خمر الصالحين

ابتسام عبد الفتاح
فى جلسة جمعتنى بأصدقاء من عدة دول أفريقية ما بين الجزائر والمغرب وتونس وإريتريا وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى فى مكتب زميلة سودانية بوسط البلد، سألونى: ماذا تشربين؟ فقلت: «قهوة مظبوط»، فدار الحديث حول القهوة والبن فى بلد كل منا، فاكتشفت أن كل بلد له طقوسه فى القهوة، حتى إننا التقينا لعدة أيام تباعًا لنجرب مذاق قهوة كل بلد على حدة، واختلف المزاج من بلدٍ لآخر، وأصبح كل حديثنا عنها، وتعجبوا من تسميتى لها بـ«خمر الصالحين»، وأننا فى مصر نصل فى عشقنا لها إلى حد الإدمان وبمذاق مختلف.
بعض صديقاتى حاولن تحويل دفة الحديث عن أى أنواع البن أفضل، كان هناك انحياز واضح للإثيوبى والبرازيلى، وبعدهما جاء الكولومبى، لكننا اتفقنا على أن يكون الحديث فى مناقشاتنا على «القهوة السادة»، لنقف على مساحة ومسافة واحدة.
فى مصر القهوة حاضرة فى الحزن والفرح وواجب الضيافة وجلسات الصلح؛ فيما يحافظ الخليج العربى على طقوس تقديم القهوة التى توارثها جيلاً بعد جيل، إذ تقدم القهوة للضيوف وقوفاً، وتُمسك باليد اليسرى، بينما يُقدّم الفنجان باليد اليمنى.
وفى عدة بلاد، يجب أن تبقى واقفًا حتى ينتهى الجميع من شرب قهوتهم، ويُفضّل تقديم فنجان ثانٍ بعد انتهاء الضيف من فنجانه الأوّل، وتشتهر فى السعودية «الدلة»، وهو الإناء الذى تحضّر فيه القهوة، لاختلاف شكلها عن باقى الأوانى المستخدمة لإعدادها، ولها طقوس فى تقديمها، فيجب عدم ملء الفنجان بأكثر من نصفه، رغم صغر حجمه، وهو ما يُعرف بـ«صبة الحشمة» عند العرب، والتى تعنى تقديم القهوة فى ثلث الفنجان فقط، وفى حال زادت الكمية عن ذلك فهذا يعنى أن الضيف «غير مرحب به» وعليه المُغادرة، أما «هز الفنجان»، فهو إشارة من الضيف إلى الاكتفاء من شرب القهوة، وإن لم يهز الضيف الفنجان فهو إشارة بالاستمرار فى تقديمها، ويحرص أهل الخليج على تعليم أبنائهم طقوس القهوة، وطريقة الضيافة كأن يستمر الابن فى الوقوف حاملاً لدلة القهوة ليستمر فى صبها لهم، والفنجان الأول يطلق عليه «الهيف» ويشربه المضيف ليثبت للضيف أن القهوة ليس بها ما يؤذيه، أما الثانى فهو «فنجان الضيف» ويشربه للإكرام والمعزة، والثالث يطلق عليه «فنجان الكيف» ويشربه الضيف بهدف الاستمتاع بطعم القهوة، والأخير «فنجان السيف».
عربيًا كانت اليمن من أكبر مصدرى البن فى العالم حتى للبرازيل المعروفة بـ«أم البن»، ويطلقون على القهوة فى صنعاء «بنت اليمن»، وللقهوة اليمنية بعد صوفى، وتبدأ طقوسها هناك بتجفيفها فى الشمس ثم تحميصها بعد نزع «القشر» منها، ثم طحنها، وتُقدم للسيدات بعد الولادة لمدة 40 يومًا.
فى العراق تقدم القهوة وقوفًا وتُمسك الدلة باليد اليسرى، وتُقدم الفناجين باليد اليمنى، بالإضافة إلى الانحناء احترامًا أثناء تقديم الفنجان.
أما فى مناطق الشام، فهناك القهوة البنية السمراء التى تشتهر فى سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وتُشرب مغلية كل صباح على أنغام فيروز، وعادة ما تقدم القهوة مرتين للضيوف، مرّة فى أول الجلسة والأخرى فى آخرها، وتعرف بقهوة (أهلاً وسهلاً) وقهوة (الله معكن)، وتقدم القهوة فى الشام فى حالات الخطوبة، بعد الموافقة على طلب المتقدم، ففى حالة ذهاب الشخص إلى أهل الفتاة التى يريد الزواج منها وطلبها للزواج وقدم أهلها القهوة، فهذا يعنى موافقتهم على طلبه، أما فى حالة رفضهم طلبه فلن يقدموا هذا المشروب المبهج.
وتشتهر فى لبنان القهوة البيضاء، ويرجع أصلها إلى ماليزيا، وتكون خاليةً من الكافيين، وتتكوّن من ماءٍ مغلى وماء زهر، ونعناع وهال.
كما تتميز القهوة فى بلدان المغرب العربى بالنكهات والأعشاب مع طبق الحلويات، ففى الجزائر تُصنع القهوة بالعاصمة ويضاف لها ماء الزهر والياسمين وتصب فى أوانى الفضة وتتجمع النساء وتحضر كل منهن طبق حلويات أو طبق تسالى ويتم تناول القهوة بالساعة الرابعة، وطريقة تحضيرها غلى الماء ثم وضع القهوة وتقليبها 3 مرات ثم تصفيتها وشربها بدون وش ويرش عليها ماء زهر وتسمى قهوة بالمظهر، أما بجنوب الجزائر فتُحضر القهوة الشيح بالفلفل الأسود وهى ذات مذاق مميز، ويوضع بها المياه بالأسفل ويوضع البن بقمع خاص بالماكينة فيختلط البن بالماء ويستخرج من الماكينة القهوة الكلاس، ولا تختلف تقاليد القهوة بتونس، لكن تناولها أساسى فى الصباح وبعد الظهر والعشاء وهى المشروب الأساسى فى الزيارات.
فى المغرب تحضّر القهوة بطريقة مختلفة، وتتميّز برائحتها لما تحتويه من أعشاب، ويُضاف إليها جوزة الطيب وعيدان القرفة والقرفة المطحونة والزنجبيل.
يفضل السودانيون تسميتها بـ«قعدة الجبنة»، والتى تتكون من البن اليمنى والإثيوبى، حيث يتم غسل البن ثم وضعه تحت الشمس لتحميصه، وطحنه على أنغام موسيقى «التنتانة»، حيث يحضر المضيف الدق «يد الهون» لإصدار نغمة «التنتانة» أثناء طحن البن، ثم يعرض على الحاضرين ليشموا رائحته ويوضع فى الشرارة (الكنكة) حتى يغلى ويُوضع الجنزبيل والحبهان عليه، والمُفضل من بهارات البن لتحويجه ثم تصفيته بـ«الإشمك»، كما يفضلون شرب «المديدة» قبل قعدة الجبنة فى الصباح وهى تشبه السحلب بمصر، حتى تساعد المعدة على استقبال شرب الجبنة القهوة طوال اليوم ثم يفطرون بعد قعدة الجبنة، وكل شخص بالسودان يحمل قهوة وسكر عند ذهابه للعمل وبعد عودته تجهز قعدة جبنة مرة أخرى عند «القيلولة»، وبين المغرب والعشاء يتم تجهيز قعدة جبنة أخرى.
أما غرب وشمال السودان فهناك طقوس أخرى فى تقديم القهوة، فكل شخص يشرب القهوة منفردًا، فإن حضر ضيف له فلم يقدم القهوة الجبنة للضيف بعد أن تنتهى الجبنة الخاصة به.
فى بلاد الحبشة (إثيوبيا) لا يمكن لمن يمشى فى شوارعها ألا تستوقفه رائحة «جابانا بنة» وهى اسم القهوة الحبشية باللغة الأمهرية التى يتحدثها الإثيوبيون، وتعتبر القهوة الإثيوبية أو الأورومية من أجود أنواع القهوة، ولها طقوسها التى تبدأ بجمار هادئة تفوح منها رائحة حبوب القهوة المقلاة والتى توضع بعد حين فى قدر وتغلى لوقت معين ثم تُقدم للجالسين؛ ففى إثيوبيا يحضر الأصدقاء والجيران داخل الحى يوم الثلاثاء من كل أسبوع لتجهيز القهوة، ويتم تبادل مكان تناولها فيما يُعرف بـ«جلسة القهوة» وكل الحاضرين يحضرون كراسيهم والطاولة والفنجانين والبن والسكر والتسالى من جانب الحضور أو تجميع نقود من الحضور ليقوم الشخص الذى سنجتمع عنده بالمرة القادمة، بالإضافة إلى ارتباط المرأة الإثيوبية بالقهوة، وأول شيء تتعلمه الفتاة من أمّها هو طريقة إعداد القهوة.
لا تصبح الفتاة الإثيوبية زوجة إلا بعد اجتيازها اختبار القهوة التى تعدها ويتذوقها العريس أولاً، وكذلك الخاطبة التى تختار العروس.
فى إريتريا تبدأ طقوس تحضير القهوة بتحميص البن بطريقة مختلفة، ويكون لونها أسود، تُطحن ثم تمر على الحاضرين لاستنشاقها ثم وضعها فى جبنة مصنوعة من الفخار وتوضع داخل الكانون بعد تقليبها ويفتح عليها النار، ويجلس الأشخاص بشكل دائرى مع الفشار والمبخر الذى يوضع عليه البخور.
والقهوة بإريتريا لا يمكن الاستغناء عنها بأى وقت، وتُحضر فى ساعة كاملة، وعند تجهيزها للضيف ينبعث فى نفسه ترحيبك.
أما بأفريقيا الوسطى وتشاد فتوضع فى إبريق، وتتشابه طريقة تحضيرها مع طريقة تحضير الشاى، بعد تحميص البن ثم طحنه وإضافة «التحويجة» التى تحقق المذاق المطلوب، وتُوضع المياه على النار، وبعد غليها يضاف البن والسكر عليه ويترك ليغلى مرة أخرى لمدة دقيقتين ويضاف عليه الجنزبيل والحبهان، ويفضل الإريتريون شرب القهوة بعد العصر ووقت القيلولة.
تشتهر السنغال بقهوة «توبا»، والتى يمكن الحصول عليها بكثرة فى العاصمة «داكار»، وتُخلط هذه القهوة مع فلفل Guinea الحار والسكر؛ مما يعطى لها مذاقًا مختلفًا، ويُشترط تقديمها بـ«وش»، مثل تركيا التى يُشترط فى قهوتها أن تُقدم بطبقة علوية وسميكة، وتقديم القهوة بدون «وش» يعنى أن الضيوف غير مُرحب بهم، ومن أغرب عادات وطقوس القهوة فى تركيا أن أهل العروس يقدمون قهوة يضاف لها ملح بدلاً من السكر، للعريس عند قدومه لطلب يد ابنتهم للزواج، ويجب على العريس أن يشربها بالكامل دون تذمر وإلا لن يتم الزواج.
شعب فنلندا الأكثر استهلاكًا للقهوة على مستوى الفرد، حيث يفضلون القهوة الخفيفة المحمصة على وجه الخصوص، ودول وسط أوروبا: ألمانيا، النمسا، وهولندا، يفضلون القهوة متوسطة التحميص، فيما يفضل الفرنسيون والإسبان والطليان القهوة المحمصة كليًا، رغم أنهم يشربون كميات قهوة أقل.
إيطاليا المنزل المثالى للقهوة، فهى بلد يعد فيه تناول الإسبرسوّ مقدسا، فإذا طلبت تناول فنجان من القهوة فى إيطاليا فسوف تتلقى فنجانًا من قهوة الإسبرسوّ مباشرة، وهو النوع الذى يمكن تناوله فى أى وقت من الأوقات خلال اليوم، وذلك لأخذ فرصة للراحة فى وقت قصير، وعادة ما يمكنك الوقوف على منضدة فى الكافيتريا، حيث يمكنك إنهاؤها فى بضع ثوانٍ، ويُتناول فى رشفتين أو ثلاث، وفى حالة إذا كنت تحتاج إلى جرعة إضافية من الكافيين، يمكنك أن تطلب «كافيه دوبيو (فنجان قهوة مزدوجة)».
وهناك طقوس ثابتة للطليان فى القهوة من أهمها أن تشرب كابتشينو أو لاتيه ماكيتو أو أى نوع من القهوة المضاف إليها الحليب فى الصباح فقط يصاحبها مذاق الحلوى مثل الكرواسون، ولا تتناول بعد الأكل مطلقا. ويفضل الإيطاليون تناول قهوة الإسبرسوّ عقب تناول الغداء والعشاء أو المساء.
فى هولندا، ترتبط القهوة بـ«كوفيتجد» وهى استراحة تناول القهوة ويشربها الهولنديون لبدء يومهم بنشاط، وذلك للحصول على الطاقة ولإنشاء صداقات جديدة.
فى فرنسا يبدو الأمر مختلفًا، فهى الأشهر على مستوى العالم فى أساليب التمتع بالحياة، والقهوة جزء من الحياة السعيدة، فتصنع باستخدام ماكينة أو المكبس الفرنسى الذى تم اختراعه فى فرنسا بحلول القرن العشرين، ورغم تفضيل الاستهلاك المنزلى الأكثر خصوصية، فلا يزال يوجد مقاهٍ شهيرة جدا فى فرنسا تحافظ على هذا التقليد العريق، حيث عادة ما يطلب الزبائن تناول القهوة مع حليب، والتى تقدم مع الكرواسون أو شرائح التوست مع القليل من المربى.
السويد تشتهر بأجواء خاصة لتناول القهوة تسمى بالفيكا fika وهى واحدة من أهم الطقوس السويدية لشرب القهوة، حيث تُؤخذ استراحة لتناول القهوة مع الأصدقاء والعائلة، وخلال ساعات العمل يأخذ معظم العمال استراحة واحدة على الأقل خلال اليوم العادى، وفى كثير من الأحيان يتم أخذ استراحتين الأولى فى التاسعة صباحًا والثانية فى الثالثة بعد الظهر لتناول القهوة.
القهوة الهندية المُصفاة مختلفة كثيرًا، وتُعرف أيضًا باسم كابى، حيث يُخلط الحليب المغلى مع مسحوق القهوة الناعم ويُصفى باستخدام الفلتر الهندى التقليدى، وعادةً تقدم فى أكواب مصنوعة من ستانلس وتُشرب بعد الغداء والعشاء والكابى المشروب المفضل لدى الرجال.
الأمريكان أيضًا يعشقون القهوة، فسواء كان مطعمًا أو متجرًا للخبز فبمجرد أن تهز رأسك فهذا يعنى أنك تريد رسك فإيماءة عبوة مجانية من القهوة.
القهوة المكسيكية Café de Olla وهى القهوة الممزوجة بالقرفة وقصب السكر وتنبعث منها رائحة تشبه العسل الأسود رائعة المذاق، وعادةً ما يتم تقديمها فى المقاهى فى جميع أنحاء المكسيك فى أكواب خزفية من الطين الأحمر.
فقد أصبحت القهوة جرعة يومية أساسية لا يهم كيف أو أين فى جميع أنحاء العالم، حيث القهوة تجمع الناس معًا مع تشجيع التنشئة الاجتماعية.>