الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

اللامعنى فى بلاد السعادة

اللامعنى فى بلاد السعادة
اللامعنى فى بلاد السعادة


إن المسرح فى جوهره ما هو إلا دلالة لها معنى، أما الدلالات الاعتباطية فلا علاقة لها بعالم الجمال أو المعنى. ويأتى المعنى من اختيار الفنان للمدلول الذى يعرف أن له دالاً مشتركًا بين عالمى الفن والواقع، بين لغة المسرح، والإطار المرجعى للجمهور.
أما ما جاء فى عرض مسرحية «حدث فى بلاد السعادة»، والتى يقدمها المسرح الحديث على مسرح السلام، فهو بناء فنى يقوم فى تفكيره الأساسى على منح الدلالة أفقًا يغيب عن عالم المعنى، حيث لا يمكن تعيين مواقع الحكام والناس عند مقاربة العرض مع تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
ولا يمكن أن يجد المتلقى له مدلولًا فى عالم الواقع، والمسرح كائن حى وهو ابن اللحظة الراهنة، والواقعى الآنى المعاش، وهو فى ذلك لا يتناقض مع إمكانية بقاء المعانى الإنسانية فى الفن لأجيال قادمة.
هذا من حيث الأسس المبدئية، والعرض ينتمى للمسرح السياسى، والرمز فى المسرح السياسى، وهما أيضًا أمران راسخان فى التقاليد المسرحية المصرية منذ القرن التاسع عشر، حيث كان المسرح السياسى يتحدث بلا خوف أو حرج، ويتم إغلاقه أو تركه أو الاشتباك معه فى تعبير عن الحيوية المصرية، كما كان فى الستينيات يلجأ للرمز البسيط أو المركب، لكنه كان يمر بثقة ويتم السماح له بالتواصل مع الجمهور العام. لأنه كان يصب فى المصلحة الوطنية حتى وإن اختلف مع الواقع- آنذاك- أو اشتبك مع السياسات العامة.
أما لماذا كان الرمز السياسى يمر؟
لأنه كان يحدد الهدف ويصنع الدلالة الفنية التى يعرف معناها ومدلولها ويستطيع المتلقى تعيين المواقع وإدراك المعنى بوضوح، حدث ذلك فى القرن التاسع عشر فى نماذج المسرح السياسى المباشر، كما كان يحدث فى مسارح العالم الحر كله، وتراث المسرح المصرى باقٍ لمن يريد مراجعة حرية القصد، وسماح الفضاء الفنى والثقافى والسياسى العام بسيولة وحرية الأفكار آنذاك، أما الرموز المبتكرة الفنية والواضحة فى المسرح السياسى الستينى فى مصر، فهى لامعة وباقية فى الذاكرة حتى الآن، من أرض محمود دياب التى لا تنبت الزهور، حتى حافلة سعد الدين وهبة المتعطلة فى الصحراء، بعض منها وعلى امتداد الخط المستقيم النبيل دخل إلى عالم الخلود فى المسرح السياسى، ويعتبره عدد من أساتذة الدراما فى الدوائر الغربية من أهم إبداعات القرن العشرين على المستوى الفنى فى المسرحية ذات الفصل الواحد ألا وهى القطعة الفنية الفريدة للشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور «مسافر ليل».
تذكرت ذلك لأن مسرحية «حدث فى بلاد السعادة» تحتوى على صدق المقصد للكاتب وليد يوسف وعلى الجهد والإخلاص والاحتراف المهنى الواضح لفريق العمل المسرحى ككل ومخرج العمل مازن الغرباوى على الأخص، تبدو فعلاً مسرحيًا لا يستهدف المعنى، لأنه يتعرض لمراحل ثلاثة فى تاريخ مصر المعاصر، ويضيف لكل مرحلة ما ينفى عند المتلقى فهمه لمدلولها فى الواقع، وما ينفى مقاربتها مع العالم الواقعى، وهو الشرط الجوهرى فى المسرح فى تبادل المعنى الفنى وعلاقة الصور والإشارات والدلالات الافتراضية بالواقعية، وهو ما يعرف بالتفاعل الثقافى بين عالمى الخيال والواقع، وإلا يصبح الفن فعلًا ناقصًا يستهدف الغموض فى حد ذاته، وهو الغموض المؤدى لغياب المعنى العام عن الفعل الفنى.
وهذا النوع من المسرح يحاول أن يبدو بطلاً أو مناضلاً، وكأنه يوحى إليك بما لا يقدر على التصريح به، وهو شديد الخطورة على حرية الإبداع أولًا، وعلى تراث المسرح السياسى المصرى الثرى شديد الصدق صاحب المعنى النبيل والاشتباك الحقيقى مع الواقع وقد حصد أصحابه احترام السلطة التى عارضوها- آنذاك- قبل احترام المجتمع، وصاروا رموزًا فى تاريخ الثقافة الوطنية والفنية معًا.
أما أوضح المعانى عند مقارنة حكام وشعب حدث فى بلاد السعادة بالواقع، فهى التى تتحدث فى وضوح عن مفهوم مهم فى السعى نحو التغيير، ألا وهو ضرورة أن يتغير العقل الجمعى والقيم والأخلاق الحاكمة لسلوك الناس، وفى هذا يرصد العرض بحرية أخطاء العامة وبسطاء الناس ويرى أن التغيير الحقيقى يجب أن يكون هو التغيير فى الشعب ذاته، وهو فى هذا الصدد يرصد بعضًا من مظاهر اللهو المباح وغير المباح، بينما ينسى العرض أن الناس إن كان يقصد ببلاد السعادة البلاد المصرية ومحيطها العربى هم أصحاب الإرادة الحقيقية التى حفظت للأوطان استمرارها، وأن البسطاء فى أجمل الأوطان مصر هم أصحاب المجد، فالمجد للبسطاء فى بلادى، ملح الأرض، وعسلها، فالناس فى بلادى طيبون، والمجد للبسطاء صناع الحياة ومنهم تعلمنا أن نحدد المعنى فى ما يقوله المرء، وأن من خاف فليصمت، وأن من قال فيلقل بلا خوف.
حفاظًا على المنجز الحضارى للمسرح المصرى بيت الفكر والفن معًا وحرصًا على حيوية الفضاء السياسى والثقافى.