الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

امرأة حرة مستقلة.. ذات سيادة!

امرأة حرة مستقلة.. ذات سيادة!
امرأة حرة مستقلة.. ذات سيادة!



كامل زهيرى يكتب عن «اعتقال الكلمات» ومطابع الحرية:

حين كنت صبيًّا كنت أسكن وراء قصر الملك، وكانت مدرستى «القريبة» الابتدائية بالقرب من ميدان الأزهار، وكان طريقى المعتاد كل يوم هو شارع قَوَلَة.
وكنت أمُرُّ على بيت عتيق له بوابة خشبية ثقيلة، ولكنى فى بعض الأيام كنت ألاحظ منظرًا يتكرر، وأرى الباب الخشبى فى البيت القديم موصدًا، وأمامه جنود بملابس شتوية سوداء، ونحن فى وسط الربيع، وكان لا يبدو على وجوههم أكثر من الملل والطاعة.

ولم أستطع اكتشاف سر هذا المشهد المتكرر، ولا سر ذلك البيت الذى يقف حوله حشد من الجنود. ومهما دارت الأيام فمازلت أذكر ذلك «المشهد» حتى اليوم.
ولم أكن أعرف صغيرًا أو ساذجًا فى الوقت الذى أعود فيه من المدرسة، وقد اتسخت ملابسى، وتعفر حذائى برمل الفناء الفسيح، وزادت حصيلتى كلمة أو كلمتين، إن هناك من يقف حول «المطبعة» حتى يمنع الكلمات من أن تصل إلى الآخرين.
ومعذرة.. فلم أكن وقتها أعرف حتى ما هى المطبعة.
ولا معنى أن تدور مطبعة يختلط فيها الفكر بالخيال والحبر والورق؛ لتصبح الكلمة ألفًا أو ألفين تملأ الصفحات، ولم أكن أعرف بعد أن الكلمة ليست حروفًا، بل هى صوت الصمت، أو صدى الشوق، أو رجع القذيفة وسط الفضاء.
ولم يستطع خيالى أن يخرق الغيب وقتها.
وظننت أول الأمر وبادئ الصبا أن القراءة لعبة الكلمات.
ولم أكن أعرف، وأنا غر صغير مغزى هذا المشهد عام 1936 حين يجتمع حول مطبعة ما، فى بيت عتيق قديم، حشد من الجند، يلبسون ثيابًا سوداء وسط الربيع، ولا يبدو عليهم شىء أكثر من الملل والطاعة.
ولم أكن أعرف شيئًا عن «مصادرة» الصحف أو معنى «اعتقال» الكلمات، ولم أكن أعرف أن هناك شيئًا يتربص بالكلمات التى تكتب على الصفحات أو تقال فى المدارس أو تلقى بالجامعات. ولم أكن أعرف يومها أن هناك أوامر باعتقال الكلمة، وحظر التجول على الأفكار.
وظل هذا المشهد الغريب وصورة الجنود حول مطبعة «روزاليوسف» فى شارع قولة ثابتًا لا يبارح ذهنى بعد طول السنين.
ولم يستطع خيالى وقتها أن يخرق الغيب، ولم أتخيل أننى سأعمل فى نفس هذه المجلة «روزاليوسف» بعد عشرين عامًا، ولم أكن قد رأيت روزاليوسف نفسها، ولكن مجلتها التى تحمل اسمها كانت هى المجلة المعتمدة فى بيتنا صباح كل أحد، وكنا نحلى بالمجلة بعد وليمة الغداء يوم الأحد من كل أسبوع، وكانت مجلة لها مذاق كالفاكهة، وبألوانها وغلافها وصورها الملونة والساحرة، ومقالاتها الناقدة، حين تصور «جون  بول» المفرط فى التخمة والكآبة ساخرة من الاحتلال و«المصرى أفندى» بطربوشه وسبحته رمزًا للمواطن الوطنى، وكانت روزاليوسف ذكية ولاذعة تحمل على الاحتلال بعنف، وتطالب بعودة الدستور، وتهاجم ديكتاتورية صدقى باشا ومحمد محمود.
ولم تتحقق لى رؤية روزاليوسف وجهًا لوجه إلا بعد أن عملت بالمجلة بعد عشرين عامًا، وأحسست فيها بصلة القرابة، بالقراءة قبل الكتابة وبالحب قبل الحوار، وقد قطعت المجلة ثلاثين عامًا من عمرها منذ مولدها عام 1925 بعد الدستور بعامين، وبدأت بشقة صغيرة فى شارع جلال فى بيت أحمد شوقى أمير الشعراء، وكان الأمير قد اختار موقع بيته من ضمن عمارات الخديوى بشارع عماد الدين الذى كان عاصمة الملاهى والمسارح فى العشرينيات والثلاثينيات، ومازالت فيه بقايا مجد قديم.
وقد تنقلت روزاليوسف من شارع جلال إلى شارع الساحة بالقرب من الأهرام القديمة، وكان مقرها فى المكان الذى تحتله الآن عمارة مبالغة فى الارتفاع بلا سبب تطل على محطة بنزين فى تقاطع شارعى الساحة وجواد حسنى.
وكانت السيدة قد اعتزلت فن التمثيل تمامًا، وهى فى قمة المجد، وقالت لى بعد أن عرفتها إن الممثل عليه أن يعتزل وهو فى قمة المجد، وغامرت السيدة بإصدار أول مجلة تحمل اسم سيدة، وكتب عبدالقادر المازنى فى عددها الأول إنها نزوة طارئة، وردت عليه فى نفس العدد بعد شكر الناقد قائلة:
«ولكن الأستاذ لا يريد إلا أن يسميها نزوة.. ولتكن كذلك.. أعتقد أن كل عمل مجيد يكون فى أوله نزوة طارئة، ثم يتحول إلى فكرة، فإذا رسخت أصبحت يقينًا فجنونًا.
كنت لم أتجاوز الرابعة عشرة حينما خطر لى أن أمثل، وكانت تربطنى صلات مع أصحاب تياترو شارع عبدالعزيز، وذهبت يومًا إلى هناك وانتقيت فستانًا من المخمل الأسود الموشى بالقصب والترتر، ثم رجعت إلى منزلى الصغير بالفجالة.
وهناك أسدلت شعرى على كتفى وخطت وجهى بعد أن ارتديت هذا الفستان الذى كانت تلبسه سابقًا ممثلة دور «مارى تيودور»، وكان ذيلا طويلا يصلح لكنس المسرح، ثم خرجت إلى الطريق أتمادى فى جلال ملكات الجمال واجتزت شارع الفجالة، فكلوت بك، فميدان العتبة الخضراء حتى التياترو، وتبعنى نفر من الناس، كما أننى أحسنت كنس الشوارع بذيل فستانى «الخفافى» ولم أنتبه إلى كل هذا، إذ كان كل ما يغمر رأسى أنى أسير فى ثياب الملكة مارى تيودور.
.. أليست هذه نزوة يا أستاذى العزيز؟
ولم تكن المجلة نزوة عابرة بل عزيمة حديدية، فتحولت المجلة من الفن إلى الفن والسياسة، وبعد ستة أعوام واصلت الصحافة بإصدار جريدة يومية عام 1935 تصدرها عباس العقاد ومحمود عزمى، ورياض شمس، وكانت المطبعة فى شارع قولة، والتحرير فى شارع الساحة، وحين تكررت المصادرات والغرامات جمعت المقر- وحتى سكنها- فى شارع الداخلية ومكانها الآن مدرسة التربية النسوية، وظلت نصف عمرها أى 35 عامًا من 1925 إلى 1960 لا تملك دارًا، ولا تطبع فى مطابعها، وتنتقل بين أحياء القاهرة.. فى أماكن للإيجار، وقد تكون هذه هى ميزة تلك السيدة لأنها لم تنشئ سوى مجلة رأى، فلا تحتاج إلى إدارة ضخمة أو إعلانات كثيرة، وتعتمد على التوزيع فقط.. أى على القراء.
وفى شارع حسين حجازى- عبدالحميد سعيد سابقًا- خلف قصر الأميرة شويكار، وعلى بعد أمتار من مجلس النواب، وحى الدواوين والوزارات فى حى الصحافة فى الأربعينيات والخمسينيات انتقلت روزاليوسف المجلة، ولم يكن لديها سوى مدير «زهورات» يعمل محاميًا فى الصباح وفى المساء مديرًا.
وكانت الخزانة فى حقيبة «الست» ولم يكن فيها غرف خاصة سوى لإحسان رئيس التحرير، ثم بهاء حين ترأس صباح الخير، وعبدالغنى أبوالعينين لأنه سكرتير التحرير، وكان يشكو لها غير ساخط أنه يجلس على مكتب قديم «ما يفتتحه من أدراج لا يغلق وما يغلق لا يمكن فتحه». وكانت السيدة تؤكد له أنه يجلس على المكتب الذى كان يكتب عليه الدكتور محمود عزمى.
وقد تعلم منها إحسان فن تشجيع الشباب، لأن المجلة تفتح صدرها وأبوابها وصفحاتها للآراء الجديدة، وكان يعرف أن مرتباتنا أقل من المتوسط وطموحنا أكثر من المعتاد، فيقول لأغلب تلاميذه الذين أصبحوا أصدقاءه: «إنكم تأخذون بالباقى مجددًا».
ولم أقابل روزاليوسف إلا حين عملت بالمجلة، وكنت أعجب كيف استطاعت بقامتها القصيرة وصوتها الصغير أن تملأ المسرح الكبير، وكيف استطاعت قامة قصيرة وصوت طفولى فى فتاة صغيرة أن يخطفا الأضواء من بطلات شهيرات لهن هامات عاليات وقامات طويلة مثل دولت أبيض وصالحة قاصين، وكيف استطاعت أن تقف أمام عمالقة فى الفن وفى القامة أيضًا مثل جورج أبيض ونجيب الريحانى ويوسف وهبى، وكيف استطاعت أن تستولى على قلوب الجماهير فى رواية «غادة الكاميليا» فأطلق النقاد عليها: «سارة برنار الشرق».
ولا بد أن شيئًا غير الجمال أو القوام أو حتى الموهبة الفنية كان فى شخصيتها، ولن تستطيع اكتشاف كل ذلك ما لم تجلس إليها، فقد كان لها حضور أخاذ لامرأة لا تتكرر، لأنها سيدة قوية ومستقلة وحرة ذات سيادة.
وفازت روزاليوسف فى المسرح بلقب «سارة برنار الشرق»، وكان اسم هذه الممثلة الفرنسية يملأ دنيا الفن، لأنها كانت نجمة «الكوميدى فرانسيز»، وكانت تعرض بعض مسرحياتها الفرنسية فى موسم الأوبرا المصرية.
فكيف وصلت هذه الفتاة الصغيرة، فاطمة اليوسف أو روزاليوسف، إلى هذه الشهرة حتى يطلق عليها النقاد اسم شهرتها بأنها سارة برنار الشرق؟
لا بد أن فيها شيئًا أكثر من الأنوثة والجمال، بل وأقوى من الموهبة، جعلها نجمة النجوم فى جيلها.
وقد ظللت حائرًا فى سرها، حتى عملت فى «روزاليوسف»، وقابلتها بعد ثلاثين عامًا من إنشاء المجلة، واعتزالها المسرح.
ولن تستطيع اكتشاف سر روزاليوسف قبل أن تقابلها وجهًا لوجه، فقد أحسست عندما جلست إليها أن ما كان فيها يفوق الجمال والأنوثة والموهبة، ويمكن أن يسمى بالحاسة السادسة التى لا توهب لنساء كثيرات، كانت موهبة هذه المرأة أنها تستطيع أن تفهم الرجل من نظرة.
كانت موهبة لا تحتاج إلى تجربة، لأنها تمتعت بها فى أوائل حياتها المسرحية، ولهذا اختارت عزيز عيد وابتعدت عن يوسف وهبى، وأصبحت التلميذة زوجة ثم شريكة فى المسرحيات.
وحاسة المرأة السادسة تصبح قوية فيما نسميه الآن قراءة الغيب، وكانت الفتاة تتميز بتلك الحساسية المشتعلة، وذلك الذكاء الوقاد والقدرة على استشعار الغد أو المستقبل، وتنجح هذه الموهبة عادة فى التجديد والتغيير، لأن النظرة لا تقف عند الحدود، وتستطيع أن تتخيل الجديد القادم.
وكانت روزا دائمًا مشتعلة الخيال وتستطيع قراءة المستقبل فاستند جمالها إلى خيالها ليصل بها إلى قمة النجاح.
وليس صدفة أن تترك المسرح وهى فى قمة المجد، وليس صدفة أن يرتبط مصيرها بعزيز عيد الذى جدد المسرح فى العشرينيات، وأن يعمل فى مجلتها محمد التابعى الذى جدد الصحافة بعد صدور الدستور، لأن التابعى كان أيضًا مجددًا فى الصحافة، كما كان عزيز عيد مجددًا فى المسرح.
وكما تخلص عزيز عيد من الفخامة والجزالة والاعتماد على المؤثرات البلاغية فى التمثيل، خلص التابعى لغة الصحافة من فخامة الأسلوب الأدبى ليصل إلى اللغة السهلة البسيطة المعبرة ليصل إلى القراء. وكلا الرجلين فى المسرح أو الصحافة لعبا نفس دور التجديد والتغيير، ولهذا ظننت أن حياة روزاليوسف لم تنقطع بين المسرح والصحافة، وكان دورها الحقيقى هو البحث دائمًا عن الجديد.
وظللت دائمًا أثناء عملى فى مجلتها لا أظنها قد هجرت المسرح تمامًا، لأننا تعودنا جميعًا أن نسمعها قبل أن نراها فى الدار، وكنا نعرف قبل أن نراها أين توجد، وكان صوتها دليلنا لأن يسبقها، وكعادة نجوم المسرح الكبار قبل دخول المسرح يسبقهم صوتهم عاليا بين الكواليس لتنبيه الجمهور قبل ظهور النجم على المسرح، وكان صوتها يسبقها، فنعرف أنها وصلت إلى الباب، ثم دخلت إلى المطبعة، وبعدها مرت على الأرشيف أو دخلت غرفتها أو اتجهت إلى غرفة إحسان المقابلة.
وظللت عامين لم أقابلها وجهًا لوجه حتى التقينا فى صالة التحرير بالصدفة، فقالت لى: عايزاك، وأعطتنى موعدًا بعد أيام ولم تطلبنى، ولم أعرف السبب حتى لقيتها مرة ثانية بالصدفة أيضًا، فقادتنى إلى غرفة سكرتير التحرير الذى كان يصل متأخرًا لأنه يسهر حتى الفجر.
وأقفلت الباب، وجلست على المكتب وأنا أتفحصها لأول مرة عن قرب، كان وجهها لم يتعود على الماكياج، لأن جمالها لا يحتاج إليه كثيرًا، وكان بياضها فيه لون وردى مضىء، وقد اختارت ثوبًا من ألوان الباستيل اللطيف، وكان شعرها أبيض ولكنه ملىء بالحيوية، وأحسست أنها سيدة لا تتكرر، وتخيلت أن ثوبًا لا يستطيع أن يثبت كثيرًا فوق كتفها من روعة استدارته ونعومته، وانتظرت أن تبدأ الحديث لتقطع نظراتى المتلهفة المتفحصة.
فقالت بعد عدة كلمات: إننى أقرأ لك.
ووقفت إيذانًا بانتهاء المقابلة. وتركتنى مذهولاً أتساءل: هل كانت تريد مقابلتى لتزف إلىّ هذا الخبر، واغتظت قليلاً وكأنها كانت تنعم عليّ بلقب فارس، وتقول لى:
قم، فأنت كاتب.
وكأنها كانت تنعم عليَّ بنيشان جديد ابتكرته اسمه «نيشان القراءة».
وأيامها كنت قد بدأت سلسلة مقالاتى عن مذاهب غريبة، وبدأت ألفت الأنظار، وكان إحسان عبدالقدوس يحرضنى أن أترك المحاماة وأتفرغ للكتابة وظللت مترددًا عامين كاملين، ولم أتخذ قرارى للتفرغ للكتابة والصحافة إلا بعد أن أنعمت عليّ روزاليوسف فى تلك الجلسة القصيرة بنيشان القراءة.
عن كتاب : «أنا والنساء»