«بنى مُر».. ذاكرة آيلة للسقوط!

ابتسام عبد الفتاح
«وإنى أنتهز هذه الفرصة لأؤكد لكم محافظتى الدائمة على تقاليد الصعيد وعلى شرف أهل الصعيد، وأعدكم أيضاً أن أكون فى كل أعمالى ممثلاً للرجولة، التى اشتهر بها رجل الصعيد، فلا يخدعنى المال ولا تغرنى المظاهر، ولا تأخذنى السلطة أو يغرنى السلطان، ولكنى سأبقى دائما جمال عبدالناصر، ابن بنى مر، ابن الصعيد».
بكلماته تلك داعب الرئيس الراحل أحلام الفلاحين البسطاء فى قرى ونجوع الصعيد واستطاع أن يخلب عقولهم وأفئدتهم، ولم يكن للكلمات وحدها ذلك التأثير الطاغى على أصحاب الفطرة النقية، وإنما لصدق ما لمسوه من جانب ابنهم الذى ظل وفيًا لمبادئه مخلصا لبنى جلدته ملتزمًا بما قطعه على نفسه من تعهدات.
ليس أدل على صدق الرجل سوى حال المنزل الذى شهد ذكريات طفولته الأولى فى قرية «بنى مر» بمركز الفتح محافظة أسيوط، والذى لم يزل حتى الآن شاهدًا على البساطة الشديدة التى اتسم بها هذا الرجل على مدار 14 سنة قضاها فى حكم مصر حتى وافته المنية عام 1970.
فى مدخل القرية الفقيرة كأغلب قرى الصعيد تجد لافتة زرقاء اللون مضيئة، مكتوبًا عليها «منزل الزعيم جمال عبدالناصر»، وسيرًا على الأقدام لنحو 10 دقائق من مدخل القرية، تصادف لافتة أخرى بنفس الوصف وبنفس الكلمات، بالسير فى شوارع غير مرصوفة مكسرة، كطبيعة أغلب شوارع قرى الوجه القبلى، وقد اصطحبنا الحاج على عطية ابن عم الزعيم الراحل، حتى وصلنا لحارة لا يتعدى وسعها مترين، وإذ بباب مفتوح قد أحاطت به الأتربة والطين يمنعه من الإغلاق أو الفتح بشكل كامل.
الباب لمنزل يتكون من طابقين، مبنى بالطوب اللبن والطين، وهناك مدخل آخر لمنطقة متسعة، يظهر على أرضية هذه المنطقة طفح الآبار للمنازل الجانبية، لعدم وجود صرف صحى بالقرية، بعد الخروج من المنزل، ترى مبنى قديمًا، وقال الحاج على عطية: إن هذا المبنى يسمى بمندرة وكان خاصًا بعائلة عبدالناصر.
«مسطبة» الزوار.. هنا جلس السادات وعامر والشافعي
يعود تاريخ المنزل لعام 1905 م، تزوج فيه الحاج حسين خليل جد جمال عبدالناصر وأنجب أولاده خليل حسين، وعبدالناصر حسين والد الزعيم جمال عبدالناصر، ونشأ فى هذا المنزل أفراد العائلة، ويرجع سبب تسمية القرية بهذا الاسم لأن من أسسوها ينحدرون من أصول عربية تعود لقبيلة بنى مرة التى تنتشر فى شبه الجزيرة العربية.
داخل المنزل المكون من طابقين «مسطبة» لاستقبال الضيوف، حينما كان يأتى جمال وزملاؤه من الضباط كان يجلس عليها، هنا جلس كل من حسين الشافعى وعبدالحكيم عامر وزكريا محيى الدين وصلاح وجمال سالم، والسادات، ويوجد مسطبة أخرى للسيدات.
مدخل المنزل به زير للمياه وحمام وحوش ويوجد حجرة لتخزين الحبوب، حوش مواشى، وأما بالطابق الثانى فيضم غرفتين يمينًا وغرفتين يسارًا، غرفة كان يجلس فيها الحاج حسين خليل وزوجته، وأخرى يجلس فيها والد الحاج على عطية وأمه، والأولاد يجلسون فى غرفة والبنات تجلس فى غرفة، وجمال عبدالناصر كان يجلس وينام فى المندرة التى بجوار البيت التى أصبحت مهجورة مثل المنزل، وحينما كان يأتى مع والده وهو صغير كانوا ينامون بإحدى غرف المنزل بالدور الثانى.
الشروخ أصابت جدران المنزل نتيجة عدم الترميم منذ إنشائه وهو مبنى من الطوب اللبن ومسطح بعروق خشبية، وهو البناء الذى كان يميز بيوت القرية فى ذلك الوقت.
فى عهد مبارك 1982 أصدرت محافظة أسيوط قرارًا أن هذا البيت ممنوع هدمه، حيث سيتحول لمتحف أو مزار خاص بعبدالناصر، ولم يتم تنفيذ ذلك حتى الآن، بعد 25 يناير 2011 أهمل المنزل إهمالاً تامًا فكان يوجد به عامل من محافظة أسيوط مسئول عن فتحه وإغلاقه وتنظيفه، وبوصول الإخوان للحكم ترك العامل المنزل، ويقول الحاج على عطية: «طلبنا كثيرًا مراعاة المنزل مرة أخرى وترميم البيت وتنظيفه حتى لا يتعرض للهدم، فهناك قرار أصدر قبل ثورة 25 يناير بترميمه ولم ينفذ.
نعلم أن جمال عاش ملكًا فى قلوب المصريين، ولذلك يصعب علينا حال البيت الذى كان يسكنه نتيجة ذلك الوضع المتردى الذى يعانيه، ذلك البيت الذى يحمل كل ركن أو زاوية فيه عشرات الذكريات التاريخية قبل وبعد ثورة يوليو، فأول مرة زار فيها جمال بعد الثورة حضر معه محمد نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة، وأعلن عبدالناصر للعالم أجمع من القرية بنى مر حينما خطب الخطبة المشهورة التى قال فيها: أنا جمال عبدالناصر حسين من عائلة فقيرة وسوف أظل أعد الشعب أننا سأعيش فقيرًا وأموت فقيرًا.
زيارات الوفود من أنحاء العالم للمنزل
أكد الحاج على عطية: كانت تأتى وفود من كل الدول العربية والدول الأوروبية قامت بزيارته كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فهم يحترمون هذا الرجل الشجاع الذى كان لا يخشى الموت ويقف أمام أعدائه ببسالة غير مسبوقة، الوفود تأتى فى المناسبات سواء ذكرى مولده أو وفاته أو ذكرى ثورة يوليو، وبعد ثورة 2011 انقطعت زيارات الوفود نهائيًا وأصبح البيت مهجورًا.
يتحدث مصطفى عطية ابن عم الزعيم الراحل عن علاقة جمال بأهالى القرية قائلا: كان لديه أصدقاء من القرية بكل مراحل حياته سواء فى الصغر أو الشباب، وأعز أصدقاء عمره كان شخصًا مسيحيًا اسمه سند فرج الذى كان والده صديقًا لوالد جمال عبدالناصر، حينما وصل لرئاسة الجمهورية كان هناك اتصال دائم بينه وبين أصدقائه بقرية بنى مر وعائلته ولم يشعر أحد بأى تغيير فى تعامله معه.
علاقة عبدالناصر بأعمامه كانت قوية ففى عام 1969 أرسل عمه عطية خليل برقية يطلب فيها مقابلته، وفى الوقت الذى حدد لمقابلته كان متواجدًا مع جمال عبدالناصر حافظ الأسد والنميرى والقذافى فى ضيافته، ونتيجة اشتياقه لعمه استأذنهم لمقابلة عمه وجلس معه وتركهم رغم أنهم فى ضيافته.
حينما جاء السادات للتعزية فى وفاة جمال عبدالناصر نتيجة ظروف أمنية تحول مساره لدوار العمدة، فقال له والدى إن واجب العزاء يتم داخل منزل عبدالناصر وليس دوار العمدة، فخرج السادات من دوار العمدة متوجهًا لبيتنا، وتسبب فى بلبلة كبيرة لقوات الحراسة التى كانت ترافقه، وقال السادات لوالدى الحاج عطية: إن عبدالناصر كان يخاف الله ويخاف الشعب فإنه كان صديقًا شخصيًا لى، وطلب من والدى أن يختار الأرض التى يريد بأى مكان بمصر لبناء منزل فيها له، وأعطى تعليمات لمحمد عثمان إسماعيل ببناء منزل والدى عطية على الأرض التى نسكن عليها الآن.
يروى مجدى سلطان ابن عم عبدالناصر واقعة ذات دلالة عن تأثر جمال بإعدام عمه من قبل الإنجليز فى نفس يوم ميلاد عبدالناصر 15 يناير 1918 قائلا: عمى كان يعمل بالإسكندرية، حينما تم اغتصاب سيدة بالشارع العام فقام عمى عبدالباسط حسين وهو أكبر أبناء جدى حسين بضرب ضابط إنجليزى وقتله، وهرب على أسيوط ثم القاهرة ومنها إلى مرسى مطروح، وهناك تم القبض عليه وحكم بالإعدام، وكانت تم رواية تلك القصة من خلال عمى عبدالناصر لابنه جمال عبدالناصر، وتأثر بها كثيرًا، حيث أعدم الإنجليز عمه رغم وجود حكومة مصرية فى وطنه مصر، وأحس حينها أن الشعب مسلوب الإرادة، وأن السلطة المصرية موالية للاستعمار، وأنه يجب التخلص من ذلك الاستعمار، وفكر بضرورة أن يحصل الشعب المصرى على حريته وأن يحكم مصر حاكم مصرى، ففطرة عبدالناصر الثورية كانت من أيام طفولته.
عبدالناصر فى عيون أهالى «بنى مر»
تلتقط أسماء حسين ابنة عم الزعيم جمال عبدالناصر طرف الحديث لتقول: لو كانت طبقت نفس السياسة عبدالناصر لكانت مصر فى مكان مختلف عما هى فيها الآن، فهو كان يتمنى أن يصل بمصر أن تكون دولة إنتاجها ذاتى، فمصر بعهد عبدالناصر كانت قوى عظمى متحالفة مع الاتحاد السوفيتى، وتابعت: فكل من يحب جمال عبدالناصر يتمنى تقديم المساعدة لى لمجرد علمه بالصدفة بصلة القرابة بينى وبين الرئيس الراحل، ولكنى أرفض فعبدالناصر كان يكره الوساطة فكيف لى أن أسعى لتحقيق وساطة حتى لو كانت من خلاله.
محمد خليل، يعمل مدرسًا وأحد أبناء القرية بنى مر يقول: إن عبدالناصر كان رمزًا للعرب كلهم وليس قرية بنى مر فقط، وفخر لأى شخص ينتمى لقرية عبدالناصر عندما يتحدث بأى دولة فى العالم بأنه من قرية مسقط رأس جمال عبدالناصر يتم الترحيب بنا، وأتمنى أن يخرج من قرية بنى مر من يستكمل مسيرة عبدالناصر، كما قال عبدالناصر: «فإذا مات عبدالناصر فكلكم عبد الناصر»، والاعتزاز بعبدالناصر فى كل شيء بالقرية سواء المدرسة أو المستشفى أو قصر الثقافة.
ويؤكد ناصر محمد أحد أبناء القرية بنى مر: إن أهالى قرية بنى مر مازالت تسمى أبناءهم على اسم جمال وناصر وأن نصف القرية ما بين اسم جمال وناصر، واسم جمال يفتخر به أى مصرى، وأكد أن أهالى القرية يحرصون على زيارة الضريح الخاص به، وطالب بوضع تمثال لعبدالناصر بالقرية قائلا: نحن أحق بعبدالناصر والذى يوجد له تمثال داخل مصر وخارجها ولا يوجد تماثيل بقرية مسقط رأسه، كما يجب أن تهتم بها الدولة أكثر فالبلد لا يوجد به صرف صحى والغاز الطبيعى والطرق مهملة والمستشفيات سيئة جدًا بسبب نقص الخدمات.