الإثنين 16 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ما تبقى لـ«ورثة اليونان» فى: جمهورية «كوتسيكا»

ما تبقى لـ«ورثة اليونان» فى: جمهورية «كوتسيكا»
ما تبقى لـ«ورثة اليونان» فى: جمهورية «كوتسيكا»


لاتزال تتذكر حياة الجالية اليونانية رُغم مرور السنين، لديها الآن من العمر 80 عامًا، لكنها تمتلك ذاكرة قوية، جعلتها تسرد الكثير من الأحداث حول الفترة التى عاصرتها، فى ظل وجودهم داخل الحى الذى نشأت فيه، وأثناء الاحتلال الإنجليزى الذى ظل 70 عامًا على أرض مصر.
«اعتماد محمد رمضان»، واحدة من سكان منطقة «كوتسيكا» القلائل الذين عاصروا حياة اليونان والإنجليز، تقول: «كانوا يستأجرون عمالاً مخصصين لتنظيف شوارعنا فى الثامنة صباحًا من كل يوم، أتذكر ذلك القطار الصغير الذى كان يترنح على القضبان حاملاً البضاعة الخاصة بمصنع السبيرتو، فيقف عسكرى يحمل فى يده شارة ليخبر الناس بأن القطار قادم وممنوع عبور السكة».
كان للجالية اليونانية حضور بارز فى مصر، بدأ بامتزاج الحضارتين معًا، تجلّى ذلك فى منطقة «كوتسيكا» التى أسسها الخواجة اليونانى «تيوخارى كوتسيكا».
الثرى الذى سميت باسمه منطقة «كوتسيكا»، كان من أغنى أغنياء الجالية اليونانية فى مصر، فى بداية القرن العشرين، فكانت ثروته نحو 4 ملايين جنيه، كما أنشأ فى «كوتسيكا» أول مصنع للكحوليات والسبيرتو فى مصر سنة 1893 فى المنطقة التى تحمل اليوم اسمه بالقرب من حى المعادى، كما شارك كوتسيكا فى إنشاء الإسعاف المصرى، حيث تبرع بأول سيارة إسعاف سنة 1916.
عقود طويلة مضت، وظلت «كوتسيكا» محتفظة بما شيده اليونانيون، منها مصنع «السبيرتو» الذى أسسه الخواجة وتحول إلى شركة لصناعة النشا والجلوكوز وأخيرًا مبنى مهجور يحرسه خفير، أيضًا منزل «كوتسيكا» الذى تعيش فيه أسرة مصرية اختارت أن تعيد ترميمه لتحافظ على الإرث العظيم الذى تركه اليونان لهم.
 200 ألف جنيه.. ثمن انتقال عائلة «زلط» لـمنزل «الخواجة»
يبدو من الخارج منزلاً عاديّا، لكن تفاصيله الداخلية تحتضن أسرارًا كثيرة، بطلها الراحل «عبدالحميد محمد السقا زلط» موجّه اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم، وأبناؤه الذين استكملوا المسيرة عقب وفاته، عرض «كوتسيكا» منزل والده للبيع قبل عودته إلى اليونان، اغتنم «عبدالحميد» الفرصة واشتراه بمبلغ 200 ألف جنيه، انتقلت الأسرة من منزلها القديم إلى تلك المملكة العريقة، التى تبلغ مساحتها 800 متر، كانت تحتوى حديقة كبيرة امتلأت بأشجار الموز الهندى الذى أكلت منه جميع بيوت «كوتسيكا» أو «كوزيكا» كما يدعوها السكان.
رحل «عبدالحميد» وأبناؤه إلى السماء، ولم يتبق سوى ابنته الصغرى، «زينب» التى انتقلت إلى منزل الخواجة مع أسرتها وعمرها 3 سنوات، تقول: «لدىّ 4 أشقاء توفوا، ولم يتبق غيرى فى المنزل، استلمنا المنزل من الخواجة بطابق، ثم بنى والدى طابقين إضافيين، ومع الوقت تلاشت الجنينة وبنينا مكانها منزلاً يعيش فيه أولادى الصبيان الآن ويصل بيننا سُلم بمجرد عبوره أصل إليهم»، فى الجانب الأيمن من المنزل سُلم يتصل بالأدوار الثلاثة العليا، أمّا الدور الأرضى فبدا منفصلاً، يبدأ مدخله ببوابة حديدية مواجهة للشارع الرئيسى.
تزوجت المرأة الستينية مع أسرتها فى الطابق الثالث، ثم انتقلت إلى الطابق الأرضى بعدما بقى مهجورًا لمدة 18 عامًا من وفاة والديها، مؤكدة أن تكاليف ترميم الطابق تخطت 50 ألف جنيه: «قمنا بترميم المنزل منذ 15 عامًا، كانت هناك رطوبة فى الجدران وشروخ عرضت المنزل للانهيار، وقمنا بعمل ديكورات ضخمة فى السقف كى تزيد من تماسك المنزل»، يحتوى الطابق الأرضى على غرفة وصالة مساحتها 7 أمتار، ومطبخ ينتهى بسُلم يتصل بالمنازل الأخرى.
يوجد حمّام كبير وحمّام صغير، أمّا أبواب الغرف الخشبية فتتألف من ضلفتين على الطراز اليونانى: «اليونان يحبون أسقف المنازل المرتفعة، فكان ارتفاع السقف حينما انتقلنا للمنزل أكثر من 4 أمتار ونصف المتر، لكننا قمنا بتخفيضه مجبرين للحفاظ على بقاء المنزل، ردمنا 50 مترًا من الأرض كى يكون الارتفاع مناسبًا ويزداد المنزل صلابة، فهو مبنى من الدّبش، كما ردمنا البدروم بسبب المياه الجوفية الموجودة تحته التى عرضت المنزل للخطر».
كانت «زينب» تمتلك خيارًا آخر وهو هدم المنزل وإعادة بنائه، لكن تعلقها الشديد بتاريخ اليونان واعتزازها بحضارتهم جعلها تحافظ عليه بجميع تفاصيله: «لم أستطع هدم ذلك التاريخ العريق، كما تربطنى به ذكريات طفولية جميلة أتذكرها كلما جلستُ وحدى».. تعيش المرأة الستينية وحدها بعدما تقاعدت وعمرها 45 عامًا لديها 3 صبيان متزوجين، تقضى يومها وحيدة إلى أن يعود ابنها الصغير من عمله ويؤنس وحدتها: «كنت أعمل محاسبة وكانت مديرتى أنصاف العمرى أخت الفنانة صفية العمرى، وطلعت معاش مبكر عام 1999».
لا تزال زينب محتفظة بـ«الكلوبات» التى كانوا يستخدمونها فى إنارة المنزل قبل أن تدخله الكهرباء، موضحة أن الطابق الثانى يتألف من شقتين يقطن بهما سكان، إيجار الأولى 8 جنيهات والثانية 10 جنيهات، أمّا الطابق الثالث فيضم جمعية خيرية ترعى الأيتام، وتعلم الطلاب بالمجان، أمّا أكثر المواقف التى ظلت عالقة بذهنها حتى اليوم: «كان والدى يجمع الموز الهندى فى صناديق خشبية ويضعه فى البدروم وبعد أن يستوى يقوم بتوزيعه على أهل كوتسيكا، وكان يوزع عليهم العنب والجوافة أيضًا».
 المبنى الإدارى لليونان.. منزل لأحفاد «شكرى يوسف» و«عيد الجنيدى»
يبدو مهجورًا للوهلة الأولى من فرط الهدوء الذى يسيطر عليه، جدرانه متآكلة ونوافذه زجاجية محطمة، هيأته الأثرية تكشف عن الكواليس التاريخية التى شهدها، بالقرب من المدخل وضع حبل يصل بين باب المبنى والجدار المواجه له، استقر عليه بعض الملابس التى أكدت وجود حياة بالداخل، هكذا يبدو المبنى الإدارى التابع لمصنع «النشا والجلوكوز» الذى بناه «كوزمان»، كان الطابق الأول بمثابة نقابة تُعقد فيها جميع الاجتماعات، أمّا الطابق الثانى فكان عيادة طبية خاصة بعمال المصنع لمتابعة الكشف الدورى عليهم.
كان «عيد الجنيدى» عضو مجلس إدارة الشركة، أمّا «شكرى يوسف» فكان أمين المخازن، ظلا مقيمين فى المبنى الإدارى يباشران عملهما ويعيشان فيه فى آن واحد، إلى أن رحلت الجالية اليونانية عن مصر، ثم حصلا على إقامة أبدية فى المبنى، مات الرجلان وورث أبناؤهما ثم أحفادهما مكان إقامتهما، «عبدالله جمال» حفيد «عيد الجنيدى»، يعيش مع والدته وجدته فى الطابق الأرضى، تخرّج فى كلية الشريعة والقانون، ولديه 27 عامًا، يقول: «الطابق الأول كان مخصصًا للاجتماعات والأعمال الإدارية، والمنضدة التى كان يجتمع عليها كوتسيكا بالموظفين نحتفظ بها حتى الآن، لديها خشب متين وصُنعت على الطراز اليونانى».
أمّا الطابق الثانى الذى احتوى العيادة فأغلقته الشركة فور بيعها لأحد المستثمرين، بينما بقى الطابق الثالث لأسرة «شكرى يوسف»، الذى تزوّج أبناؤه وبقيت زوجته وحدها تعيش على ذكراه الخالدة فى المبنى، يؤكد الشاب العشرينى أنهم كانوا يعيشون فى الطابق الأرضى كاملاً إلى أن جاءت الشركة وقسّمته إلى قسمين أغلقت واحدًا وتركت لهم الآخر يعيشون فيه: «النصف الذى نعيش فيه يتكون من غرفة وصالة ومطبخ وحمّام، فالمنزل بُنى من الدّبش»، تفاصيل المبنى الداخلية لم تتغير، فالورثة حرصوا على إبقاء كل شىء على سجيته الأولى، حتى الشروخ الموجودة فى الجدران.
داخل الغرفة شرفة صغيرة تطل على مدخل المنزل من الداخل، كما يحتوى المطبخ على ممر يتصل بالشق الآخر من المبنى، أمّا السلالم فكانت خشبية تُصدر أصواتًا بمجرد الصعود عليها: «سلالم المنزل من الأشياء التى لم تتغير ولم تتأثر بمرور السنوات، أمّا زوجة «عيد» فلم تتقبل فكرة موته حتى اليوم، تجلس على كرسيها المتحرك تنتظره كى يعود من عمله لتخبره كم أن المرض يؤلمها: «جدتى تحبه كثيرًا وتعتقد حتى اليوم أنه على قيد الحياة، لديها 70 عامًا ومتعلقة بكل ركن فى المبنى؛ لأنه يذكرها بعهد اليونانيين».
 المطرودون من إمبراطورية النشا والجلوكوز: طلعنا معاش مبكر ومتبهدلين
كان «كوزمان» حريصًا على النهوض بـ«كوزيكا» شيّد أول مصنع لصناعة الكحوليات والنشا والجلوكوز عام 1893، جاء ابنه «كوتسيكا» واستكمل مسيرته لتحمل المنطقة اسمه حتى الآن، عملت نسبة كبيرة من سكان المنطقة فى المصنع، لكن الأوضاع بدأت فى التدهور تدريجيّا بعد رحيل الجالية اليونانية.
فوجئ العاملون بالشركة فى مارس 2004، ببيع الشركة لمستثمر رئيسى بمبلغ 128 مليون جنيه، وبدأ تسريح العمال تدريجيّا، خرجت دفعات كثيرة منهم «معاش مبكر»، كان آخرها الشهر الماضى،«رمضان محمود» أحد العاملين بالمصنع سابقًا: «ولدتُ فى المنطقة وقت وجود الإنجليز، كنتُ أعمل سواق كلارك فى الشركة حينما كانت للنشا والجلوكوز، كان يعمل فيها ناس من كل المحافظات، منهم من أحضر أسرته واستقر فى المنطقة، بيعت الشركة بمعرفة عاطف عبيد وطردونا».
يتقاضى الرجل الستينى 850 جنيهًا معاشًا، مؤكدًا أنه يعمل فى مهنته حتى اليوم، يتذكر فترة الازدهار التى مر بها المصنع، فكان أول مصنع ينتج عسل النحل على مستوى الشرق الأوسط، كما حصل على شهادة «الأيزو»: «الآن المصنع مهجور بعدما باعوا المعدات، اتبهدلنا وبيوتنا اتخربت، فالمصنع أثرى وتاريخه عريق، وليس من العدل أن يهدموه».
هدوء تام يحيط بالشركة، طوابقها تبدو خالية من الخارج، لا وجود للمعدات، بالقرب من البوابة الحديدية يجلس خفير الشركة الذى يعمل فيه منذ 20 عامًا، يقول: «طلعت معاش مبكر الشهر الماضى، وصار عملى باليومية، تدهورت الأحوال منذ بيع الشركة للمستثمر السعودى ناصر الخرافى، فى سبتمبر 2010 صار  المصنع مهجورًا، أمّا المعدات فبدأ بيعها منذ عام 2000، وجميع العمال تم تشريدهم، منهم من يعمل على (توك توك)، وآخر يعمل باليومية، ومنهم من لا يجد عملاً».
 السائرون على درب اليونان: أنشأنا منازلنا على طراز الخواجات
تلاصقت الحضارتان اليونانية والمصرية، مما دفع بعض سكان «كوتسيكا» إلى بناء منازلهم على الطراز اليونانى والإنجليزى أيضًا، نقوش وزخارف تزين منزل «عبد المنعم على قرمة» الذى بناه جده، بوابته ضيقة لكن المساحة الداخلية تخطت الـ 224 مترًا، يقول: «بُنى المنزل عام 1915، توفى أشقائى الأربعة ولم يتبق غيرى،جميعهم تركوا المنزل واستقروا خارج المنطقة لكنى تمسكت بالبقاء فيه، زوجت أبنائى فيه وأعيش معهم».
يتألف المنزل من طابقين، ويبلغ طول الحائط مترًا، ويضيف: «بعد التقاعد وهبت نفسى إلى الله وخدمة الأموات، أستلم الجثث المجهولة من الشرطة وأتولى مسئولية تكفينها ودفنها»، يقع منزل «عبد المنعم» فى «شارع محمد سليمان» مؤكدًا أن والده كان رئيسًا لـ«كامب الإنجليز»: «الكامب يجتمع فيه العمال المصريون ويتم توزيعهم فى مناطق عمل مختلفة مثل الحفر لتوصيل المياه للأراضى الزراعية»، على الجانب الأيسر من منزل «كوزمان» يقع منزل قديم يعود إلى عصر الإنجليز، الطابق الأول مقهى، أمّا الثانى فلم يتبق منه سوى بقايا جدران، «زكى مرسى زكى» الوريث المتبقى للمنزل: «المنزل منذ عام 1918، بناه جدى مبيض النحاس، أشقائى باعوا حقهم فى المنزل لمقاول، لكنى تمسكت ببقائى والحفاظ على حقى».
يعتز الرجل الثلاثينى بكل ركن فى المنزل، مشيرًا ألى أن المقاول أحضر قرار إزالة للمنزل وبدأ فى تنفيذه، لكنه منعه فى اللحظات الاخيرة: «عرض علىّ 150 ألف جنيه لأبيع حقى ورفضت، متعلق بكل ركن فى المنزل وأقدّر قيمته التاريخية، كما أن لقمة عيشى فى المقهى فلا أقدر على الخروج منه».
 «مخزن كوتسيكا» فى قبضة «فتحى قاسم» بعد المزاد
اختلفت المسميات فى عهد الإنجليز، فالمصنع كان يُسمى «فبريكا النشا والجلوكوز»، أمّا المخزن فأطلقوا عليه «عنبر»، تبلغ مساحة مخزن «كوتسيكا» 2460 مترًا، يفصل بينها وبين المصنع طريق «مصر - حلوان» الزراعى، خُصص المخزن قديمًا لوضع الإكسسوار الخاص بالمصنع والمعدات الإضافية، مرّت السنوات وفوجئ أهل المنطقة بوضع لافتة على البوابة «هذا المخزن فى حيازة الشركة المصرية لصناعة النشا والجلوكوز»، ثم دخوله فى مزاد فاز فيه مستثمر يُدعى «فتحى قاسم».
«أحمد سالم الشرع»، أشهر مقاول فى «كوتسيكا»، حضر المزاد الذى عُرض فيه المخزن للبيع، يقول: «المزاد كان داخل المخزن، ورسى على 750 ألف جنيه، ومنذ أسابيع أزالوا سقفه الخشبى ويرتبون لهدمه وتحويله إلى وحدات سكنية».
كان الرجل الستينى مقاول الأرض الواقعة خلف المخزن، كانت ملكًا لابنه «كوزمان» التى تُدعى «جوليو»: «اشتراها أحمد فتحى سرور وعثمان أحمد عثمان وأحمد سلامة، وأخذتُ 50 ألف جنيه مقابل عملى، والآن تحولت إلى عمارات كبيرة يقطنها سكان من خارج المنطقة بعدما قام الثلاثة ببيعها»، مؤكدًا أنهم واجهوا صعوبة فى البداية للحصول على الأرض من الدولة فلم يجدوا مفرّا من ادعاء إقامة مشروع عليها: «قالوا إنهم فى حاجة للأرض لتكون مخزنًا مؤقتًا لحين انتهاء المشروع، ثم حوّلوها إلى منطقة سكنية».