كفر الدير .. المسرح الكنسى للجميع!

هبة محمد علي
من الجميل أن يتجاوز المسرح الكنسى فكرة الوعظ، ليقدم مسرحًا مفتوحًا، يُحَلّق من خلاله فى رحاب الفن الهادف بعيدًا عن الطقوس والتعاليم المباشرة؛ ليفتح أبوابه من خلال هذا التحوُّل للجمهور بجميع أطيافه، وهو ما تحقق فى العرض المسرحى الممتع (كفر الدير) المأخوذ عن الرواية العالمية (المسيح يُصلب من جديد) للكاتب اليونانى نيكوس كازانتراكس، تلك الرواية التى تصلح لكل العصور والأزمنة؛ لأنها تقدم صورة ملحمية لصراع الإنسان على طول التاريخ.
من أجل حياة أسمَى، وهى التيمة التى لعب عليها فريق كنيسة مارمرقس للدراما، التابع لكنيسة مارمرقس بشبرا، فى مسرحيتهم (كفر الدير) بشكل شديد المصرية، وشديد الاحتراف،حيث قدَّم الفريق الأسبوع الماضى عرضين جماهيريين على خشبة أحد المسارح، لاقَيا نجاحًا كبيرًا، وسط الحضور؛ ليعود بعدها ويُكمل عروضه داخل الكنيسة طيلة الأسبوع الجارى، والاحترافية هنا لا يُقصد بها فقط الأداء التمثيلى الرائع الذى قدّمه شباب الفريق على خشبة المسرح؛ ولكن يُقصد بها أيضًا تكامل عناصر العمل الفنى، من موسيقى، وإضاءة، وديكور، وحركة على المسرح، جعلت من أنظار، وقلوب، وعقول الجمهور مشدودة، طوال ثلاث ساعات هى مدة العرض، وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا لا تقدم تلك الفرق مسرحًا يتخطى حدود الكنيسة، بشكل منتظم، سيسهم بالتأكيد فى إثراء المسرح، وإنقاذه من عثرته؟
>صراع أزلى
تدور مسرحية (كفر الدير) حول مجموعة من سكان إحدى القرى، هى بمثابة نموذج مصغر للمجتمع، والصراع الأزلى بداخله بين الخير، والشر، وسطوة رجال الدين والحُكم، من أجل بسط نفوذهم، وإحكام سيطرتهم؛ للاستيلاء على قطعة أرض، هى بالأساس مِلك لأحد البسطاء من أهل الكفر، حتى إن كان الثمَن مقابل ذلك هو سد الأبواب فى وجه الفقراء من أهالى قرية مجاورة، تعرضت قريتهم لطوفان الغرق، بعدم منحهم تلك الأرض ليحتموا بها؛ خوفًا من ضياعها للأبد، لكن من بين هذا الشر، يظهر (يوسف) بطل العرض، وأحد سكان الكفر الذى يقرر أن يضحى بنفسه من أجل أن يحيا غيره، ووسط هذا الصراع يوجد العديد من قصص الصداقة، والحب، والخيانة، والغدر، التى حتمًا ستمس إحداها المتفرج فى الصالة، ليجد نفسه، دون أن يشعر على خشبة المسرح؛ حيث يعايش الأحداث، ويندمج معها، ويطبقها على ما حدث له فى الواقع، بل يحاسب نفسه على ما بدر منها فى مواقف مشابهة، كل هذا من دون أن يتحرك من مقعده.
>أجيال ورا أجيال
(عامان فقط يفصلان فريق مارمرقس عن الاحتفال باليوبيل الذهبى له؛ حيث ارتبط تأسيس فريق تمثيل مارمرقس للدراما العام 1970 بإنشاء الكنيسة لمبنى الخدمات، والقاعة الكائنة بالطابق الأول بالكنيسة، التى تحوّلت إلى ملتقى لمحبى الفن المسرحى من أبناء الكنيسة)، هكذا بدأ رائد الفريق «ألبير وجدى» حديثه؛ حيث يقول: قدّمت الأجيال المتعاقبة من أبناء الفريق خلال تلك الأعوام 27 رواية من روايات، ومسرحيات الأدب العالمى، التى يتم إعدادها من قِبَل ورشة إعداد النص بالفريق؛ حيث تتم معالجة النصوص العالمية من دون التقليل من قيمتها الأدبية؛ لتكون أكثر قربًا من المجتمع، ومن أمثلة تلك المسرحيات (ماكبث، وهاملت، والملك لير) لـ«وليام شكسبير»، و(سقط الشيطان فى بابل) عن مسرحية بالاسم نفسه للكاتب «فريدريش دورينمات»، و(مركب بلا صياد) للكاتب الإسبانى «أليخاندرو كاسونا»، و(فى ليلة قمرية) عن رواية (سيدة الفجر) للكاتب الإسبانى «أليخاندرو كاسونا» وغيرها، بالإضافة إلى تقديم بعض المسرحيات من تأليف أعضاء الفريق الذين يفوق عددهم حاليًا 100 عضو، من بينهم 75 ممثلاً، بينما يتوزع باقى العدد بين إداريين وفنيى إضاءة وديكور ومزيكا ودعاية وتنظيم، أقدَمُهم انضم للفريق منذ 15 عامًا، بينما انضم أحدثُهم إليه منذ العامين.
وعن العرض المسرحى (كفر الدير) يقول: قدّمنا العرض نفسه منذ 9 سنوات؛ حيث يقدم الفريق عرضًا سنويّا فى أكتوبر من كل عام، وتعتبر إعادته هذا العام هى الأولى له؛ حيث لم تنجز ورشة الكتابة نصّا كاملاً، فوقع الاختيار على (كفر الدير) لإعادته؛ خصوصًا أن هناك ثلاثة أجيال من أعضاء الفريق لم يعاصروه، وعن عمل ورشة الكتابة، يقول: الشق الأساسى فى عملهم هو وضع سيناريو وحوار لروايات عالمية، بروح مصرية، مثلما يتم تقديم (المسيح يُصلب من جديد) حاليًا باللهجة الصعيدية فى (كفر الدير)، كما تم تقديم رواية (هاملت) بشكل معاصر وجديد.
وعن عروض الفريق خارج الكنيسة يقول: قدّمنا من قَبل عروضًا على مسرح الهناجر بالأوبرا، وعلى مسرح ساقية الصاوى؛ لأن لدينا رغبة أن يشاهدنا أكبر عدد من الجمهور، وقد نال الفريق جوائز عدة مثل جائزة أحسن مخرج، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة العام 2007 فى مهرجان فرق الدراما المتحدة- المركز الثقافى الكاثوليكى المصرى عن مسرحية (الرحاية)، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى فى مسابقات عديدة للهواة، لكن أمر الانتقال بالعروض بشكل دائم إلى مسرح خارجى مرهق ومكلف.
>بروفات يومية
(المركب إللى لها ريسين تغرق) مَثَل شعبى معروف، يُقصد به استحالة نجاح أى عمل له قائدان، لكن هذا المثل الشعبى لا يمكن تطبيقه على (كفر الدير)؛ حيث قام بإخراجه سويّا كل من «فادى تامر» و«مينا رأفت» بشكل متناغم، لا يمكن أن يشعر معه المشاهد بأى تفاوت، وعن ذلك يقول «فادى»: «انضممت للفريق منذ 13 عامًا كممثل، وعملت كمخرج منفذ لمسرحية (الرحاية) العام 2007، ويُعتبر عرض (كفر الدير) هو إخراجى الأول، ورُغْمَ عدم شيوع اشتراك أكثر من مخرج فى إخراج نص مسرحى واحد؛ فإن الأمر كان ضروريّا جدّا فى (كفر الدير)، فالعرض كبير، وبه عدد كبير من الممثلين، ما بين مجاميع وأطفال وصامتين ومتكلمين، بالإضافة إلى الموسيقى والإضاءة، إلى جانب المجهود المبذول فى دراسة أبعاد الشخصيات، وتدريب الأبطال عليها.
وعن فكرة اشتراكه فى العرض بدور العمدة، ومدى صعوبة الجمع بين الأمرين، يقول: حدثت ظروف اضطرارية لصاحب الدور، حالت بينه وبين استكمال المسرحية، وهو ما دفعنى إلى أداء دوره بدلاً منه، وهو أمر صعب بالتأكيد، ولكن التفاهم بينى وبين مينا رأفت المخرج الثانى للعمل، ساهم فى ظهور العمل بشكل جيد».
وعن عناصر الفريق، يقول: «الفريق مكون من مهندسين وأطباء ومحاسبين، نقوم بعمل ورش تدريبات شتوية طوال الشتاء، وقد بدأت البروفات لـ(كفر الدير) منذ شهر مايو الماضى، بواقع بروفة أسبوعية، زادت تدريجيّا، حتى أصبحنا نلتقى فى سبتمبر لعمل البروفات يوميّا».
>الجمهور جزء من الحدث
فى العرض، يمكن أن يلفت نظرك أمران: أولهما هو الحركة على المسرح، التى تم توظيفها بشكل رائع، يجعل من الجمهور جزءًا من العرض؛ حيث يسير الأبطال بين ممرات الصالة، ويؤدون بعض مشاهدهم فى الامتداد الذى وضع أمام خشبة المسرح، الذى يقابل بشكل مباشر الصف الأول من المقاعد، أمّا الأمر الثانى فيتعلق بأبطال العرض أنفسهم؛ حيث يتميز هذا العرض بأنه Double casting، بمعنى أن كل دور من أدوار الرواية له بطلان، يؤدى كل منهما الدور فى يوم عرض مختلف.
ومن جانبه يفسر المخرج «مينا رأفت» الحركة على المسرح، قائلا: «أنتمى للمدرسة الإخراجية التى تفضل أن يكون الجمهور جزءًا من الحدث، وليس مجرد متابع له: لأنى على يقين بأن ذلك يساهم فى أن يجعله يعيش الحالة، وبالتالى تصل الرسالة بشكل أسرع، وهو ما دفعنا على سبيل المثال لأن نضع أغنية فى بداية العرض بأصوات فلاحين حقيقيين، عكس باقى الأغنيات التى يتم غناؤها أثناء العرض».
أمّا فكرة الـ Double casting فسببها رغبته فى إشراك كل الفريق فى العرض المسرحى، وعنها يقول: «كل ممثل يصنع تفاصيل شخصية مختلفة، تخلق روحًا جديدة للعمل، من دون الإخلال بالرؤية الموحدة للعمل، وهو أمر مرهق، لكنه ممتع أيضًا».>