الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
أين هى عقولكم؟

أين هى عقولكم؟

صار سؤال القرن الواحد والعشرين هو: أين هى عقولكم؟ وهو سؤال للأفراد والمؤسسات، بل والدول أيضا على حد سواء!!



أين هى عقولكم؟ سؤال معنى بالتفكير الذى صار المحرك الأوحد لكل قوى العالم المعاصر.. فقد صارت القوة والسلطة والمال والجمال وغيرها من صور التفوق الإنسانى والدولى نتاجا مباشرا لإعمال العقل، والعقل فقط..

وصار السؤال عينه يسأل عن تواجد عقولنا فى منطقتين أساسيتين يعمل فيهما العقل البشرى كما جاء فى دراسة نفسية منذ حوالى عشر سنوات.. تقول الدراسة أن عقولنا تعمل فى منطقتين: الأولى هى التفكير السريع، والثانية هى التفكير البطىء.. وهما مساحتان مختلفتان تماما.. 

حدود المنطقة الأولى هى ما يقوم به العقل من نشاط إدراكى سريع يعتمد على الحواس وما تلتقطه وترسله إلى عقلك فيفكر ويستنتج منه أفكارا جزئية سريعة تساعدك فى اتخاذ قرار سريع ملائم.. مثلا حين ترى سيارة تسير بسرعة جنونية يستشعر عقلك الخطر، فتبتعد عن الطريق.. وحين ترى ملامح الغضب على رئيسك فى العمل تستنتج أنك لابد أن تتصرف بطريقة تحافظ على هدوء الموقف.. عقلك السريع يحسب العمليات الرياضية البسيطة فى معاملاتك النقدية اليومية، ويدرك احتياجاتك واحتياجات من حولك فى حالات الطوارئ والاحتياج للتصرف السريع.. ويرتبط عقلك السريع بذكائك الوجدانى وأيضا بقدراتك الجسدية والنفسية على التحرك السريع..

أما المساحة الثانية ألا وهى العقل البطىء فلا حدود لها.. قد تمتلك منها أفدنة وأفدنة بل ومدنا ودولا أيضا.. العقل البطىء هو العقل الباحث والناقد والمخترع والمبتكر والفنان والمبدع والمحلل.. وهو العقل الذى يتخصص فى مساحة ما هو خارج الصندوق.. هو العقل الذى يفكر بروية فى المشكلات.. يحلل المشكلة أو الحل، ويستنتج ما قد يكون خطأ ويستبعده، ويطور الصواب، ويحسب العمليات الحسابية المعقدة فيما يخص هذه المشكلة والحلول المطروحة لها.. ويبحث عن الخبرات القديمة ويسترشد بالأبحاث الجديدة، ويقارن بينها جميعا.. 

ولا يقف العقل البطىء عند هذه الدراسة البحثية الكبيرة، بل يعمل فى منطقة التخيل والإبداع للخروج من الصندوق – والصندوق هنا هو الأفكار الشائعة والحلول المعروفة والقوانين الطبيعية والتكنولوجية والحسابية الدارجة.. أما العقل البطىء الذى تم تدريبه بالدراسة – وبخاصة الدراسات الأدبية والفنية النقدية – على التخيل والإبداع فهو يخرج من الصندوق ومن المألوف.

على مستوى الأفراد يخطط عقلك البطىء ميزانية بيتك، ويجد حلولا لمشكلة المساحات غير المناسبة لأولادك فى المنزل، ويستحدث أفكارا لإجازات من نوع مختلف.. والأهم: يغوص عقلك البطىء فى أعماقك فيحلل لك أفكارك وتصرفاتك وميولك وعواطفك وجوارحك بل وعقدك النفسية أيضا.. ويعمل عقلك البطىء على رسم صورة معتقداتك وإيمانك، ويطور لك تعاطيك مع الأحداث ومع المستجدات بشكل كفء إذا كنت قد دربته على ذلك..

أما على مستوى المؤسسات والدول، تجد العقول البطيئة مجالسها فى دوائر صناع القرار ومستشاريهم المتخصصين الذين يتخصص ويتلخص عملهم فى الدراسة والتحليل والبحث وطرح الحلول المبتكرة.. وهو ما تهتم به المؤسسات المتطورة والدول الواعية والقادة المستنيرون.. إذ يعى هؤلاء أن العقل السريع له حدوده، والعقل البطىء له مساحته التى – كما قلنا – صارت المحرك الوحيد للقوى العالمية.. ويدرك هؤلاء أن تعليم النشء ينبغى أن يقوم على تدريب العقول البطيئة بطرح الموضوعات النقدية وحث الصغار على التخيل من ناحية والبحث والتحليل من ناحية أخرى.. كما يدركون أن دراسة النقد الفنى والأدبى تنتج عقولا تسبق الزمن.. وأن تخصيص أقسام ومجالس أصحاب الفكر تخطو بالمؤسسات والدول خطوات واسعة نحو المستقبل..

ولا أدل على ذلك من قول الشاعر الألمانى هاينريش هاين منذ ثلاثة قرون: «الفكر يسبق العمل كما يسبق البرق أصوات الرعد». الفكر الصادر عن العقل البطىء هو النور الذى يضيء مساحة آمنة للعمل والإنجاز.. أين هى عقولكم؟ هى عند البرق والنور.