الأحد 11 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الاحتجاجات الأوروبية.. أسباب خلف الكواليس

الاحتجاجات الأوروبية.. أسباب خلف الكواليس
الاحتجاجات الأوروبية.. أسباب خلف الكواليس


ظهر جليًا لكل من تابع تظاهرات «السترات الصفراء»، أن السبب الرئيسى للاحتجاجات التى شهدتها بعض الدول الأوروبية، هو حالة المعاناة الاقتصادية التى يتعرض لها بعض سكان الاتحاد الأوروبى، الذين لا يتحملون غلاء المعيشة.. وفى الوقت الذى تكون فيه تلك الأسباب حقيقية بالفعل، فإنه من السهل على بعض الحكومات الأخرى استغلال تلك الثغرات لتنفيذ استراتيجية معينة، لخدمة مصالحها الشخصية.
أحد أصابع الاتهام- فيما يخص احتجاجات أوروبا- تشير إلى (الولايات المتحدة)، بأنها قد تكون وراء ما يحدث من عمليات شغب، وتأجيج للأوضاع المشتعلة أساسًا هناك.. وهنا يجب الإشارة إلى أنه ليس من الضرورى أن يكون الحليفان القديمان قد انقلبا على بعضهما، لكن المصالح القومية الخاصة بكل طرف قد تكون اختلفت، مما يثير بعض التوترات بين الطرفين، خاصة إن كانت تلك المصالح هى «المصالح الاقتصادية»!!
من المعروف أن الاقتصاد هو محرك أساسى للوضع السياسى، كما أنه يعد أداة للتحكم وفرض السيطرة..ونظرًا لأن الجبهتين (أوروبا، وأمريكا) قوتان اقتصاديتان، فإن سياساتهما الخارجية دائمًا ما كانت مشورة بينهما. ولكن يبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة تطمح فى استراتيجية معينة، لا تناسب الاتحاد الأوروبى، الذى حاول خلال السنوات القليلة الماضية تنويع حركة سوقه، ليس بعيدًا عن (الولايات المتحدة)، وإنما عن طريق إدخال بعض المنافسين الجدد بجانبها، وعلى رأسهم (روسيا)، مما أثار حفيظة الرأسماليين الأمريكيين، خاصة بعد أن صارت المنافسة على سوق الطاقة (الغاز، والنفط)، وهما السلعتان القادرتان على إشعال حروب، وليس أسواق فقط. وعليه انتبه صناع القرار الأمريكى فى منتصف هذا العقد، إلى حركة السوق الأوروبية المتغيرة.. مما جعلهم ينتفضون لدراسة الوضع الأوروبى تفصيليًا، ووضع استراتيجية تطمح للسيطرة على أغلب حركة سوق التجارة الأوروبية لصالحهم..ففى عام 2015 نشرت (واشنطن) تقرير أعده كبار متخصصى صناعة القرار الأمريكى، أوضحوا فيه بشكل معلن، وبين السطور أيضًا، طريقة التعامل مع تلك الأوضاع بحنكة شديدة، تشبه فى تنفيذها ما يحدث الآن على الساحة الأوروبية.
وقبل البدء فى عرض أسباب الاحتجاجات الأوروبية الموجودة خلف الكواليس، يجب الإشارة إلى ما كتبه التقرير، بأن: «(الولايات المتحدة) تركز على (أوروبا)، نظرًا لإمكانات الطاقة هناك، وموقعها على المحيط الأطلسى. فيمكن للولايات المتحدة أن تستخدمها، لتذهب إلى ما هو أبعد من (أوروبا)، مثل: الحروب فى (أفغانستان، والعراق). لذلك فإن الشراكة الأمريكية مع الاتحاد الأوروبى، ليست عملًا تطوعيًا وديًا من جانب الولايات المتحدة، لكنها خدمة للصالح (الولايات المتحدة) نفسها».
>أزمة الطاقة بين الاتحاد الأوروبى والإدارة الأمريكية
يبدو أن أكثر ما يربك الإدارة الأمريكية، ليس تنوع السوق الأوروبية فحسب، إنما وجود منافسين لا تقدر على السيطرة عليهم، مثل (روسيا، إيران، والصين). لهذا فإن هدف التخلص من هؤلاء تحديدًا ذو أولوية قصوى.
>الغاز الطبيعى
يعتمد الاتحاد الأوروبى على (روسيا) بحوالى 30 ٪ من واردات الغاز الطبيعى للاستهلاك المحلى فى أشهر الشتاء. كما يصل حوالى نصف صادرات الغاز الروسى إلى (أوروبا)..وهنا تكمن أزمة (واشنطن)، التى تطمح باستبدال اعتماد (أوروبا) على الغاز الروسى، بالغاز الطبيعى المسال الأمريكى، لتصبح (الولايات المتحدة) بعدها، أكبر منتج، ومصدر للغاز الطبيعى فى العالم، بل سيصبح عندها الغاز الطبيعى المسال، هو النمط المهيمن لنقل الوقود.
وذكر تقرير (واشنطن)، أنه فى عامى 2013، و2014، استورد الاتحاد الأوروبى حوالى 161 مليار متر مكعب، و147 مليار متر مكعب من الغاز من شركة «غازبروم»الروسية، التى تكاد تحتكر السوق الأوروبية، وهى شركة تعد أكبر شركة استخراج للغاز الطبيعى فى العالم، ومقرها (موسكو). كما أن كل من (ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا)، لا تشعر بتهديد من جانب (روسيا) فى إمدادات الغاز الطبيعى. ولكن المحللين انتبهوا إلى عملية النقل، والتى تتم عن طريق خط الأنابيب عبر (أوكرانيا). ومن ثم كتبوا بعدها: «هذا عامل يجعل (أوروبا) غير آمنة كمستورد للطاقة من (روسيا)، التى تعتمد بشكل كبير على طريق تصدير واحد، وهو ما يجعلها ثغرة»، مستشهدة بعمليات قطع الغاز عن أوكرانيا، التى قامت بها شركة «غازبروم» فى عامى 2006، و2009، والتى أدت بدورها إلى قطع إمدادات الغاز عن ستة من دول الاتحاد الأوروبى.
فبعيدًا عن المظاهرات، من الضرورى التساؤل، إن كان من الطبيعى أن تشتد الأزمة بين (روسيا، واوكرانيا)، فى يوم 25 نوفمبر الماضى، أى بعد ثمانية أيام من الاحتجاجات الأوروبية؟. ورغم عدم معرفة يقينًا من منهما مشعل فتيل الأزمة الجديدة، إلا أنه من المعروف أن «البيت الأبيض» أعلن مرارًا مساندته، لـ(كييف) ودعمه الكامل لها فى مواجهة الدب الروسى، بهدف تأجيج الأوضاع، واستمرار الأزمة بين البلدين. فقد أحسنت الإدارة الأمريكية استغلال الأزمة، تزامنًا مع احتجاجات (أوروبا)، وضرب عصفورين بحجر واحد. ويذكر فكرة دعم (أوكرانيا) كانت هدف الإدارة الأمريكية، للوقوف أمام التوغل الروسى فى المسرح السياسى الدولى منذ فترة. وهو ما نشرته مجلة «روزاليوسف» بشكل مفصل فى عدد (4684)، تحت عنوان «فخ «CIA» لمحاصرة «الدب الروسى» فى أوكرانيا».
وبالعودة إلى الاحتجاجات الأوروبية المستغلة. فإن الفوائد التى ستعم على الإدارة الأمريكية بعد تنفيذ استراتيجيها- وفقًا للتقرير- ستثمر عن مرحلة أخرى للتعاون الأمنى بين الطرفين. فكتبوا: «بعد اتخاذ الخطوات اللازمة. ستتعايش الإرادة السياسية الأوروبية على بناء خطة متماسكة لتحقيق أمن الطاقة والتنويع». مضيفين أنه: «يمكن أن تصبح سوق التصدير الأمريكية، وسوق الطاقة الداخلية فى الاتحاد الأوروبى، أن يصلا لمستويات غير مسبوقة على مدى الثلاثين سنة القادمة. وأن هناك فرصة حقيقية لكل من (الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى) لإنشاء شراكة تجارية قوية للغاز الطبيعى المسال بحلول نهاية العقد القادم»..أى أن الخطة كانت ستنفذ فعليًا فى 2020 وساهمت التظاهرات الأخيرة والأزمة الروسية - الأوكرانية فى التعجيل بتنفيذها.
>النفط
قبل عشرة أيام من الاحتجاجات الأوروبية، أعلنت (فرنسا) أنها ستقود (أوروبا) للوقوف أمام عقوبات (الولايات المتحدة) تجاه (إيران)، التى نفذت بهدف تهديد اقتصادها، خاصة تجارة النفط القوية. وتعهد وزير الاقتصاد والمالية الفرنسى «برونو لى ماير» بقيادة الاتحاد الأوروبى لتخطى موجة العقوبات الجديدة، التى فرضتها (واشنطن) على قطاع الطاقة، والبنوك، والشحن البحرى فى البلاد إن تعاملوا مع (إيران). وقبلها بأيام قليلة، ذُكر فى بيان الإدانة المشترك بين دول (فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا) أن: (أوروبا) ستسعى إلى الحفاظ على القنوات المالية، التى تعمل مع (إيران)، وضمان استمرار صادرات «النفط، والغاز» الإيرانية.
منذ اتخاذ الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» قراره فى 8 مايو الماضى، بالانسحاب من الاتفاق النووى مع (إيران)، وهو يدرك أن هناك غضبًا تجاهه من الدول الأوروبية، التى ترى أن الانسحاب يزيد الأمور تعقيدًا، وليس فى مصلحتهم، إذ إن لهم مصالح مشتركة مع (طهران) ستتأثر بشكل كبير، لأن الاتحاد الأوروبى يستورد حوالى 40% من النفط الذى تصدره «إيران»، بالإضافة إلى تصدير الاتحاد- فى المقابل- بضائع بحوالى 11 مليار دولار إليها فى العام الماضى فقط، وفقًا لموقع المفوضية الأوروبية الرسمى. لذلك، مازالت الصحف الأوروبية تثور، واعتبر المسئولون، والمحللون الأوروبيون أن الإدارة الأمريكية تعمل بمفردها. وكانت تلك بداية اختلاف المصالح الاقتصادية بين الطرفين.
وحذر «لو ماير» من مقترحات الرئيس الأمريكى لتحويل «أوروبا» إلى مجرد سياسة خارجية «للولايات المتحدة»، خاصة تجاه «إيران»، بأنها ستؤدى إلى رد فعل عنيف من قبل الشركات، والسياسيين الأوروبيين. قائلًا: «علينا أن نعمل فيما بيننا فى أوروبا للدفاع عن سيادتنا الاقتصادية الأوروبية».
وبشكل عام، استشهد تقرير (واشنطن) 2015 حول الاستراتيجية الأمريكية، والأوضاع الاقتصادية الأوروبية بفترة ما بعد عام 1945، أى بعد الحرب العالمية الثاينة، مشيرًا إلى أنها لم تكن قادرة على الوقوف عسكريًا، أو اقتصاديًا، أو سياسيًا، مما جعلها تتجه للشيوعية، لظهور (الاتحاد السوفيتى)-حينها- على ساحتها. بمعنى آخر كان سيصبح للسوفييت دور أوروبى نتيجة مساندتهم لأوروبا.. وهو ما لم ترض به الإدارة الأمريكية حينها، ولن توافق عليه الآن.. فوضعت استراتيجية اقتصادية وسياسية تجعلها القوة الأهم بالنسبة لأوروبا. تتعرض دول الاحتجاج لهبوط اقتصادى قد يكون ليس كبيرًا، لكنه فارقًا، فى وقت قليل، وعلى رأسهم (فرنسا).. حيث وصف وزير المالية الفرنسى احتجاجات ذوى «السترات الصفراء»، بأنها تعد كارثة للاقتصاد الفرنسى. فقد أغلق عدد من المواقع السياحية، ومن بينها «برج إيفل، ومتحف اللوفر»، بجانب إغلاق المتاجر، وسرقتها، خلال موسم أعياد الميلاد ورأس السنة، ناهيك عن إلغاء أغلب السياح إجازة عيد «كريسماس» التى يقضوها فى (فرنسا). وأوضاع مماثلة تعيشها بقية الدول التى شهدت احتجاجات.
> حرب الشرق الأوسط
وبالعودة لعقوبات (إيران)، فلم يتوقف الأمر عند كونه اختلاف المصالح الاقتصادى فحسب، بل ظهور أزمة سياسية فى الأمر. فسر إضعاف (طهران) اقتصاديًا له هدف آخر، وهو ضمان خسارتها، حين تقوم حرب تطمح (الولايات المتحدة) بنشوبها بين «السنة، والشيعة» على مستوى منطقة (الشرق الأوسط)، لعدة أسباب، وعلى رأسهما- بالطبع- الحفاظ على أمن الكيان الصهيونى، ومزيد من قضايا اسغلال الطاقة فى المنطقة. وغيرهما من الأسباب الكثيرة المعروفة. وهى حرب يرفضها الاتحاد الأوروبى فى الوقت الحالى بشدة، ليس اهتمامًا لأمر المنطقة. ولكن مصالحهم- الآن- فى خطر، بسبب قضية اللاجئين، والمهاجرين غير الشرعيين، الذين يفرون من بلادهم المنكوبة، مثل (سوريا، والعراق، وليبيا،...) نظرًا للحروب الداخلية الدائرة، إلى (أوروبا) عن طريق البر والبحر لسهولة التنقل، والتكاليف.. ونتيجة لهروب عدد من مواطنى أربع، أو خمس دول فقط، من جحيم الحرب والإرهاب. وصفت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» أزمة الهجرة المستمرة، بأنها واحدة من أكبر التحديات، التى واجهتها (أوروبا)، خلال السنوات العشر، التى قضتها فى السلطة. وعليه، كيف يكون الوضع عندما تقوم حرب على مستوى المنطقة؟!.
«الاتحاد الأوروبى» لا يتحمل أعداد المهاجرين فى الوقت الحالى، لذلك فإن الاعتراض الأوروبى على القرارات الأمريكية ليس اقتصاديًا فقط. وهو ما أزعج الإدارة الأمريكية نظرًا لاختلاف رؤى السياسة الخارجية، التى أوضحها مدير مركز شئون الخليج فى معهد الشرق الأوسط، «جيرالد فييرشتاين»، بأن انتقاد «ترامب» لـ(إيران)، وهى دولة ذات أغلبية شيعية، وخطوته الرامية إلى ادعاء التوافق مع بعض الدول ذات الأغلبية السنية، يمكن أن يزيد من عزل الشيعة، وتصعيد الصراع بين الجماعات.
ومع ذلك، وحلًا لأزمة اللاجئين- بحسب تقرير (واشنطن) 2015- يريد صناع القرار فى الاتحاد الأوروبى أن يعيدوا توطين اللائجين الموجودين بالفعل داخل (أوروبا)، أما من يفرون من بلادهم إليها، خاصة عبر البحر، فتريد أوروبا أن تصدهم بمنتهى الحزم. دون توضيح ماهية التصدى، أو كيفية تنفيذه.
ثم أوجدوا حلا لحفظ ماء وجه الاتحاد أمام العالم، وهو تشكيك بلدان (أوروبا) مثل: «بولندا» فى استيعاب اللاجئين، معتمدين على هجمات (باريس) كمبرر، أو غيرها من الهجمات الإرهابية، لتؤكد أن استضافة اللاجئين قد لا تكون آمنة. متهمة الاتحاد بأنه يهتم فقط بجذب المهاجرين، الذين يلائمون الاحتياجات الاقتصادية والديموغرافية، وإن مصالحهم بعيدة كل البعد عن «الفكرة العاطفية»، التى مفادها، أن: «(أوروبا) هى، أو يجب أن تصبح حصنًا».
الخلاصة أن واشنطن كانت تخطط للسيطرة على سوق الغاز الطبيعى فى أوروبا وتحل محل روسيا، وبالتالى فكان يجب أن تحدث أزمة تمنع وصول الغاز من جهة وضغوط تؤدى إلى تغيير الحكومات وبالتالى عودة التقارب الأمريكى-الأوروبى من جديد.. و اليوم نرى الأزمة الروسية- الأوكرانية تشتعل وعلى الجانب الآخر التظاهرات تشتعل فى أوروبا وبشكل خاص فى فرنسا وتنادى بتغيير رأس السلطة «ماكرون» الذى يقف فى وجه تنفيذ سياسات ترامب بمنتهى القوة.. فهل هى مصادفة أم أنها خطة مرسومة بذكاء؟>