شبح الانهيار يهدد البورصات العالمية

يبدو أن العالم يحتاج لفترة طويلة كى يتخلص من مقولة «إذا عطس الاقتصاد الأمريكى أصيب اقتصاد العالم بالزكام»، إذ إن أى اهتزاز فى الاقتصاد الأمريكى من شأنه أن يتسبب فى أزمة اقتصادية أو مالية عالمية وآخر مثال كان أزمة 2008، والآن ومنذ أن دخل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب البيت الأبيض، صارت إصابة الاقتصاد العالمى أسرع وأصبحت كل تغريدة لترامب على تويتر قادرة على زلزلة بورصات العالم واقتصاده.
تمثل الإجرءات التى يتخذها الرئيس دونالد ترامب فى سياق الحرب التجارية مع الصين، أحد أهم الأسباب التى تؤدى إلى اهتزاز الأسواق المالية، إذ كبدت هذه الإجراءات أسواق المال العالمية خسائر فادحة، كان آخرها ما حدث فى وول ستريت والبورصات العالمية قبل أسبوعين، بعدما تحملت البورصات خسائر بأكثر من 1.5 تريليون دولار، عقب تعهد ترامب برفع الرسوم الجمركية من 10 % إلى 25 % على سلع صينية تصل قيمتها 200 مليار دولارسنويا، وهو القرار الذى يعد مؤشرا على انهيار المباحثات التجارية التى تجرى منذ شهور بين أكبر اقتصادين فى العالم.
وقادت الخسائر مؤشرات الأسهم الأمريكية، حيث فقدت الثلاثة مؤشرات الرئيسية فى وول ستريت « داوجونز وناسداك وستاندر اند بورز»، خسائر يومية بنحو2 %، فيما سجلت الأسهم الأوروبية خسائرأقل حدة، بينما منيت الأسهم الأسيوية خاصة الأسهم اليابانية بخسائر مماثلة للخسائر الأمريكية.
أزمات متلاحقة
ولم تكن هذه الخسائر هى الأولى التى تتكبدها البورصات العالمية، حيث إنها تمر منذ سنوات بأزمات متلاحقة، ففى ديسمبر الماضى شهدت الأسواق العالمية، حالة ركود هى الأسوأ منذ الكساد العظيم مطلع ثلاثينيات القرن الماضى، مما عزز المخاوف من احتمال انهيار سوق الأسهم فى عام 2019، لاسيما فى ظل عدم اكتراث ترامب بسوق الأسهم.
سبقت هذه الموجة أخرى وُقعت بداية فبراير من العام الماضى،حيث تراجعت بورصات نيويورك وطوكيو وهونج كونج، تراجعا حادا، فقدت خلالها المؤشرات الأمريكية نحو 4.5 % من قيمتها السوقية، وذلك نتيجة تخوف المستثمرين من تراجع الاقتصاد الأمريكى تحت وطأة تبنى سياسة رفع سعر الفائدة من جانب الاحتياطى الفيدرالى.
وبالرغم من النظرة التشاؤمية التى تغلب على أسواق الأسهم حاليا، فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن هناك انهيارا وشيكا فى سوق الأسهم، فى المنظور القريب على الأقل، وفقا لآراء بعض المحللين، وذلك على الرغم من وجود بعض المؤشرات القوية التى تستحضر شبح الانهيار وتستدعى الاستعداد لما هو أسوأ على الأرجح.
الحرب التجارية
وتعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وهما أكبر اقتصادين فى العالم، أقوى هذه المؤشرات على الإطلاق، حيث إن فشل المفاوضات بين البلدين، ينذر بفشل المفاوضات التى من المقرر أن تخوضها الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبى أيضا، وهو ما يعنى أن العالم دخل مجددا عصر الحمائية التجارية والتى كانت أهم ظواهر الكساد العظيم فى الثلاثينيات من القرن الماضى.
كما يهدد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى الأسواق المالية العالمية، وبالرغم من أن أحدا لا يعرف حتى الآن كيف سيكون ذلك، فإن حالة عدم اليقين تبقى سيد الموقف فيما يتعلق بالعملات والأسواق المالية على وجه التحديد.
ويضاف إلى ذلك، سياسة رفع مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، لسعر الفائدة، والذى يواجه بانتقادات لاذعة من جانب الرئيس دونالد ترامب، وتؤثر معدلات سعر الفائدة الأمريكية تأثيرا كبيرا على أسواق الأسهم وأسعار الذهب، وذلك بجانب تأيرها على سياسات جميع البنوك المركزية فى العالم.
الأزمة المالية باقية
يؤكد معظم الخبراء الاقتصاديين فى العالم أن تداعيات الأزمة المالية العالمية التى اندلعت فى عام 2008، عقب انهيار مصرف «ليمان براذرز»، نتيجة أزمة الرهون العقارية فى الولايات المتحدة، لا تزال قائمة وتلقى بظلالها على المشهد الاقتصادى العالمى حتى اليوم، معتبرين أن موجات الهبوط التى تضرب بالبورصات العالمية من وقت لآخر، ما هى إلا مجرد تداعيات لهذه الأزمة التى لم تعالج بشكل صحيح من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما والحكومات الغربية.
ويرجع الخبراء هذا الأمر إلى المعالجة الخاطئة التى اتبعها أوباما حينها، والتى اعتمدت على التوسع فى زيادة الإنفاق بشكل خيالى لإنقاذ البنوك المتعثرة دون النظر للعواقب، بما أدى إلى تراكم الديون العالمية التى تتعدى قيمتها الآن أكثر من 160 تريليون دولار وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولى.
وتعد الأزمة المالية العالمية فى 2008، هى السبب الرئيسى فى ظهور ما يسمى اليمين المتطرف فى أوروبا والولايات المتحدة، والذى يسعى أن يقود منهجه الاقتصادى والسياسى العالم، المنهج الذى يقوم على فرض نظام الحمائية الاقتصادية وهو النظام الذى إن نجح فى تنفيذه دونالد ترامب يعنى انهيار منظومة التجارة العالمية.
البورصة الصينية
كان الانهيار الجزئى الذى شهدته البورصة الصينية فى يونيو عام 2015، بمثابة شبح لانهيار ضخم ينتظر الأسواق العالمية، حيث أدى هذا الانهيار لخسائر فى السوق بـنحو 2 تريليون بعدما تراجعت مؤشرات البورصة بنحو 32 % فى أقل من شهر، قبل أن تتدارك السلطات الصينية هذه الأزمة.
وللمفارقة فقد جاء الانهيار بعد عام من المكاسب القوية للبورصة الصينية، تلك المكاسب التى لا تعكس الصورة الحقيقية للاقتصاد، حيث كان الاقتصاد الصينى قد دخل فى مرحلة الانكماش لأول مرة منذ 25 عامًا.
ولعل أهم أسباب هذه الأزمة، جاء نتيجة أن ارتفاع معدل الاستثمار بالأموال المقترضة فى البورصة الصينية، من جانب صغار المستثمرين الذين توسعوا فى الاقتراض بهدف الاستثمار فى سوق الأسهم.
هذا الوضع الذى يشبه كثيرًا الحالة، التى سادت فى الولايات المتحدة عام 2007، عندما انتشرت الاستثمارات المالية السيئة والمحفوفة بالمخاطر، وزاد معدل الاقتراض لشراء المساكن من دون ضمانات وهو ما أدى فى النهاية لاندلاع الأزمة المالية العالمية.
وكانت هناك أوجه شبه عديدة بين أزمة البورصة الصينية، وبين الخميس الأسود وانهيار وول ستريت فى 29 أكتوبر 1929 فى الولايات المتحدة من حيث الأسباب والظواهر، فقد أغُرقت سوق الأسهم الصينية ما بين يونيو 2014 إلى يونيو 2015 بالأموال المقترضة، وهو ما ساعد على رفع أسعار الأسهم بزيادة 150 % خلال تلك الفترة.
وهو نفس ما حدث فى عام 1929؛ حيث كانت البنوك الأمريكية قد سهلت شروط الاستدانة للأفراد وشجعتهم على استثمار هذه الأموال فى البورصة ؛ مما دفع مؤشرات البورصة للارتفاع بنسب كبيرة، فيما كان الاقتصاد الأمريكى فى حالة تراجع.
أزمة الديون
تعد أزمة الديون العالمية من أكثر الأزمات التى تمثل تهديدا لانهيار الأسواق المالية، وظهرت هذه الأزمة بجلاء فى أوروبا، عندما ظهرت أزمة الدين الحكومى اليونانى عام 2010، وهى الأزمة التى كادت أن تجعل اليونان تعلن إفلاسها، لولا تقديم الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد الدولى قروضا لليونان بموجب خطة إنقاذ.
ورغم المساعدات التى حصلت عليها العديد من الدول الأوروبية المتعثرة، فلا تزال أزمة الديون الضخمة التى تعانى منها كل من اليونان وأيرلندا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، بمثابة تهديد خطير لمنظومة الاقتصاد الدولى والبورصات العالمية.
ولا تقتصر الأزمة على البلدان الأوروبية بل تشمل الولايات المتحدة والصين أيضا، حيث أن الديون الأمريكية تخطت هى الأخرى معدلات غير مسبوقة، حيث تصل الديون الحكومية أكثر من 20 تريليون دولار، فيما تبلغ ديون الشركات والمؤسسات والأسر نحو 40 تريليون دولار.
بينما تصل الديون الصينية، إلى نحو 30 تريليون دولار وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولى، بينما تشير الحكومة الصينية أن ديونها أقل من ذلك الرقم.
تاريخ يعيد نفسه
أكد عدد من الخبراء المهتمين بسوق المال الأمريكية، أن سوق وول ستريت تمتلك حاليا نفس الأسباب التى أدت إلى ذلك الانهيار فى الثلاثينيات من القرن الماضى.
وذلك لأن الولايات المتحدة، لديها الآن نفس المواطن المستهلك والمدان لقمة رأسه بقروض مدعمة، والذى لا يستطيع سداد ذلك الدين؛ مشيرين إلى أن أزمة الدين العقارى دليل على ذلك، وهو ما يشبه الحالة التى كان المواطن عليها فى العشرينيات من القرن العشرين قبل وقوع الأزمة.
بجانب ذلك فإنه خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، عقب انتعاش الثقة فى السوق الحرة وعودة التفاؤل، أدى ذلك إلى النظر لكثير من القواعد، التى وضعها الرئيس فرانكلين روزفلت فى الثلاثينيات، لتجنب وقوع الأزمة مرة أخرى، على أنها أصبحت قواعد قديمة ليتم الاستغناء عنها فى النهاية وتصبح السوق بلا رقابة من الدولة فى الوقت الراهن.
كما أن السوق غير المراقبة سمحت مرة أخرى لسياسة المضاربات بالنمو دون رقابة، وهو ما أدى إلى أن السوق تعانى الآن من عواقب وخيمة بسبب رفع الرقابة الحكومية؛ لذلك فالأمريكان يقفون فى نفس الموقف الذى كان عليه أسلافهم عام 1929 عندما أغمضت الحكومة عينيها عما كان يحدث فى العالم المالى.
فى كل الأحوال فشيوع المضاربات فى أسواق المال؛ لا يتبعها سوى الانهيارات ؛ حيث تجعل المضاربات أسواق البورصة أشبه بصالات القمار، والتى دائما ما يخسر فيها الهواة والمبتدئون الذين تغويهم المكاسب السريعة، فيما يربح فيها الانتهازيون والمحترفون الذين يجيدون هذه اللعبة جيدا.
فى النهاية مع كل هذه الأزمات التى تحيط بالنظام الاقتصادى العالمى، فإنه من المنتظر أن نشهد من وقت لآخر موجة انهيار جديدة لسوق الأسهم، لكن المهم ألا تتحول هذه الأزمة إلى حالة كساد تعود بالعالم لحقبة تاريخية سوداء لم يشهد مثلها فى العصر الحديث.