شبح الحسد!

سامية صادق
يتحول الخوف من الحسد أحيانًا إلى مرض يدمر أعصاب الإنسان وحالته النفسية ببطء.. خصوصًا أن البعض يرجع أى فشل أو إخفاق أو مرض أصابه أو أصاب أسرته إلى الحسد.. وكأن الناس قد تركوا كل أشغالهم ومهامهم وتفرغوا لرصده وحسده.. حتى صار الكثيرون يرفعون شعار (دارى على شمعتك تقيد) للدرجة التى قد لا يجدون من يشاركهم فرحتهم بأى شىء.
الشقيقتان منذ ولادتهما وهما لم تفترقا.. فدائمًا معًا.. فى بيت واحد وغرفة واحدة ومدرسة واحدة وجامعة واحدة.. حتى حين تزوجتا.. سكنتا فى مدينة واحدة وبيتين متجاورين.. وظلت علاقة الشقيقتين ببعضهما تزداد قربًا وارتباطًا وعمقًا دون أى خلافات..فدائمًا عند بعضهما فى زيارات أو مع بعض فى الرحلات والمصايف.. وعلى الهاتف، وظل هذا الترابط الوطيد قائمًا. إلى أن تمت خطوبة ابنة إحدى الشقيقتين والتى لا تزال طالبة بليسانس الآداب.. بينما ابنة الأخت الأخرى التى تخرجت فى كلية الطب وتكبر ابنة خالتها بثلاث سنوات لم تُخطب بعد. وبدأت العلاقة الراسخة بين الشقيقتين يصيبها بعض التصدُّع والاهتزاز.. فشقيقتها التى تمت خطبة ابنتها لم تخبرها بالأمر من قبل ولم تدعها لحضور حفل الخطوبة.. رغم أنها كانت فى بيتها قبل إعلان الخطوبة بيوم.. ووجدت أختها مشغولة بتنظيف البيت بجدية واهتمام.. وتلميع الأثاث.. وإخراج الأطقم الصينى.. وكاسات العصائر الأنيقة التى لا تستخدمها سوى فى المناسبات.. وتجهيز الأطعمة لليوم التالى.. حتى إنها ساعدتها هى وابنتها الطبيبة فى هذه التجهيزات.. ولاحظت أن شقيقتها تعد أصنافًا وألوانًا من المأكولات.. فتوقعت أن تكون لديها عزومة تستعد لها.. وحين سألتها.. أخبرتها أن أقارب زوجها سيحضرون من المنصورة غدًا على الغداء. وبالطبع صدَّقتها فهى لم تكذب عليها من قبل.. وفى اليوم التالى تسمع الشقيقة زغاريد منطلقة من العمارة المجاورة لها والتى تسكنها أختها.. وبالطبع ظنت أن هناك فتاة من سكان المنزل نجحت أو خطبت.. وتتكرر الزغاريد.. فتطل من الشرفة محاولة أن تعرف مصدر الزغاريد.. فتشاهد ابن شقيقتها يقف أمام بوابة عمارتهم ويستقبل شابًا ينزل من سيارة يرتدى بدلة ويحمل فى يده باقة ورد.. وبصحبته رجل وسيدة يبدو أنهما والداه.. لكنها لم تستوعب ما تراه.. هل من المعقول أن الزغاريد تخص أختها؟!.. وأن ابنتها ستخطب دون أن تخبرها.. بالرغم من وجودهما معها هى وابنتها حتى منتصف ليلة أمس ومساعدتها فى تجهيز الطعام لضيوف زوجها القادمين من المنصورة؟! فتفكر أن تتصل بشقيقتها لتستطلع الأمر لكنها تتراجع.. فكرامتها لن تسمح لها بهذا التطفل طالما أنها لم تبادر وتخبرها.. فتنادى ابنتها الطبيبة وتسألها لو كانت ابنة خالتها قد أخبرتها بشيء عن خطوبة أو شخص يتقدم لها.. لكن الابنة تؤكد أن ابنة خالتها لم تخبرها بشيء. وتتساءل فى حيرة: لماذا فعلت أختى ذلك؟ لماذا تستبعدنى ولا تجعلنى أشاركها فرحتها بابنتها والتى أعتبرها مثل ابنتى تمامًا؟!.. وتنزعج الابنة الطبيبة من حال والدتها.. وتهون عليها الأمر وتطلب منها أن تعذر خالتها وأنهما لا تعلمان ظروفها. وتندهش الأم من براءة ابنتها ونقائها.. أنها لم تغضب من خالتها أو تحقد عليها.. بالرغم أنها المقصودة بهذا التجاهل وأن خالتها (تدارى على شمعتها) لأن ابنتها أكبر من ابنة شقيقتها ولم تخطب بعد.. وظنت أنها لو دعتها فى خطوبة ابنتها لحسدتها وحقدت عليها.. ونسيت أنها طبيبة وجميلة ومميزة ويأتيها الكثير من الخطاب لكنها تؤجل الزواج إلى حين حصولها على الماجستير. لم تستطع الشقيقة أن تلتمس أعذارًا لشقيقتها.. فلا يوجد أى مبرر لما فعلته سوى الخوف من الحسد. والمدهش أنها تتلقى مكالمة ليلية من شقيقتها تخبرها أن خطوبة ابنتها تمت بسرعة وفجأة ولم يمهلها الوقت لتدعوها.. لكنها تغلق التليفون فى وجهها.. وتقرر ألا تحدثها مرة أخرى.. وألا تدعوها فى أى مناسبة تخصها وتخص أسرتها.. فالأخت التى تخاف أن تحسدها أختها وتتعمد إبعادها من أفراحها لا تستحق الأخوة.. الأخت التى تشكك فى مشاعر أختها تجاهها وتجاه أبنائها لا تستحق أن تبقى عليها.. فالأخوة مشاركة وسند ومحبة.. والأخت الحقيقية هى من تستقوى بأختها وتعتبرها سندًا حقيقيًا لها وتحرص على توطيد علاقتها بها دائمًا.. ومشاركتها فى أفراحها وأحزانها.. والمدهش أن الابنة الطبيبة لم تقطع علاقتها بخالتها أو ابنتها حتى أنها تذهب مع ابنة خالتها لشراء مستلزمات الفرح. عين الحسود حين مرض الأخ الأكبر وأرادت والدته وأشقاؤه زيارته للاطمئنان عليه.. فوجئوا أن أخاهم غير عنوانه دون أن يخبرهم من قبل!! لقد انتقل من شقته بمدينة أكتوبر إلى فيللا بالشيخ زايد.. دون أن يسمعوا شيئًا بشأن هذه الفيللا من قبل رغم أنهم يرونه باستمرار فى تجمعهم الأسبوعى عند والدتهم.. والمدهش أن أخاهم ظل يبنى ويؤسس فيللته عامًا كاملًا دون أن يخبر أحدًا منهم ولا حتى والدته بأنه اشترى أرضًا ويبنى فيللا.. وكانت دهشة الأم كبيرة من موقفه.. فكيف ينتقل ابنها من بيت لآخر دون أن يخبرها أو يدعوها لتشاهد بيته الجديد ودون أن يخبر أشقاءه وشقيقاته.. ولَماذا فعل ذلك؟ وبعد أن تعافى الابن من مرضه...تلومه الأم وتعاتبه على فعلته.. فكيف ينتقل إلى سكن جديد دون أن يخبرها أو يخبرهم؟! ويصارحها الابن.. إنها رغبة زوجته؟ التى ظلت ترجوه وتلح عليه ألا يعرف أحد من أهله أو أهلها أى شىء بخصوص الفيللا لحين الانتقال إليها. فتقول الأم وهى تقاطعه: زوجتك تخاف أن نحسدك.. لقد جنت كيف تعتقد أن أمًا ممكن أن تحسد ابنها.. أو أن هناك من يتمنى لك الخير أكثر من إخوتك.. يزفر الابن تنهداته قائلا: نعم إنها تخاف من الحسد من كل شيء حولنا.. حتى إن البخور والخرز الأزرق والتعاويذ صارت جزءًا لا يتجزأ من أثاث البيت.. تقول الأم وهى تهز رأسها دهشة: هل تعلم أن زوجتك هى أكثر واحدة تحسد.. وعينها وحشة.. وقد لا حظنا جميعا ذلك.. أتذكر أنها فى مرة قد تحسست بأناملها عقدًا أرتديه برقبتى.. فانفرط العقد وتناثرت حباته بلا سبب.. ومرة أخرى حين اشتريت موبايل ونظرت تجاهه وسألت متى اشتريته؟ سقط على الأرض فورا وكسرت شاشته.. وحين زارت أختك فى شقتها ونظرت تجاه شاشة التليفزيون الكبيرة وقالت إنها لأَول مرة تشاهد شاشة بهذا الحجم.. انطفئ التليفزيون فجأة ولم يعمل مرة أخرى.. وغير ذلك من مواقف متعددة تؤكد أن عينيها حاسدة بالفعل. ورغم ذلك لم نمنعها من دخول بيوتنا ولم نخبئ عنك وعنها أى شيء.. وكثيرًا ما نحاول أن نجد مبررات وتفسيرات لما يحدث للأشياء فى وجودها غير الحسد والعين. والعجيب أنها هى من تخشى عيوننا وتحرضك أن تخفى علينا حتى لا نحسدك؟!! يقول الابن وقد تعب من فوبيا الحسد التى تصيب زوجته. إنها لا تفعل ذلك معكم فقط.. فهى تخشى عيون أهلها أيضا.. حتى إن ابنة خالتها التى تعيش فى السعودية من عشرين عاما حين أرادت زيارتنا.. رفضت زوجتى أن تقابلها فى الفيللا الجديدة وتعمدت أن تقابلها فى شقتنا القديمة وأوهمتها أنها مازالت تعيش فيها.. وخاصة أن الشقة كما هى ولم ننقل منها أى أثاث.. إن زوجتى تخشى من عين ابنة عمتها الطبيبة الغنية!! وأى شىء يحدث لنا ولأبنائنا من مرض.. من فشل، من معوقات ترجعه للحسد فورا.. دون أَن تبحث عن الأسباب الحقيقية وراءه.. وكأن الحسد هو من يحرك الكون!! ودائما ما تردد إحنا(محسودين) (مبصوص لنا فى كل شىء) (نجمنا خفيف) (عيون الناس وحشة) (ربنا يكفينا شر العين).. فلا توجد عبارة ترددها زوجتى تخلو من مصطلح عن الحسد. حتى إنها لم ترحب بأى شخص يزورنا فى فيللتنا خشية الحسد.. وبسببها لم أستطع أن أشرك أهلى وأصدقائى فرحتى بأى إنجاز أحققه فى حياتى ليشاركونى فرحتى. فلدىّ حديقة كبيرة وحمام سباحة وروف مجهز.. تمنيت لو دعوت فيه الأهل والأصدقاء..على غداء أو عشاء أو حفل إفطار رمضانى.. لكنها دائمًا ترفض ذلك خوفًا من العين والحسد حتى صارت فيللتنا الجديدة كالسجن.. نعيش فيها أنا وهى وابننا فقط.. وغير مسموح لأى فرد بتخطى أسوارها مهما كانت درجة قرابته منى أو منها.إن هاجس الحسد صار يتحكم فى زوجتى ويحركها حتى أفسدت حياتَنا الاجتماعية وحرمتنا مشاركة الآخرين.. ومن دفء الأهل والأصدقاء.