صوت الكادحين

روزاليوسف الأسبوعية
كتب: خيرى حسن
«اليوم ده يومك
والّا ده يومى؟
الكوم ده كومك؟
والّا ده كومى؟
(أولنا ولد.. وثانينا الكومى.. وثالثنا الورق).. إنها ثلاثية «الآمالى» التى أبدع فى رسم شخصياتها الراحل خيرى شلبى، لقد صنع لنا شخصيات درامية، وإنسانية، معجونة بطيبة وشهامة وجدعنة المصرى القديم، حاول فيها عمنا « شلبى» أن يواجه «خبث» الزمن، ومكره، ورغبته فى أن يحولنا من «أخيار» - كما كنا - إلى «أشرار» رغمًا عنا!
لقد صنع لنا عالمًا من الإبداع، سطر فيه تاريخًا جديدًا للزمن، أو بمعنى أدق أراد أن يعيد للزمن -وبالتالى لنا- جماله، وبريقه، وحضارته، وتاريخه، بحثًا عن زمن جميل يليق به.. ويليق بنا، وعندما وصل إلى ما كان يهدف إليه.. «مات»!
الكتابة بالنسبة لعمنا شلبى، هى - فيما أتصور- الحياة قبل أن تكون الموت، البداية قبل أن تكون النهاية. الحلم قبل أن يكون الواقع، البشر قبل أن يكون الحجر، كانت فى الآخر والأول.. حياة.. حتى ولو كانت هذه الحياة بين الأموات!
نحن الآن فى أوائل التسعينيات، وفى نهار صيف درجة حرارته مرتفعة. يومها أخذ سيارته واتجه إلى مكان أحبه وقرر أن يكتب فيه كلما أراد. المكان هو «مقابر المجاورين» المواجهة لمنشأة ناصر بين طريق الأوتوستراد وصلاح سالم. فى الطريق بين الأموات والأحياء. بين المقابر تعطلت به السيارة. نزل وحاول أن يصلح ما بها. على الجانبين يجلس بشر- وكأنهم حراس للأموات - اضطرتهم ظروفهم المعيشية أن يعيشوا فى حضن الموت، حيث صنعوا منه حياة.
(بسرعة وقفوا واتجهوا إليه.. ثم قالوا له: اتفضل ارتاح ونحن سنتولى أمرها، وقد كان. جلس الأستاذ على كرسى خشب قديم، وجاءوا له بالشاى وحجر الشيشة، وبدأ «أولاد الحلال» وما أكثرهم فى هذا المكان، يعالجون الخلل فى السيارة. الحمد لله.. اتفضل يا أستاذ السيارة تمام.. منوّرنا والله . فى هذه اللحظة هؤلاء الناس لا يعرفون من هو هذا الأستاذ.. الذى يأتى كل فترة ليجلس بجوارهم يكتب ويقرأ ويستمع إليهم.. وفى نهاية اليوم.. يعود إلى بيته.
مرة بعد مرة.. وجد ضالته فيهم، وجد الروح المصرية الأصيلة التى كان يبحث عنها، والتى اختفت وسط ضجيج المدينة، وعندما وجدها، أمسك بها، وقرر أن يستأجر حوشًا ليذهب إليه، يكتب، ويقرأ، ويرسم شخصياته الإبداعية بين الأموات، فعل ذلك وهو يدرك أنه من بين أصوات الموت، تولد حروف الحياة أحيانًا!
«وهيفرق إيه بكرة عن إمبارح؟
فيه قول ساعات مفرح.. وقول جارح»...
وليس بعد رحيل الأب شىء «يفرح».. فما بالك عندما يكون «أبوك» خيرى شلبى.. قالت هذا ابنته ريم وهى تتحدث.. قالت: كان معلمًا دون أن يعلم، كان ناصحًا من غير كلام، كان يجعلنا نبحث عن أنفسنا، حتى نكتشف الحياة، كنا نراه كما يراه جمهوره، هو إنسان واقعى فى الحياة، مثلما كان واقعيًا فى الكتابة، كان يكتب مثلما كان يعيش، وكان يعيش مثلما كان يكتب، شخصية واحدة وفكر واحد وحالة واحدة، كنت مثلًا أنا أو أى أخ لى نريد أن نعرف معلومة مثلًا، فكان يرفض أن يقولها لنا مباشرة، لكن كان يدلنى على مكان المعلومة، وفى أى كتاب فنذهب ونأتى بها ونعرفها، بعدها كنا نأخذ منه ما يكمل المعلومة، كان يريد لنا أن نتعب فى المعرفة، ونجتهد فيما نريد الوصول إليه وأنا الحقيقة تعلمت هذا منه، وأعلمه لابنى مثلما تعلمته من أبى.
كان يقرأ أضعاف ما يكتب، كانت القراءة بالنسبة له حياة أخرى، أما الكتابة فكانت بالنسبة له تأتى فى أى وقت، لذلك كانت فى شنطة يده أقلام وأوراق وأى مكان يجلس فيه، وأراد أن يكتب أو أحس بأنه يريد أن يكتب كان يبدأ على الفور حتى ولو كان على المقهى..
ومن على المقهى أخذتها معى إلى المقابر.. وقلت لها: وما فلسفته فى الكتابة بين المقابر؟ ردت: ربما الهدوء هو الذى دفعه إلى استئجار «حوش» فى المقابر يذهب إليه، ليكتب، وأعتقد أن حبه للبسطاء هو الذى دفعه إلى هذا الاتجاه..
ولد خيرى شلبى فى 31 يناير 1938، ورحل فى 9 سبتمبر 2011، جاء من قرية «شباس عمير» مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ، وحصل على جوائز الدولة التشجيعية والتقديرية، وحصد العديد من الجوائز العربية عن أعماله الإبداعية، لديه من الأبناء أربعة: زين العابدين، إسلام، ريم وإيمان، الزوجة كانت قريبة له من قريته، وعاشت معه رحلة الحياة ورحلة الإبداع وهى تدرك من هو خيرى شلبى، وكان هذا سرا من أسرار نجاحه.
تقول «ريم» عن أمها: كانت هدية من ربنا له، هذه السيدة العظيمة فوزية أنور السنهورى، استطاعت أن توفر له المناخ الأسرى الذى جعله يبدع، تخيل مثلًا أنه لم يكن يريد «خلفة» من الأساس، لكن بعد فترة قال لها: لقد جئت لى بأجمل شىء فى حياتى وهو أولادى، فهى لم ترهقه فى التربية ولا التعليم، ولم يسمع صوتًا فى المنزل يجعله يكره الكتابة أو القراءة، كانت حريصة على أن تجعله متفرغًا لإبداعه.
تركت «ريم» وعدت إلى بداياته، وجدته فى حديث تليفزيونى له يقول: أنا اسمى «خيرى عكاشة»، وفى بداية حياتى قمت بتغيير الاسم من خيرى عكاشة إلى خيرى شلبى، وكان السبب فى ذلك اسم الدكتور ثروت عكاشة، حتى لا يقال إننى قريب له، ثم قال: كان السبب «تافهًا»، لكن غرور الشباب هو الذى دفعنى لذلك.
لأ.. صدقونى.. الفرق جوانا
والدنيا حلوة بس خوانا
جربتها وشربت من كاسها
ودرستها من ساسها لراسها
والدنيا كدبة.. وليها حراسها
والكدبة ليها لون وروايح
وهيفرق إيه.. بكرة عن إمبارح...
هكذا كتب الأبنودى ولحن الشريعى، ورسم الشخصيات عمنا خيرى شلبى وتغنى الحجار فى مسلسل «الكومى»..
وبمناسبة الأبنودى.. كان عمنا خيرى شلبى - هكذا قالت ريم- قام وطلب من الأبنودى والراحل إبراهيم أصلان وقال لهما: فلنتفق على شراء مقابر لنا ندفن فيها معًا فى القاهرة. واتفقوا سويًا، وبدأوا رحلة البحث عن مقابر. وعندما اقتربوا من تحقيق الرغبة، جاءت 25 يناير، فتحولت الأمور، وتغيرت الأوضاع. وضاعت رغبتهم فى أن يدفنوا معًا بجوار بعضهم بعضًا.. فدفن الراحل إبراهيم أصلان فى القاهرة، والأبنودى فى الإسماعيلية، وشلبى فى كفر الشيخ. الحياة قربتهم، لكن الموت أبعدهم عن بعض.
قلت لـ«ريم»: هل تذكرين يوم رحيله؟ قالت: كنت فى شقتى البعيدة بعض الشىء عن حى المعادى الذى يسكن هو فيه. وفى صباح يوم الجمعة 9 سبتمبر 2011 رن الهاتف. الرقم لأمى يتصل. ترددت فى الرد. خفت. ارتجفت. قلت: ماما.. وجدتها تقول: بصحى أبوكى ما بيصحاش.. الحقينى يا ريم. لم أر أمامى حتى وصلت للبيت. كان حضر قبلى زين أخى، ومن طبيب لآخر.. جاء الرد.. البقاء لله. وكان قرار دفنه فى قريته طبقًا لرغبته، فبعد فشل مشروع المقابر الذى كان بينه وبين الأبنودى وأصلان.. بدأ هو قبل رحيله بعام أو اثنين يطلب من «خالى» فى البلد، أن يجهز المقبرة، ونحن كنا فى دهشة من طلبه المتكرر هذا، فكان يقول له: إيه.. يا عمنا.. لسه بدرى.. هتسيبنا وتروح فين؟ فيسكت.. وكأنه يريد أن يقول بالصمت - الرحلة انتهت. كان يشعر أن الموت يقترب، فاستعد له.
ذات يوم جاء له أحد الكُتاب أو الباحثين من تلاميذه.. وقال له: نريد أن تكتب لنا رواية عن كذا.. فرد عليه قائلًا: «اكتبوها أنتم.. أنا خلاص قلت اللى عندى»! وأذكر أيضًا أننا كنا نجتمع عنده كل يوم جمعة.. وفى جمعة الرحيل تلك تجمعنا عنده، لكن كان جمعنا هذه المرة لنلقى عليه نظرة الوداع.. بعدها ذهبنا به لقريتنا فى كفر الشيخ.. وكان مقدرًا أن تدخل السيارة التى تحمله مباشرة للمقابر دون المرور فى شوارع قريته التى تربى فيها.. وفجأة ودون سبب أخطأ سائق السيارة الطريق فوجدنا أنفسنا بين شوارع قريته التى خرجت كاملة ومعها القرى المجاورة والقيادات الشعبية والتنفيذية، ليكونوا فى وداع الأستاذ.. كما كانوا يحبون أن يطلقوا عليه.
قلت: هل كان سعيدًا لوجود بنات بين أولاده؟
قالت: فى الأول كان «زعلان» شوية، لكن بعد فترة أدرك - حسب قوله- أن سر سعادته فى الحياة أن لديه بنات. وأبى تغيرت حياته تمامًا، بعد وجودنا فى حياته. بدأ لا يفعل أشياء كان يفعلها من قبل. ولا يجلس فى مكان ولا يخرج إلى طريق إلا إذا وجد أن هذا فيه فائدة لأولاده بصورة أو بأخرى.
ترك لنا حرية اختيار الدراسة وحرية اختيار العمل. وفى ظل هذه الحرية اتجهنا جميعًا إلى الكتابة والإذاعة والصحافة والفن، زين صحفى، وإسلام مخرج، وإيمان مخرجة، وأنا إذاعية وكاتبة.. وكل ذلك حدث دون تخطيط منا أو توجيه منه. وهو كان رأيه دائمًا أن الموهبة هى التى تفرض نفسها، فإن كانت لديك موهبة حقيقية، فالمؤكد أنك ستنجح. وإذا لم تكن، فلا تبحث عليها.
«اسمع يا ولد.. من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطمة تعلبة، فليرحل هو، فليخرج من الباب بطوله».. ثم تكمل فاطمة تعلبة قولها: «أنا الذى ربيت، وأنا الذى زوجت، وأنا الذى أكسو وأطعم، والأولاد أولاد الدار، قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم.. كانت هذه كلمات خيرى شلبى فى رائعته «الوتد»، التى تحولت إلى عمل درامى فى ذائعة الصيت. أنصف فيه المرأة المصرية، وجعلها «الوتد» الذى يسند الحياة الاجتماعية فى ريف مصر، ليخرج منها بشر منسية، صنعت تاريخًا عائليًا ضاربًا بجذوره، فى أعماق الريف.
قلت: «هل كانت والدتك فى البيت (وتد) مثل فاطمة تعلبة؟ ضحكت وقالت: لا.. الوتد كان هو خيرى شلبى مع اختلاف التفاصيل. أعتقد أن تلك الشخصية كانت تعيش فى وجدان أبى من الصغر، فهو تربى فى الريف، وعايش نماذج، مثل فاطمة تعلبة، لذلك هو رسم الشخصية بكل دقة وبراعة وصدق، أما والدتى فى البيت، الست العظيمة فوزية السنهورى.. فكان لديها قانون واحد فى الحياة. وهو أن توفر لهذا الرجل الجو المناسب للإبداع. كان هو كل شىء فى حياتها.. العين التى ترى والأذن التى تسمع. أبى كان أكثر إنسان عرفته فى الحياة حاسس إنه أخذ ما يستحقه. كان راضيًا بما حصل عليه، وبما وصل إليه.. وبما صنعت يداه، كان يأتى من يقول: لم تأخذ حقك؟ فيرد: الحمد لله.. أنا أخذت حقى وزيادة.
هذا هو خيرى شلبى.. وهذه هى حياته وقناعاته، وتاريخه، وأفكاره، وأيامه. تلك الأيام التى ترجم فيها أحلام البسطاء، ولم يتاجر بها. ونقل أوجاعهم ولم يرقص عليها. عاش راضيًا.. ومات راضيًا.. مثلما عاش مبدعًا.. ومات مبدعًا.
آه يا زمن يا صاحبى يا عدوى
أنا ما جربتكش من توى
حجربك آه.. عدد دعاء المظلوم
اليوم ده يومك.. والّا ده يومى
الكوم ده كومك.. والّا ده كومى..
و«الكومى» كان وما زال عمنا خيرى شلبى!
فصل من كتاب «أبى» «كما لم يعرفه أحد».. الكتاب يصدر خلال أيام عن «كتاب الهلال»، مؤسسة «دار الهلال».