الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الأوطان والاستيطان

الأوطان والاستيطان

الأوطان ملك مواطنيها.. وكل إنسان يحب وطنه من قلبه وبوجدانه حتى لو لم يصرح بهذا.. فالأوطان جزء من مكونات البشر الذين يعيشون فيها.. وينطبق هذا على كل مواطن يرى وطنه أحلى الأوطان.. يقول نزار قباني: وطنى يجاذبنى الهوى فى مهجتى.. هو جنتى هو مرتعى هو مسرحى.. آوى إليه وملء عينى غفوة.. هو من أحلق فوقه بجوانحى..  وطننا نزهة نيلية مع الأصدقاء والعائلة، و(كحكة عيد) منقوشة بعناية ومرشوش عليها سكر كثير، ورائحة شجر الكافور الكبير فى مدرستنا إبان شهر أكتوبر، ورحلة بالقطار داخل المدن ووسط الحقول الخضراء الممتدة التى تصل عند الأفق إلى حدود السماء، وشيش البلكونة الذى يسمح بدخول الهواء ولا يسمح بدخول شمسنا الصيفية الحارة، وأصدقاء الشقاوة، وذكريات الطفولة، وبيت العائلة، والمصيف والبحر والموج، ورائحة كتب المدرسة فى بداية العام الدراسى، وصوت برامج الصباح فى الراديو، وفرحة أغنية (الناجح يرفع إيده) فى نهاية كل عام دراسى، ودموع أغنية (ست الحبايب) فى عيد الأم حتى لو كانت والدتك حية ترزق.. وطننا أصوات لا يفهمها إلانا: صوت مغرفة بائع الكشرى التى لا لزوم لخبطها!! من يفهمها إلا نحن؟ 



وطننا ليس مجرد لغة، ولا حتى لهجة مصرية، بل كلمات وعبارات وأمثال شعبية وقفشات متجددة لها معان لا يفهمها سوانا.. نتشارك فى قول النكتة وفى فهمها والضحك بها وعليها.. ونستخدم مفردات عجيبة من لغات قديمة نطورها بطريقتنا على مدى أجيال لتصبح قاموسًا خاصًا بنا.. فلا (نتمعلش) إلا إذا قال لنا أحباؤنا (معلش).. وطننا هو كل ما نتشارك فيه – فقط لأننا مصريون.. 

وطننا ذكريات وصداقات وعائلات وأكلات ورحلات وأصوات وإشكاليات يمج بها وجداننا.. فنشتاق لأيام الطفولة حين نسمع تحية العلم وأصوات التلاميذ من المدرسة المجاورة يقولون: «تحيا جمهورية مصر العربية».. وحين نسافر خارج الوطن نتذكر هناك كل ما نفتقده من أكلات وثمار وخضار الوطن.. نتباهى أمام الأوروبيين بتعدد أنواع ما تنتجه أرضنا وأجواؤنا من خيرات.. وحين ينظرون إلينا ببعض الشكوك نستشهد بأسفار موسى من الكتاب المقدس وكيف غضب شعب إسرائيل على موسى النبى وهارون لأنهما أخرجوهم من مصر.. «ليتنا متنا بيد الرب فى أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع» (سفر الخروج 16: 3).. ونستشهد أيضاً من سفر العدد بأنواع أطعمتنا وثمار أرضنا.. «فعاد بنو إسرائيل أيضًا وبكوا وقالوا: «من يطعمنا لحما؟ قد تذكرنا السمك الذى كنا نأكله فى مصر مجانًا، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم.» (11: 4، 5).. وحين نعود لمصر بالطائرة ليلًا نرى القاهرة سجادة كبيرة منيرة أنيقة أقول لتلك السيدة الجالسة بجواري: هل ترين القاهرة؟ فتنبهر تلك السيدة الصينية وتتسع عيناها الضيقتان جدًا وتتأسف أنها هنا (ترانزيت) فقط.. فأنصحها بفخر أن تزورنا قريبًا لأن وطنى جميل فى عينى وقلبى.

لن أقول كما فى الأغانى أن وطنى أجمل الأوطان.. بل أقول أنه الأجمل عندى أنا كما أن لكل مواطن الحق فى تفضيل وطنه لنفسه.. فالوطن بالنسبة لأبنائه هو أرضهم وبيوتهم وعائلاتهم وتقاليدهم ووعاء ذكرياتهم والانتماء والهوية والتاريخ وشركة الألم والأمل مع مواطنيهم.. ونقل المواطن من وطنه وتغيير ديموجرافيا الأرض يسلب من المواطنين جذورهم المغروسة فى أوطانهم.. ولا يصلح أبدًا أن تنقل شعباً من أرضه لأرض أخرى لأى سبب مهما كان.

الاستيطان فى أرض غير الأوطان هو أكذوبة شريرة وفاسدة، ومؤامرة قاسية تنتقص من حق الشعوب فى هويتها وانتمائها لأراضيها وتاريخها وآمالها وآلامها.. إذ تظل الأوطان الأصلية هى الأوطان الحقيقية التى لا يوجد ما يعبر عن قيمتها أبلغ من هذا البيت الذى يختلفون على قائله: «بلادى وإن جارت عليّ عزيزة.. وقومى وإن ضنوا عليّ كرام».