ضحك منى وظن أنى عجوز، حين قلت له: نحن نعيش على قمة جبل والمطر ينزل علينا ليملأ النهر الواقع أسفل القرية، فلماذا لا نصطاد نحن المطر المتساقط ونقوم بتخزينه فى خزانات أسفل البيوت، ويمكننا أن نستفيد من خبرة الصين فى اصطياد الشمس لتوليد الكهرباء، فقد سمعت من أحد أبناء القرية الذين سافروا إلى الصين أنهم يقومون بتوليد الكهرباء والمواقد المنزلية من الخلايا الشمسية الصغيرة والكبيرة التى يجيدون صناعتها.
وقرر «بانكر روى» أن يبدأ التجربة التى رواها العجوز الهندى فقام مع شباب القرية بتصميم خزان مائى، يوضع فى بطن الأرض تحت أى منزل، وأن يتم بناء سطح المنزل كما البيوت الإنجليزية التى ينزلق عليها المطر، شرط أن تكون حواف سطح المنزل قادرة على حجز المياه لتوصيلها عبر مواسير إلى الخزان الموجود أسفل المنزل، وجرب «بانكر روى» بناء مضخة صغيرة فى هذا المنزل التجريبى تعمل بالسولار ليرقب هل هى قادرة على رفع المياه من المياه المخزونة أم لا؟ ومن بعد ذلك سافر إلى الصين ليدرس كيفية صناعة الخلايا الضوئية التى تصطاد حرارة الشمس وتخزنها لتتولد منها الطاقة، وبعد عدة شهور عاد «بانكر روى» إلى القرية ليؤسس جامعة من نوع جديد اسمها «جامعة الحفاة»، وراح يجمع شباب القرية ليعلمهم كيفية تصميم خزانات مياه أسفل المنازل، ويعلم نساء القرية كيفية تصميم وصناعة وصيانة مواقد ومولدات تعتمد على الطاقة الشمسية، وقاد حزب المؤتمر فى العديد من القرى بناء تلك الجامعات الصغيرة التى ينضم إليها الفقراء كى يصنعوا مواقد الطاقة الشمسية ومولدات كهرباء قادرة على العمل ويمكنها أن ترفع المياه من الخزان الأرضى.
وطبعا صارت مجموعة القرى التى فوق الجبال تعيش مع الكهرباء التي تغذى الثلاجات وتنير المنازل، وصار فى كل بيت تليفزيون، وحدث كل ذلك بناء على فكرة تم تطبيقها بواسطة السياسى «بانكر روى» منذ أكثر من عشر سنوات.
ولا أنسى أنا كاتب هذه السطور كيف قفز رجل أعمال سكندرى شهير يملك - ضمن ما يملك - جامعة خاصة، وقال بتواضع ممتلئ بالفخر وادعاء امتلاك الوعى الاجتماعى»، وقال لصديقى إسماعيل سراج الدين أمين مكتبة الإسكندرية «يا د. إسماعيل قررت رصد عشرة ملايين دولار لتطبيق تلك الفكرة هنا بالإسكندرية»، حدث ذلك عام ,2006 وصار من التلقائى حين ألتقى أنا كاتب هذه السطور مع إسماعيل سراج الدين أن أسأله عن العشرة ملايين دولار، وهل وصلته لتؤسس المكتبة جامعة للفقراء لإنتاج مواقد شمسية وتساعد على توفير الكهرباء للمنازل الفقيرة، ودائما تقابلنى ابتسامة تسبق إجابة د. إسماعيل وهو يقول لى: «لا لم تصل العشرة ملايين دولار».
والأمر المؤكد أننى رويت تلك الحكاية لا تشبيها بوعود محمد فريد خميس، فهو من سبق له دون وعد مسبق وأن أرسل شيكا بمليون جنيه لـ «روزاليوسف»، ولكنى رويت الحكاية كى أدلل على أن رجال الأعمال لا يستطيعون حماية أنفسهم من التوتر الاجتماعى الزاعق، الذي سبق أن حدثنى عنه المليونير محمد فرغلى وكان ملقبا بملك القطن، فهو المضارب الأول والمشترى الأعظم لمحصول القطن فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وحين قامت ثورة يوليو قام جمال عبدالناصر بتأميم شركاته، وحدد له معاشا قدره مائة وخمسون جنيها شهريا، وطبعا باع الرجل سيارته الفارهة واستغنى عن العديد من خدمه واشترى سيارة نصر ألف ومائة، ولم يعد يضع القرنفلة البيضاء فى عروة الجاكيت، والتقيت به فى شتاء 1962 بصالة الشاى «بتى ترانيون» الواقعة بشارع سعد زغلول السكندرى، وكان يمسك بعجلة كاوتش، مصنوعة لمن أجروا جراحة البروستاتا كى يجلسوا عليها، وحين سألته: «هل تستطيع أن تحكى لى مشاعر وأحاسيس مليونير سابق»؟! ووافق الرجل على إجراء الحديث معى والذى بدأه قائلا: «لقد حذرت رجال الأعمال وأصحاب الثروات مطالبا إياهم أن يقوموا بخدمة مجتمعاتهم بما يزيد على خمسة وثلاثين بالمائة من أرباحهم السنوية، وظللت أنادى بذلك منذ عام ,1947 وحتى قامت ثورة يوليو، ودعنى أؤكد لك أنى لا أكره جمال عبدالناصر، فهو عندما أمم شركاتى كان يعلم أنى أسستها بعقلى وتفكيرى، وهو قد ترك لى رأسى فوق رقبتى وترك رقبتى بين كتفى، ويمكننى أن أفيد نفسى وغيرى مادام تواجد الرأس فوق الرقبة وبقيت الرقبة فوق الكتفين».
واستقبل أستاذى فتحى غانم هذا الحوار الصحفى بفرح كبير، وكان مشرفا عاما على تحرير «روزاليوسف»، وما أن نشر الحوار حتى اتصل بى المليونير محمد فرغلى ليزف لى أن الرئيس عبدالناصر قرأ حديثه معى وقام بتعيينه رئيسا لمجلس إدارة إحدى الشركات المشرفة على شراء محصول القطن وصناعاته المتعددة.
بقى أن أؤكد أن مصر فيها رجال أعمال محترمون استوعبوا ما قاله رجل الأعمال محمد فرغلى، وآخرون ليسوا كذلك، بل يتصرفون مثل ذلك الذى وعد بتأسيس جامعة مصرية للحفاة، تعلمهم صناعة المواقد الشمسية وتغنيهم عن دعم الطاقة، ولم يصل منها دولار واحد لمكتبة الإسكندرية حتى كتابة هذه السطور، ولم تستدع المكتبة بطبيعة الحال السيد «بانكر روى» ليؤسس مع المكتبة جامعة للحفاة، كى يتعلم عدد من المصريين ما يفيدهم».
ولكنى مازلت أنتظر وجود «بانكر روى» مصرى، وأثق أن عموم المصريين ينتظرون معى وجود هذا الصنف من السياسيين الذين يربطون العمل بالشعارات، فيتحرك الأمل فى القلوب.