الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 ديل السمكة.. الذى لا تلتهمه القطط

ديل السمكة.. الذى لا تلتهمه القطط

كُل الذين تفرقت بهم السبل فى النهر والبحار لم يتشتّتوا كما يتبدّى للناظرين، لكنهم إلى حين قد فرّوا ذعرًا من سنارة، أو موتًا فى بطن حوت، أو جنوحًا لشاطئ آمن، أو وعدًا فى قلب محارة، ليسوا فقط أسماكًا لها ذيول ستأكلها القطط يومًا ما، لكنهم كل الناس الحيارى الطيبين المهمشين فى البلد، تلك الشخوص البديعة والواعية رغم بساطتها والتى تقطر ألسنتها فلسفة رغم بساطة إدراكها، وعافيةً رغم مرضها، وخفةَ ظلٍ رغم الحزن، وكرمًا رغم الفقر البادى فى السمت والهيأة وفى الشوارع القذرة والبيوت الرطبة، تلك الشخوص التى اتخذها «وحيد حامد» قماشةً ومكانًا وزمانًا لقصة فيلمه البديع (ديل السمكة)، والتى جعلها المخرج «سمير سيف» ومعه كاميرا مدير التصوير «أيمن أبو المكارم» يعيشون فى التناقض ما بين النور والظلام، فالبطلة  «نور الصباح، حنان ترك»، تعمل وتعيش وتظهر فى مشاهد ليلية مظلمة طوال أحداث الفيلم فيما عدا مشهدها الأخير الذى تم تصويره فى الصباح فى نور الصباح - انظر إلى دلالة الاسم - أما البطل «أحمد المرسى عويس، عمرو واكد»، والذى يعمل فى وظيفة كشاف نور ويحب بنت الحتة «نور الصباح» الهاربة فى ظلام الليالى حيث عملها الليلى فى نادى قمار بأحد الفنادق، البطل «اللى شغلانته كلها فى النور»، البطل الذى يصوب كشافه فى العدادات وفى الوجوه وفى الأقدار، وهو الشاعر الذى يردد طوال الفيلم بعضًا من رباعيات «صلاح جاهين»، الذى أهداه «وحيد حامد» الفيلم فى المقدمة كما أهدى «وحيد حامد» الفيلم فى النهاية لـ«محمد مسعد» صاحب مهنة كشاف الكهرباء والذى أوحى لـ«وحيد حامد» بقصة الفيلم، الذى عُرِضَ منذ 17عامًا بالتمام. لكنه وكأنه توقع السنين القادمات بتفاصيلها البسيطة والكبيسة رغم بساطة القصة التى تتلخص فى حكاية البطل الذى يبحث عن حبيبته «نور» الهاربة إلى الظلام. 



وكأن سبعة عشر عامًا لم تمر منذ العرض الأول للفيلم فى دور السينما فلا يزال السمك يهرب (بديله) من فم الحيتان أو يهرب من طُعم سنارة أو من فمٍ جائعٍ ينتظر من يلقى له بعد الأكل والمصمصة بـ«ديل السمكة» الذى تحبه القطط.  

كل صانعى فيلم (ديل السمكة)، المؤلف والأبطال والمخرج والمصور وموسيقى «عمار الشريعى» البديعة والشجية والمبهجة وأشعار «صلاح جاهين» - التى تصل ما بين المشهد والمشهد كتيمة متواترة، وتشرح المخبوء، إنهم كل الذين تفرقت بهم  السبل واختفوا من شوارع الفن المصرى موتًا أو ترحالًا أو اعتزالًا، قد غَيّبَتهم المياه والموجات والمقابر لكنهم لم يبرحوا مكانهم فى الذاكرة والقلب، تماما كشخوص الفيلم، فأنت لن تستطيع أن تسقط أحدهم من ذاكرة السينما وذاكرة البلد، لأنه الفيلم الذى جسد فكر ولغة «وحيد حامد» بامتياز، هو «المازورة» والمقياس والترمومتر، ربما وأنت تشاهد الفيلم للمرة الألف لن تستطيع أن تسقط من وعيك تلك الحِكمة التى يتفوه بها أبطال الفيلم خاصة فى الحوارات الثرية ما بين «عمرو واكد» و«عبدالرحمن أبو زهرة أو رءوف مصطفى أو محسنة توفيق أومحاسن الحلو أو سوسن بدر أو أحمد عقل أو سارى النجار»، كل هذه الأسماء جسَّدت الأدوار الفنية  شديدة الإنسانية - حتى الشريرة منها - التى يحب «وحيد حامد» الكتابة عنها، تلك الشخوص التى يلتقى بعضها فى الشوارع أو يستنطقها من حكايات الأصدقاء أو يستجلبها من الزائرين والعاملين ونزلاء الفندق العتيق الذى لم يبرح «وحيد» مقهاه حتى وفاته الأسبوع الماضى. 

ربما يحب «وحيد حامد» تكرار بعض الشخوص وتوظيفها فى أكثر من فيلم كشخصية «الشاذ» التى لعبها «رؤوف مصطفى» فى (ديل السمكة) وهى ذات الشخصية التى لعبها «خالد الصاوى» فى فيلم (عمارة يعقوبيان)، وتكرار أدوار الخادمة اللعوب فى كثير من أفلامه، وكذا صاحب القهوة ونزيل الفندق وجيران الحارة. إلا أنه يقابلنا وللمرة الأولى فى السينما المصرية ببطل يعمل «كشاف كهربا» الشخص الذى يدخل البيوت ويكشف أسرارها المخبوءة بضعفها ووحدتها وقهرها  فقيرة أو غنية، هو الكشاف الذى تستطيع أن تستبين منه كل الضوء والألق والنور والشعاع والصفاء الذى ألقى به «وحيد حامد» فى مسيرته الطويلة على شاشة السينما المظلمة.>