العراق يعود إلى المسرح العربى قمة بغداد بين لحظة فارقة وملفات مشتعلة

مروة الوجيه
بين أنقاض ذاكرة مثقلة بالحروب، وصوت الحاضر الباحث عن دور، ينعقد اللقاء العربى فى بغداد، مدينة الألف معنى وجرح؛ لتكون شاهدة على قمة قد تعيد تعريف التوازنات فى الشرق الأوسط.
وفى سياقٍ إقليمى يتسم بتسارع التحولات الجيوسياسية، وتزايُد تعقيد الأزمات الممتدة من ضفاف المتوسط إلى بوابات القرن الإفريقى؛ تأتى قمة بغداد لا بوصفها استحقاقًا بروتوكوليًا متكررًا؛ بل كمحطة محورية تستدعى إعادة النظر فى بنية النظام الإقليمى العربى، ومآلاته المستقبلية. فالقمة، التى تأتى فى ظل اشتباكات متجددة فى ليبيا، واشتعال الجبهات فى غزة، وتفكك مرعب فى السودان، لا تطرح مجرد أجندة من الملفات السياسية والاقتصادية؛ بل تضع أمام العواصم العربية سؤالًا وجوديًا يتعلق بجدوى العمل العربى المشترك فى زمن التصدع السيادى والانكشاف الأمنى.
بغداد تستعيد مقعدها فى الوعى العربى
ولا تقتصر أهمية قمة بغداد على رمزية استضافتها من قبل عاصمة كانت لعقود غائبة عن مراكز التأثير العربى؛ بل تتجاوز ذلك لتشكل اختبارًا عمليًا لقدرة الدول العربية على قوة تضامنها، وتفعيل أدواتها الجماعية فى مواجهة بيئة دولية باتت تتعامل مع المنطقة بوصفها منطقة حرب مفتوحة تتصارع فيها قوى الظلام الباحثة عن المساومة والهيمنة، لا مصالح الوطن والأرض.
ليست هذه القمة كأى قمة عربية مضت، فبغداد، المدينة التى كانت لعقود مرآةً لتقلبات النظام الإقليمى العربى، تستضيف اليوم حدثًا دبلوماسيًا استثنائيًا، يجرى فى لحظة جيوسياسية عصيبة، ومعقدة، ومتداخلة المصالح.
وبالقدر ذاته، تمنح هذه القمة العراق، بواقعه الأمنى والسياسى المتحول، فرصة استثنائية للعب دور الجسر بين المتخاصمين، وربما بين الأقاليم نفسها.
وقد أوضح الدكتور فواز الشمرى، الباحث فى العلاقات الدولية فى تصريحات صحفية، أن احتضان العراق للقمة ليس فقط مجرد استعادة رمزية لمكانته، مؤكد أن هذه الخطوة تعتبر رسالة واضحة بأن «التوازن الإقليمى لم يعد ممكنًا دون بغداد، وأن مراكز الثقل التقليدية لم تعد وحدها مَن تحدد مآلات السياسة العربية».
توقيت ليس بريئًا
ينعقد الاجتماع فى لحظة تتقاطع فيها أزمات الداخل العربى مع انكشافات السياسة الدولية. فالمنطقة تعيش على وقع توترات ممتدة: حرب غزة التى كسرت كل الخطوط الدبلوماسية، التقارب الحذر لإيران، والأزمة السودانية التى تهدد بتفكيك ما تبقى من الدولة... وفوق هذا كله، عودة الحضور الأمريكى بصيغة أكثر خشونة فى المنطقة، مقابل تعزيز محور «موسكو-طهران- بكين».
من جانبه، أوضح السياسى اللبنانى كريم المدهون فى تصريحات إعلامية، أن توقيت القمة الحالى يبدو كاستجابة جماعية لحاجة مُلحة، مضيفًا «إعادة تعريف الأولويات العربية، والبحث عن حد أدنى من التوافق الإقليمى فى زمن يتجه نحو قوة التحالفات».
فلسطين.. جرح مفتوح يتصدر الطاولة
المشهد فى غزة هو عنوان القمة، أو لعله اختصارها، فما يجرى فى القطاع تجاوز فكرة «العدوان الموسمى»، ليصبح معركة كسر إرادات، وساحة لتصفية حسابات دولية على أرض عربية.
فى هذا السياق، تأتى القمة لتمنح الملف الفلسطينى ثقلًا سياسيًا جديدًا، ربما يعيد طرح فكرة المصالحة «الفلسطينية- الفلسطينية»، أو حتى إعادة تفعيل مبادرة السلام العربية بصيغة معدلة.
د.نجلاء القيسى، أستاذة العلوم السياسية فى جامعة بغداد: ترى أنه «لا يمكن لأى قمة عربية أن تكون ذات معنى إن لم يكن الفلسطينيون فى صلبها، ليس كقضية فقط؛ بل كمفتاح لمعالجة التشوهات السياسية والأخلاقية فى الموقف العربى الراهن».
خرائط الدم والمصالح
كما تظهر أزمات أخرى على أولويات القمة العربية، تتناول ملفات الدول التى لا تزال خارج دائرة الاستقرار، وفى مقدمتها سوريا واليمن والسودان، وفى حين تطرح عودة سوريا للعب دور كامل فى المنظومة العربية؛ فإن اليمن لا يزال غارقًا فى صراع الأجندات، وسط ضباب كثيف فى المسار السياسى.
أما السودان، الذى ينهار تحت وطأة الحرب الداخلية، فيمثل تحديًا عربيًا ملحًا. فقضية الأمن الإقليمى خاصة على البحر الأحمر، لم تعد تحتمل المزيد من التوترات وعدم الاستقرار الذى يجلب تدخلات خارجية لا يعرف مدى تأثيرها بعد.
يقول الدكتور عبدالرحمن الطائى، الباحث فى الشئون الاستراتيجية: «المنطقة تُدار الآن من خلال الفوضى المؤطرة، وعجزت الدول الشقيقة حتى الوقت الراهن فى خلق حلول عربية خالصة.. والآن فإننا مقبلون على مزيد من التدويل لمصائرنا».
ليبيا... جغرافيا الانقسام والمصالح
وسط انشغال العواصم العربية بالملفات المشتعلة من غزة إلى الخرطوم، تعود ليبيا لتطل برأسها على المشهد من جديد، لا بوصفها مجرد أزمة مؤجلة؛ بل كعلامة على فشل جماعى فى إدارة ما بعد «الخريف العربى».
وقد شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدًا عسكريًا متسارعًا فى الغرب الليبى، وسط اشتباكات دامية بين ميليشيات متنازعة، وتدهور واضح فى الأوضاع الأمنية، وشهدت العاصمة طرابلس تصاعدًا لافتًا فى وتيرة الاشتباكات المسلحة، بين قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية وعناصر من «جهاز الردع لمكافحة الجريمة والإرهاب»، وسط تحذيرات محلية ودولية من تداعيات خطيرة على المدنيين والسلم الاجتماعى.
وكان هذا هو فتيل اندلاع أزمة جديدة فى ليبيا الجريحة، والتى لا تزال تواجه العديد من التخبطات السياسية والأمنية، ما يهدد باندلاع دورة جديدة من الفوضى المسلحة.
ويوضح المحلل الليبى مصطفى العبيدى، فى تصريحات صحفية، أن ما يحدث فى ليبيا هو عرض صارخ لأزمة الشرعية السياسية فى المنطقة، مؤكدًا «بلد يمتلك ثروات هائلة، وموقعًا استراتيجيًا نادرًا، لكنه رهينة أجندات متضاربة ومصالح لا تجد مرجعية عربية جامعة تُنظمها أو تُحصّنها».
الدور الخليجى حاضر بقوة
الحضور الخليجى فى قمة بغداد يبدو فاعلًا، لكن بطموحات تختلف عن السابق. فالمملكة العربية السعودية والإمارات وقطر لم تعد تكتفى بأدوار الدعم؛ بل تسعى إلى صياغة خريطة جديدة للمصالح والتحالفات، تبدأ من الأمن الإقليمى ولا تنتهى بالاستثمار فى إعادة الإعمار.
ووفق ما نقلته وكالة أنباء رويترز من مصادر دبلوماسية، أوضحت أن القمة العربية قد تشهد بعض المداولات غير معلنة بشأن إنشاء آلية تنسيق أمنية واقتصادية عربية تكون بغداد أحد محاورها، وهو ما يمثل تحولًا فى بنية النظام الإقليمى العربى نفسه.
الأطراف الحاضرة الغائبة
رغم أن القمة عربية فى الشكل؛ فإن حضور القوى الإقليمية غير العربية هو المتغير غير المنطوق به.
فالعلاقات مع إيران تمر بمنعطف حساس؛ خصوصًا فى ظل التصعيد فى الجبهة الشمالية بين إسرائيل وحزب الله، كذلك بعض التفاهمات الجديدة المتعلقة بدخول إيران دائرة الضوء السياسى مرة أخرى، بعد خطواتها الأخيرة مع الجانب الأمريكى.
أما تركيا، فتراقب القمة من زاوية علاقتها المتوترة مع بعض الدول العربية، لا سيما بعد انحسار مشروع «النفوذ الناعم» الذى كانت تراهن عليه.
أما إسرائيل، فحاضرة بقوة من خلال الغياب، فكل ملف مطروح، من غزة إلى لبنان، يحمل ظلالًا من سياساتها العدوانية المتطرفة التى تدفع المنطقة نحو مزيد من الاستقطاب.
بغداد.. اختبار القيادة
السؤال الجوهرى بعد انتهاء القمة هو: هل ستتحول بغداد إلى منصة دائمة للحوار العربى، أمْ أن الحدث سيُطوى فى ذاكرة المناسبات؟
الإجابة رهن بقدرة العراق على الاستمرار فى لعب دور الموازن، وعلى إرادة عربية ترى فى بغداد فرصة لا عبئًا.
يقول الدكتور فواز الشمرى فى تصريحات صحفية: «العراق قادر أن يكون (برلين العرب)، ملتقى الأضداد لا مرآة الخلافات. لكن ذلك يتطلب بنية مؤسّسية ورؤية استراتيجية لا تقتصر على اللحظة».
وأخيرًا؛ ربما لا تغير قمة واحدة مجرى تاريخ مضطرب من شدة الانقسامات، لكن قمة بغداد تقدم ما هو أكثر من بيانات ختامية: تقدم إحساسًا بإمكانية التغيير، ولو من باب ترميم الوعى العربى الذى أنهكته الانقسامات.
فالقمم ليست فقط ما يقال فيها؛ بل ما يتقرر بعدها. وما بين بغداد التى تشتهى السلام، وعواصم تنتظر إشارات وملامح الاستقرار، تبقى الحقيقة الكبرى أن المنطقة لا ينقصها الخراب؛ بل القيادة والتعاون القوى بين أشقاء عانوا على مدار عقود من نيران الحروب والانقسامات.