الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

السلطان الفاجر

السلطان الفاجر
السلطان الفاجر


فى مسرحيته «السلطان الحائر» حكى الأديب الراحل توفيق الحكيم قصة أحد سلاطين العصر المملوكى بنى شعبية كبيرة بين المواطنين، وفجأة خرج بين الناس رجل يطعن فى شرعية توليه الحكم، وقال: إنه كان عبدًا لدى السلطان المتوفى، ولم يعتق وبالتالى لا يحق له الحكم.
سرت الحكاية بين الناس فجمع السلطان مستشاريه وظهر اتجاهان للحل: الأول يمثله «الوزير» الذى اقترح قطع رقبة صاحب الشائعة فورًا، خاصة أنه معروف بتطرفه، كما أنه مطرود من أهله، أما الثانى فكان عند «القاضى» الذى قال إنه لم يجد سوى مَخرج وحيد وهو بيع السلطان باعتباره عبدًا في مزاد علنى على أن نشترط على المشترى عتقه فور شرائه، ثم يتم تنصيبه سلطانًا.

انتصر «الحكيم» فى روايته لـ«القانون» على حساب «القوة»، إذ اختار السلطان بطل روايته أن يتم بيعه واشترته امرأة غانية قبل أن يتم تحريره ويعود للحكم، بينما راح «الغشيم» ينتصر للقوة على حساب الحق والقانون، و«الغشيم» هنا مقصود بها سلطان آخر - أو هكذا يتصور نفسه – وهو الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الذى طالما أفصح عن تطلعاته لاستعادة الخلافة التركية وبسط نفوذ بلاده فى منطقة الشرق الأوسط مثلما حدث فى فترات تاريخية سابقة.
لم ينحز «الأغا» العثمانى للقانون وإنما سعى لتطويع القانون بل والدستور التركى نفسه لخدمة طموحاته الشخصية وتطلعات حزبه الإخوانى، فخلال العام الماضى، أجرى رجب تعديلا دستوريا، استطاع تمريره بأغلبية هزيلة (51.4 % من المصوتين) وألغى بموجبه النظام البرلمانى وحول تركيا إلى النظام الرئاسى، بحيث تتركز السلطات كاملة بيد رئيس الجمهورية، وألغى النص الخاص بأن يكون رئيس الجمهورية مستقلًا، وسمح له بأن ينتمى حزبيًا، بل وقام بإلغاء منصب رئيس الوزراء نهائيًا.
كان من المفترض أن تدخل هذه التعديلات حيز التنفيذ خلال انتخابات البرلمان والرئاسة التركية فى نوفمبر عام 2019، لكن الإرهابى «الحالم بالسلطنة» لم يطق الانتظار ودعا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة خلال يونيو المقبل، ليبدأ تفعيل الدستور الجديد الذى يركز كافة الصلاحيات رسميا - وقد كانت فعليًا قبل هذا التعديل - فى يده ويزيح منصب رئيس الوزراء نهائيًا.
أردوغان حكم تركيا حتى الآن 15 عامًا، بدأها فى 2003 عندما فاز بالولاية الأولى له رئيسًا للوزراء، ثم فاز بالثانية فى نفس المنصب عام 2007 والثالثة عام 2011، وعندما جاء موعد الرابعة عام 2014 ترشح رئيسًا للدولة، وها هو على مرمى حجر من الولاية الخامسة لتصل فترة حكمه إلى 20 عاما قابلة للزيادة.
 انتخابات هربا من نزيف الشعبية
لجأ أردوغان إلى الانتخابات المبكرة هربا من انهيار شعبيته داخليًا على وقع نزيف الاقتصاد التركى وانهيار الليرة أمام العملات الأجنبية، وارتفاع معدل التضخم إلى نحو 12 %، علاوة على علاقته المتوترة مع أمريكا بعد أن كان رجلها الأول فى الشرق الأوسط، وكذا علاقته المشوبة بالحذر مع الدب الروسى الذى لا ينسى له «دقات خسة» كثيرة ويتوقع أن يبيعه فى أقرب وقت عندما تلوح فرصة مواتية له لاستعادة دفء العلاقات فى الأحضان التركية.
لا يذهب الإسلاميون إلى الصندوق ولديهم ذرة شك فى أنه لن يخدمهم، سواء بطريقة قانونية أو بالتزوير، وعندما يقرر أردوغان الدعوة لانتخابات قبل موعدها فهو يحاول ترميم شعبيته وشعبية حزبه بانتخابات تقطع الطريق أمام غضب المؤسسة العسكرية حياله، بعد عملية نزع الأظافر التى أجراها لها فى صيف 2016 إثر محاولة الانقلاب الفاشلة.
تذهب تركيا إلى الانتخابات على وقع حالة من الطوارئ، فقبل يومين قدمت الحكومة التركية مذكرة إلى البرلمان طلبا بتمديد حالة الطوارئ فى البلاد 3 أشهر إضافية اعتبارًا من أمس الأول، ووافق عليه.
 فى تركيا حملات الاعتقال للجميع
على مدار عامين وأكثر شن أردوغان حملات اعتقال لا أول لها ولا آخر، طالت صحفيين، وأسفرت عن غلق صحف وقنوات تليفزيونية وشبكات إعلامية بأكملها، وكان آخرها حكم المدعى العام باسطنبول بسجن 13صحفيا بجريدة جمهورييت 15عاما، فمازالت هناك مساحة كبيرة للصحفيين والإعلاميين فى تركيا بشرط، أن يمروا عبر بوابة حزب العدالة والتنمية، حينها ستكون الوظيفة لا صحفى سياسى أو اقتصادى أو رياضى، ولكن «صحفى أردوغانى»، وهو المصطلح الذى بات شائعا بين العامة فى تركيا.
مثلما ضرب أردوغان بالقانون والدستور التركى عرض الحائط فعل مع القانون الدولى، عندما ذهب بالزى العسكرى يصافح جنوده على الحدود السورية التركية، وهنا كانت الرسالة أنه محمد الفاتح الجديد، القادم من جبال الأناضول، وهى نفس الرسالة التى أكدها فى كلامه عندما قال خلال أحد مؤتمراته الحزبية «إن الشرق الأوسط ينتظرنا منذ مئة عام» (يقصد منذ سقوط الخلافة العثمانية 1925).
فى غفلة من القانون الدولى احتل أردوغان مدينة عفرين السورية بحجة مواجهة الأكراد، وحسم المعركة له إخوان سوريا الذين تقدموا بجيشهم الحر أمام الجيش التركى، وكانوا أول من رفع علم تركيا وعلم الانتداب الفرنسى (ذو الثلاث نجوم) على مركز عفرين، ولم يكن عجيبا أن نرى خالد مشعل الرئيس الأسبق للمكتب السياسى بحركة حماس يشيد باحتلال تركيا لعفرين، ويجب ألا ننسى أن جماعة الإخوان نفسها جاء ظهورها كردة فعل لسقوط الخلافة فى تركيا، وكى تحمل هى الراية من بعدها.
لم يفوت أردوغان الفرصة، واستغل نصر عفرين فى الدعاية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية عبر الإعلام الموالى للحزب.
 احتلال لأراضى دولتين وتهديد الثالثة
مثلما احتل عفرين السورية وقال إنه يعتزم ضمن منبج، راح أردوغان يتوغل بريا داخل الأراضى العراقية، ويحتل منطقة إربيل فى إقليم كردستان شمال العراق، وهو ينوى الوصول لمدينة الموصل وهدد بذلك صراحة، واللافت أنه رغم كوننا بصدد واقعتى احتلال صريحتين وتعد صارخ على سيادة دولتين عربيتين لم نجد من يتحدث عن ذلك صراحة إلا الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى فى قمة العرب الأخيرة.
أردوغان هدد فرنسا نفسها قبل الأكراد عندما قال: إن تعهد فرنسا بالمساعدة على تحقيق الاستقرار فى منطقة بشمال سوريا تهيمن عليها قوات يقودها الأكراد يعادل دعم الإرهاب وقد يجعل من فرنسا «هدفا لتركيا»، وفى مشهد كوميدى ذكر أردوغان فرنسا بتاريخها الاستعمارى وجرائمها ضد الجزائر والشعوب العربية والافريقية، وتناسى تاريخ أجداده مع العرب والذى يريد إعادته للمنطقة، وهو التاريخ الدموى الذى يناطح تاريخ فرنسا الاستعمارى الف مرة.
النتيجة الطبيعية لما يرتكبه أردوغان من انتهاكات ضد القانون تمثلت فى إعلان يوهانس هان، المفوض الأوروبى المكلف بسياسة الجوار ومفاوضات الانضمام وتوسيع عضوية الاتحاد، فى مؤتمر صحفى قبل يومين أن تركيا تواصل الابتعاد بخطى واسعة عن الاتحاد الأوروبى، وبخاصة فى مجالى سيادة القانون والحقوق الأساسية.
المفوضية الأوروبية لفتت فى تقريرها السنوى حول علاقاتها مع تركيا بصفتها دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد، إلى أن أنقرة لم تحرز أى تقدم فى مكافحة الفساد، مشيرة إلى أن الأطر القانونية والمؤسسية فى تركيا تحتاج إلى أن تتطابق مع المعايير الدولية.
وقال التقرير: إن عدم ملاءمة الإجراءات المطبقة منذ محاولة الانقلاب فى ظل حالة الطوارئ، وعمليات الإقالة على نطاق واسع والاعتقال والاحتجاز، لا تزال تثير مخاوف جدية لدى المفوضية.
مثلما استلهم أردوغان حلمه من كتب التاريخ، فإن الكتب نفسها حوت قصصا كثيرة لبشر من هذا النوع جاءت مشاهدهم الأخيرة على نحو لم يكن يخطر ببالهم يوما، وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن من لا يتعلم من دروسه لا يستحق المضى نحو المستقبل.