الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر والعندليب والسعدنى.. حليم كان جنديّا فى كل معارك مصر "الحلقة 7"

ناصر والعندليب والسعدنى.. حليم كان جنديّا فى كل معارك مصر "الحلقة 7"

يا سبحان الله؛ عاش عبدالحليم حافظ محرومًا من أطايب الطعام وهو فى صغره وطفولته ومُراهقته.. ثم عندما أنعَم عليه المولى بالنّعَم والشُّهرة والمال وعِشْق الناس له.. انضرب المعمل البشرى الذى لا مَثيل له صُنع الخالق عَزَّ وجَلَّ.. انضرب الكبد بفضل البَلبَطة فى الترعة.. واختار المرضُ هذا الفتَى الذى كان قاهرَ قلوب العذارَى ومَن جاورهن.. فى العام 1958 لم يَعد «العندليب» يعلم شيئًا عن «السَّعدَنى».. فقد اختفى خلف أسوار المعتقلات والسجون فى رحلة دامت 18 شهرًا بالتمام والكمال.. وقد ترك خلفَه أمّى ومعها «هالة»، وكنت فى هذه اللحظات مشروع بنى آدم فى بطن أمّى عليها رحمة الله..



 

وعندما كان «السَّعدَنى» فى المعتقل التقى بالنُّجَباء والعباقرة من فنانى مصر، ولكن الإنسان الوحيد الذى كنت أتمنى أن أقتربَ منه وأمضى معه أطول وقت فى رحلة الحياة هو عمّى صلاح حافظ، الذى اقترب فى مشوار حياته من مشوار «السَّعدَنى» ومعاناته، وكان يَعتبر نفسَه أيضًا وَلدًا شقيّا.. بل إنه فى أحد كتبه كتب إهداءً للسعدنى قال فيه: «إلى الوَلد الشقى.. من وَلد أشقَى منه».

كان صلاح حافظ يدرس الطب ومعهم أيضًا كان مهندسون ودكاترة جامعة وفنانون وأدباء.. أحدهم اختار من الملعقة راديو، ودائمًا ما كنت أسأل «السَّعدَنى» كيف أمكن للملعقة أن تتحول إلى راديو.. فكان يشرح لى تركيبة فيها أسلاك غريبة وعجيبة وبقايا من سوستة سرير.. كانت هناك محطة واحدة فقط يمكن الاستماع إليها حسب التساهيل، وذات يوم اجتمع المعتقلون والتفّوا حول هذه الملعقة.. منذ كانوا ينتظرون نشرة الأخبار بلهفة، بل يحرصون على الاستماع إلى صوت ناصر وهو يُجلجل فى هذه الفترة، ويخترق الحصونَ والقلاعَ والقصورَ ويُزلزل الأرضَ تحت أقدام هؤلاء الذين يسيرون فى رِكاب الغرب، ولكن الملعقة التقطت ذلك الصوت الذى جلس ليتسَلطن عليه العَم صلاح حافظ «الأصيل الذهبى انساب فى الأفق الحبيب.. رقصت فى ركبه السّاحر أطياف الغروب»، فكانت هذه هى كلمات الأغنية التى نقلتها الملعقة إلى هؤلاء الذين ابتعدوا عن الحضَر والمدر وأصبحوا يعيشون وسط الذئاب والسحالى والثعابين الطريشة والعقارب، ومع ذلك انتشلهم هذا الصوت وسرح بهم فى عالم الخيال الخصيب.

واكتشف «السَّعدَنى» أن الكلمات للشاعر الكبير عبدالرحمن الخميسى.. فضحك ضحكة من أعماق القلب، بل إنها استمرت فى العمق لتصل إلى أعمق من ذلك بكثير، وأعقبها شتومة فى «الخميسى»- أعز وأغلى أصدقاء العمر- فقد كان «السَّعدَنى» إذا أحَب أحدَ أصدقائه وأصبح له فى قلبه مكان عظيم «سَبَّه»، وهنا قال صلاح حافظ: يا سلام يا سعدنى لو معانا الجدع عبدالحليم ده كان خلانا نسينا «إللى إحنا فيه ده»، ويقول «السَّعدَنى»: عليّا الطلاق ما يستحمل ساعة واحدة هنا يا صلاح.. ويضيف «السَّعدَنى»: لو كان حظنا كويس كان الخميسى هو إللى بقَى وسطنا هنا. ويقول صلاح حافظ: ده صوت جديد تمامًا يا سعدنى.. أعتقد مافيش حد يقدر ينافسه، يعنى التنويعة بتاعة الزمن القديم.. تلاقى أكتر من نجم فى المغنَى دى مش ح تتكرر.. ويسألهم البعض عن السبب فيقول صلاح حافظ: ده صوت فيه كل المعانى واصلة للقمة.. ويضيف «السَّعدَنى»: ده صوت فيه عصير وحُزن الشعب المصرى كله من أيام عمّنا مينا لحد دلوقتى. ويخرج «السَّعدَنى» بعد انقضاء الـ18 شهرًا بلا جُرم ارتكبه.. ويلتقى «العندليب» من جديد ومعه كامل الشناوى، وبحضور إحسان عبدالقدوس.. ويتفقان على الذهاب للطبيب المشترك ياسين عبدالغفار.. ويطلب الطبيب تحاليل.. ويمضى الوقت ويذهب «السَّعدَنى» و«حليم» وكل واحد معاه تحاليله، وينتظر «السَّعدَنى» ليطمئن أولًا على الصديق الذى حمل لواء الطرَب فى عالمنا العربى.

كان «حليم» جنديّا فى معارك مصر كلها، ساهم فيها بروحه وجُهده وعَرقه وأحيا الليالى من أجل التواجُد، والمساهمة بأقصى مجهود ممكن، وبلغ «حليم» المنَى كله فأصبح أعظم سفير لمصر الثورة، مصر الحرية والاشتراكية والوحدة. كان «حليم» يحارب على جبهتَين.. الغناء والمرض.. كان المرضُ يأكل «حليم» من داخله.. ويصيبه بالإعياء القاتل ويتسبب له فى نزيف حاد عرَّض حياته للخطر وهو فى عنفوان الشباب، ولكن حُب «حليم» للحياة والتأثير فى العصر كله؛ كان هو الترياق الذى منحه قُبلة الحياة. وقال «السَّعدَنى»: شوف يا حليم.. إحنا اتحرمنا فى طفولتنا غصب عننا.. فمش معقول وبخاطرنا نحرم نفسنا لما بقَى معانا فلوس.. وبعدين المعدة هى بيت الانشكاح.. إذا أديت لها حاجة كويسة.. المزاج ح يبقى تمام. وضحك «العندليب».. ولكنه عندما سأل عن «هالة» وعنّى.. انتابه ألم حقيقى، فقد أصيبت «هالة» فى إحدى قدميها بالشلل بفضل طبيب معدوم الضمير.. كانت «هالة» قد أصيبت بوعكة صحية وهى لم تكمل من عمرها العامَين.. وذهبت بها أمّى إلى طبيب فى الجيزة بعد الكشف عليها، قال: دى حكاية بسيطة. وأعطى «هالة» حقنة، ولكن بعد الحقنة مباشرة لاحظت أمّى أن إحدى قدمَى «هالة» تتمرجَح بشكل عجيب.. فأخذتها من فوق سرير الكشف وأنزلتها.. فلم تستطع المشى، وصرخت أمّى صرخةً من القلب كانت كفيلة بهروب جميع السيدات اللاتى اصطحبن أولادهن للكشف عند الطبيب إيّاه.. وقالت له: الحقنة هى إللى عملت فى البنت كده.. فأكد لها أن الأمر بسيط ولا يوجد أى خطر، وطلب منها الهدوءَ والانتظار مع «هالة» فى الخارج مع بقية الزبائن حتى يحضر من الصيدلية حقنة أخرى للأعصاب، وخرج الطبيب فى ذلك اليوم من العام 1959 ولم يَعُد حتى هذه اللحظة، وحاول «السَّعدَنى» أن يجد لـ«هالة» علاجًا فى مصر، ولكنه أخفق فى كل محاولاته، وراسل عن طريق كل أحبابه وأصحابه جميع الأطباء الموجودين فى مستشفيات بريطانيا، حتى رسا الأمر على طبيب اسمه «دونالد بروكس»، ولكن الرجل قال إنه سيرى «هالة» بعد أن تكمل عامَها الخامس.. وفى العام 1963 بدأت رحلة العلاج.. وهى الرحلات التى استمرت لأكثر من عَقدين من الزمان حتى شاء المولى عَزّ وجَلّ أن تمشى «هالة» على قدمَيها فى لحظة من أكثر اللحظات التى وصفها «السَّعدَنى» فأحدثت رعشة فى النفس والبَدن معًا.. وقد كان «العندليب» فى رحلاته بحثًا عن العلاج يضع «هالة» فى عقله وقلبه.. يبحث فى كل مكان عن أحدث ما وصل إليه العِلم والطب فى علاج هذا المرض اللعين.