
محمد هانى
تستحق أن تُروى
قرب نهاية عام 2019 كان الأستاذ وحيد حامد منشغلًا بكتابة الجزء الثالث من مسلسل «الجماعة» الذي لم يسعفه العمر لاستكماله، حيث رحل وقد انتهى من النسخة الأولى لتسع حلقات فقط.
فى ذلك الجزء كان الكاتب الكبير يتناول فترة السبعينيات بداية من رحيل الرئيس عبد الناصر ثم تولى الرئيس السادات مسؤولية الحكم وما شهدته السنوات التالية من أحداث كبرى وعاصفة أهمها حرب أكتوبر ثم اتفاقية السلام وما واكب ذلك من تغير جذرى فى التحالفات الدولية والإقليمية وفى المسار السياسى والانحيازات الاجتماعية بما سمح لجماعات الإسلام السياسى المتطرفة والإرهابية وفى مقدمتها «الإخوان» بالتحول من حالة «الكمون» إلى «الاستقواء» ثم «الانقضاض» فظهر تنظيم «الفنية العسكرية» وجماعة «التكفير والهجرة» وغيرهما، وعادت الاغتيالات السياسية وانتهى ذلك العقد باغتيال الرئيس السادات على أيدى سلالة الإخوان من عناصر «الجماعة الإسلامية» و«تنظيم الجهاد».
كان الأستاذ وحيد حامد يرى أن ذلك الجزء من مسلسل «الجماعة» هو الأصعب والأكثر تعقيدًا والأهم، لأن كل الأحداث التي يتعرض لها امتدت آثارها إلى العقود التالية وحتى اللحظة التي كان يكتب فيها.. وربما لهذا السبب كان يعمل بدرجة أكبر مما عُرف عنه من تأنٍ وتدقيق.. ورغم أن متاعبه الصحية كانت فى ازدياد مستمر إلا أنه قال لى إنه يتمنى أن يعطيه الله القوة ليكتب قصة الإرهاب فى مصر كاملة، ليظل خطرها حاضرًا فى الوجدان الشعبى عبر الدراما وتظل فى حوزة أجيال عاشت أو لم تعش تلك الجريمة الممتدة المتسلسلة منذ نشأت «الجماعة» عام 1928.. وقتها قلت له: إننى أعلم أن ذلك مشروع عمرك وأن تلك معركتك التي تخوضها منذ سنوات طويلة فيما تكتبه من مقالات أو ما تبدعه من دراما.. لكن ألا ترى أنه بين كل ما قدمه مبدعونا لايوجد عمل كبير يحكى قصة مصر بكل مافيها عبر العصور وهى قصة لابد أن تروى ؟ جاءتنى إجابته سريعة : ربما.. لكن قصة مصر مروية فى مجموع ما أبدعته من سينما ومسرح ومسلسلات وروايات.
المدهش - ولأن وحيد حامد يأتيك دائمًا بما لاتتوقعه – ورغم انشغاله بمسلسل «الجماعة» فقد هاتفنى بعد أيام قليلة وقال إن لديه رغبة قوية فى كتابة عمل عن نص أدبى وطلب منى ترشيح رواية ثم ضحك وهو يواصل: «ومافيش مانع يكون لها علاقة بالموضوع اللى كلمتنى فيه.. ده إذا لقيت.. أصل الفكرة عجبتنى».
فى اليوم التالى تركت له فى مقره الدائم على نيل القاهرة نسخة من رواية «أولاد الناس» للروائية الشابة ريم بسيونى التي تتناول بمزيج رائع بين الخيال الأدبى والبعد التأريخى فترة تمتد إلى مائتى عام.. من ازدهار دولة المماليك إلى الغزو العثمانى لمصر، وسط أجواء وشخصيات وأحداث تجمع بين ما يجرى فى القصور والثكنات والأحياء الشعبية بتفاصيل درامية مدهشة.
وفى أول لقاءٍ تالٍ بيننا وجدته قد قسّم الرواية الضخمة إلى ثلاثة أجزاء لتسهل قراءتها وبعد أن انتهى منها قال لى متحمسًا : «البنت هايلة – يقصد المؤلفة – أعطنى رقمها.. الرواية عظيمة وتصلح كأساس قوى لمشروع كبير يحكى قصة مصر».. وبالفعل اتصل بـ«ريم بسيونى» وأبلغها بأنه يريد تحويل روايتها لعمل درامى واتصل بالمنتج الأستاذ ممدوح سبع وطلب منه شراء حقوق الرواية وهو ما حدث بالفعل، وعندما دعانى بعد فترة إلى لقاء معه ضم الروائية ريم بسيونى والمنتج ممدوح سبع قال إنه اتفق مع مروان حامد على أن يكون مخرجًا لهذا العمل.
فى يناير 2021 رحل الأستاذ وحيد وتوقف كل شىء وخسرنا مشروعًا مازلت أعتقد أنه لو رأى النور سيكون من أعظم ما قدمت الدراما المصرية، خاصة أن «ريم» واصلت فيما بعد مشروعها الروائى التاريخى بتقديم رواياتها «سبيل الغارق» و«القطائع» و«الحلوانى» و«ماريو وأبو العباس» التي تناولت بإبداع أصيل متفرد وبجهد بحثى متميز فترات مهمة أخرى سابقة ولاحقة على الفترة التي تناولتها فى «أولاد الناس».
ولو أنى صاحب قرار لبادرت إلى إنتاج تلك الروايات فى سلسلة درامية ممتدة لسنوات فهى تمثل كنزًا حقيقيًا، وهى وإن كانت تتطلب تمويلًا ضخمًا استثنائيًا لا تقدر عليه سوى الدولة، إلا أن ما تحمله من قيمة وما ستتركه من أثر لا يقدران بثمن.