الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رسالة الشرقاوى الأخيرة مازلــت أكتب.. وأفكر

رسالة الشرقاوى الأخيرة مازلــت أكتب.. وأفكر

من حسن حظى أننى التقيت فى رحلة الحياة بمجموعة من العباقرة فى كل الفنون جذبنى منهم هؤلاء الذين يجيدون فن الكلام.. وأحد هؤلاء العظام.. كان المخرج الكبير جلال الشرقاوى.. الذى سمعت اسمه للمرة الأولى وأنا طفل صغير كان يقوم بإخراج مسرحية «قصة الحى الغربى» لمجموعة من شباب الفن فى هذه الأيام، منهم عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبى وهادى الجيار والعم الجميل صلاح السعدنى، وكان العم صلاح يسحبنى معه إلى حيث البروفات فأجلس فى «الكالوس» أستمتع بكل ما يجرى أمامى ولفت انتباهى هذ ا الرجل الذى يتكلم بطريقة غير معهودة فهو هادئ يمط فى الحروف ويؤكد عليها وهى تخرج من حنجرته أو تلك التى تتشكل عند الشفاه ويواكب ذلك حركات من يديه تشير إلى كل ممثل بالحركة المطلوبة . وذات يوم فى البروفة الجنرال التى تسبق يوم الافتتاح، كنت مع العم صلاح أيضا أحضر من ذات المكان الأثير إلى قلبى.. وأنا أتابع هذه الكوكبة من الشباب الذى يبحث لنفسه عن مكان فى عالم الضوء وترك لهم جلال الشرقاوى مساحات لإبداعهم الخاص.. حتى جاء مشهد عادل إمام يركب مظاهرة فوق أكتاف أحدهم.. وهو يهتف: سامنت حكيما.. سامنت حتاتا.



 

ولا إحنا فاهمين.. أى حاجة!

ساعتها انطلقت ضحكات من النظارة فى الصالة وأعقبها من شخصى الضعيف صوت خرج دون قصد.. فإذا بأحدهم يضع يده على رأسى ويديرها للخلف.. وجدت أمامى عملاقا.. بصوت جهورى.. إنه المخرج.. يقول: أنت مين يا ولد وجاى هنا إزاى.. وانتبه العم صلاح للموقف فاقترب من الكالوس وهمس قائلا: يا عم جلال.. ده الواد أكرم ابن عم محمود السعدنى فخرجت منه ضحكات مجلجلة.. وقال: ده انت ابن حلال مصفى.. وتركت الشرقاوى.. ونزلت إلى الصالة لأستمتع برقصات فنانة لم أصدق أيامها أننى أقف أمامها، إنها الرائعة لبلبة التى كانت بطلة هذا العرض.. بالاشتراك مع حسن يوسف وكانت الرواية تنتقد الرئيس السادات بشدة، وحالة اللا حرب واللا سلم، وأكدب على حضراتكم لو قلت إننى كنت أدرك هذا الأمر وأنا طفل صغير، ولكنى استمعت إلى حوارات صلاح وعادل وسعيد وهم يحللون هذا العمل ويعددون قيمته وسر إقبال الناس عليه. ومنذ هذا التاريخ.. بدأت أتعرف على شخص الأستاذ جلال.. وانبهرت به وحرصت على متابعته وهو يقوم بعد ذلك بأربع سنوات وبعبقريته النادرة بإخراج المسرحية التى ستشهد نهاية جيل المهندس وعوض وهنيدى وتضع حاجزا بين مدرسة الريحانى والمدرسة الجديدة.. مدرسة المشاغبين.

وعلى الرغم من أن أحد فرسان الجيل القديم كان حاضرًا وبقوة.. فهو الوحيد الذى لم يتأثر بالريحانى.. وهو الأستاذ الكبير والفنان العبقرى عبدالمنعم مدبولى.. والذى أطلق عليه السعدنى الكبير «جحا المصرىوقد كان».. مدبولى يشهد الميلاد الجديد لهذا الجيل العبقرى، وهنا حدثت مشكلات كتب لها أن تنتهى برحيل الأستاذ مدبولى عن العمل، ولعلّى أذيع سرا إذا قلت إن مدبولى كان يقصد حرق إيفيهات عادل إمام وسعيد صالح، وكان عادل يكتم داخله إحساسه وغضبه.. ولكن طبيعة سعيد صالح كانت مختلفة، فقد خرج إلى الكواليس ذات يوم وكنت حاضرا حيث كنت كل يوم خميس وجمعة أرافق السعدنى صلاح إلى مسرح المتحدين فى شارع الشيخ ريحان.. فى هذا اليوم شاهدت سعيد صالح يهدد بأنه سوف يفعل «..» إذا تكرر من مدبولى ما يفعله على المسرح.. وهنا تدخل الشرقاوى.. فسعيد صالح يفعل ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يمنعه وما هدد به سعيد سوف يخلق مشكلة لا حدود لها، هنا قرر الشرقاوى أن يمضى السهرة مع سمير خفاجى صاحب ومدير فرقة الفنانين المتحدين، الذى صنع المستحيل من أجل أن ترى المشاغبين النور.. وسوف نأتى إلى هذه الوقائع بعد ذلك، المهم أن جلال الشرقاوى قال: إن هناك جيلا جديدا أكد أنه بالفعل حمل الراية وأن المسافات سوف تكون قاسية بينه وبين القديم، وهو ما ثبتت صحته بعد ذلك، وعليه فإن وجود الأستاذ مدبولى سيكون مثارا للخلاف بين القديم والجديد وعليه ينبغى أن نسند الدور إلى ممثل آخر.. وبالفعل جاء الفنان الجميل حسن مصطفى بدلاً من مدبولى الذى خرج من المتحدين وقدم نفس العمل فى السينما.. بعد أن استعان بنجوم آخرين تماما.. نور الشريف وسمير غانم وجورج سيدهم وسيد زيان.. فى محاولة لحرق المسرحية، ولكن النجاح الذى تحقق للعمل المسرحى لم يكن على بال أو خاطر أحد على الإطلاق سوى هذا العبقرى الذى توقع أن يحدث ثورة حقيقية فى عالم الكوميديا وأن نجوم العرض هم بالتأكيد نجوم الزمن القادم.

وقد كان الشرقاوى مدافعا عظيما عن الفنون من منطلق أن الفن وسيلة لتجميل الحياة وهو فى النادر القليل غداء للعقل وهو رسالة ينبغى أن تظل طليقة حرة بلا قيد أو رقيب اللهم إلا.. ضمير أصحاب الرسالة، ولذلك هاجم الشرقاوى «واحدة» لا داعى لذكرها.. ووقف كالأسد مدافعا عن عادل إمام وزملائه وهم يتعرضون لهجمة شرسة تحت مسمى ازدراء الأديان، ومن حظى الحسن أيضا أننى التقيت فى برنامج تليفزيونى مع الأستاذ الكبير ومجموعة من أهل الفن والقلم لندفع التهم عن أهل الفن. ويومها قلت إن هناك محاميا فرنسيا شهيرا اسمه «روشمون» ذهب إلى الجمعية الوطنية الفرنسية ونال من موليير وسبه ودعا إلى حرقه فى ميدان عام بعد أن عرض مسرحية «وليمة التمثال الحجرى» بحجة أنها أفسق ما قدم فى تاريخ المسرح فى العالم.

وأضفت أن رشمون ذهب إلى مزابل التاريخ، بينما بقى موليير علما عظيما وانتشر أثره وفنه فى أنحاء العالم وأحدثت أعماله موجات من التفاعل.. بعد نهاية الحلقة.. ودعانى إلى الاشتراك فى لجنة التحكيم فى المعهد العالى للفنون المسرحية فقلت إننى لا أصلح للحكم على أحد.. فقال العكس هو الصحيح، فأنا أرى رأيا محايدا لا يجامل..مطلوب وبشدة . وذهبت لأجد أساتذة كبارًا أسعدنى وجودى وسطهم.. الأفاضل سناء شافع وفهمى الخولى.. وبقدر ما أسعدنى وجودهم.. وتشجيعهم، إلا أن قلبى ارتفعت دقاته إلى السماء وأنا فى موقف لا أحسد عليه، فكيف لى أن أحكم على صغار الشباب وأكون إما بوابة العبور أو عقبة فى الطريق إلى النور.. وترددت وكدت أنسحب لولا أن الأستاذ بنظراته الثاقبة أمرنى بالاستمرار واستسلمت وأكملت العمل مع اللجنة.. واكتشفت وجود مواهب جديدة مع شدة الأسف جاءت فى موعد غير مناسب أصبح المسرح فى مصر بعافية لن يستطيع أحد فى مصر انتشاله منها إلا إذا تدخلت الدولة.

وظل الشرقاوى مخلصًا للعمل المسرحى فصنع ما يمليه عليه ضميره وقدره ومكانته من أجل رفعة المسرح المصرى والحفاظ على أن يظل مشعًا فكرًا وضوءًا وفنًا حتى جاءتنى منه رسالة بطريق الخطأ على الواتس آب منذ عدة أسابيع فاتصلت به لأطمئن فرد علىّ شخص لا أعرفه.. قال إن الرسالة جاءت بالخطأ.. وبعدها وبصوته النافذ من الأذن إلى القلب دون أى موانع استمعت إلى صوته للمرة الأخيرة يقول بالنص: صباح الفل.. أنا بخير والحمد لله.. وربنا مانن عليّا بالكثير من النعم.. مازلت أتحرك وأتكلم وأفكر.. وأكتب.. والحمد لله رب العالمين.. شكرا يا حبيبى.. شكرا يا أكرم. رحم الله أستاذنا المعلم الأكبر.. هادى ومرشد الجيل الجديد الذى أحدث أعظم ثورة فى عالم الكوميديا.. الجيل الذهبى الذى لم تستطع الأجيال المتعاقبة أن تنال منه أو تتخطاه أو تقترب من مكانته.