الجمعة 20 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

شادية.. والرجال

شادية.. والرجال
شادية.. والرجال


إن كنت ممثلاً ميلودراميًا جادًا كـ«حسين صدقى»، «عماد حمدى» أو «شكرى سرحان». إن كنت «جانا» رومانسيا كـ«رشدى أباظة»، «عمر الشريف» أو «كمال الشناوي». إن كنت ذا صوت عذب تذوب من رقته القلوب مثل «عبدالحليم حافظ» أو «محمد فوزى». إن كنت كوميديانا لا مثيل له مثل «إسماعيل ياسين»، «فؤاد المهندس» أو حتى «شكوكو». أو كانت تجتمع عندك الجدية والرومانسية وخفة الظل مثل «حسن يوسف» أو «صلاح ذو الفقار» سوف تجد أنها تتلون معك وتساير قدراتك المحدودة بقدرتها الجبارة على التقلب من نوع لآخر.
ومن غيرها تفعلها وقد حيرت العقول والأقلام لسنوات طويلة لمعرفة أيهما أقدر؟ «شادية» المطربة أم الممثلة،  الجادة أم الكوميدية، الرومانسية أم المغرية؟. ربما لم تنجب السينما غير ممثلة واحد قادرة على عمل كل وأى شيء مثل «شادية». وهى التى جسدت شخصيات أصعب الكتاب وأسهلهم من «نجيب محفوظ» و«على أمين» لـ«يوسف جوهر» و«أبوالسعود الإبيارى ووقفت أمام كاميرا أقدر المخرجين وأبسطهم من «حسن الإمام»، «كمال الشيخ» و«يوسف شاهين» وحتى «فطين عبدالوهاب»، «حسام الدين مصطفي» و«أشرف فهمي».
114 فيلما منذ عام 1947، وحتى عام 1987، قدمتها شادية مع عشرات الفنانين من ممثلين ومطربين، كتاب ومخرجين،وقد استطاعت أن تلائم الجميع باقتدار شديد. فى السنوات الأولى كانت بداية الالتقاء مع اثنين من «جانات» العصر «عماد حمدي» و«كمال الشناوى».. أما «عماد حمدي» والذى تزوجت منه لاحقا - رغم فارق العمر الذى يصل إلى 25 عاما - فقد التقت به فى عدد من الأدوار فى شخصية الحبيبة الأصغر سنا.. مثل «أقوى من الحب» فهى الفتاة الشابة التى تقع فى غرام رجل كبير ومتزوج. وهى الفتاة التى وقعت ضحية الأخ الأصغر المستهتر وقام الأخ الأكبر - عماد حمدى - بإصلاح الخطأ والزواج منها فى «شاطئ الذكريات» وهى الفتاة الشابة التى يقع فى غرامها الرجل الكبير سنًا فى «المرأة المجهولة» وهى أيضا الفتاة الشابة التى تضطر للارتباط برجل يكبرها بسنوات لأنه تبنى ابنتها غير الشرعية فى «امرأة فى دوامة».
كان هناك مجهود كبير يبذل فى تبرير العلاقة بين الاثنين فى الـ 15 فيلمًا التى قدمتها «شادية» مع الـ«جان» الذى كان فى طريقه للذبول. والذى ظهر فيما بعد فى أحد أعماله معها وهو فيلم «ميرامار» كرجل حكيم يحاول حمايتها من أطماع الرجال شبابا وشيوخا . أما التعامل مع الـ«جان» الجديد «كمال الشناوى» فقد كان أكثر سهولة وكان الثنائى أكثر توافقا على الشاشة، ليحققا معا (23) فيلما كانت معظمها تدور حول قصص حب بسيطة وسهلة تندرج تحت نوعية الأفلام الرومانسية الخفيفة التى لا تخلو من بعض الأغانى السريعة ونفحة كوميدية تولى أمرها دائما «إسماعيل ياسين» الذى يمثل هو الآخر البطل الأكثر تعاونا مع «شادية» حيث وصل عدد الأفلام التى قدماها معا إلى (25) فيلمًا. وقد كان «إسماعيل ياسين» هو البطل الذى كشف عن إمكانية جديدة لدى «شادية» وهى القدرة الكوميدية التى استغلها فيما بعد بتمكن المخرج «فطين عبدالوهاب» فى سلسلة من أهم أفلامها والتى قدمتها مع شريك جديد على الشاشة وفى الحياة هو «صلاح ذو الفقار» مثل «عفريت مراتي»، و«مراتى مدير عام» ومع واحد من أهم «جانات» السينما المصرية «رشدى أباظة» فى «نصف ساعة جواز» و«الزوجة رقم 13».
حتى منتصف الخمسينيات كشفت «شادية» عن وجهين رومانسى وكوميدى، ليأتى بعدهما ضرورة استغلال إمكانية أكبر وهى الغناء. وعلى الرغم من أن أول ظهور لها على الشاشة كان أمام المطرب «محمد فوزي» فى فيلم «العقل فى أجازة» و قدمت معه فيما بعد أفلام «الروح والجسد»، «صاحبة الملاليم»، «الزوجة السابعة» و«بنات حواء». إلا أن «شادية»  و«فوزى» شديدا الخفة، المنطلقين، المرحين لم يكونا ثنائيًا فى هذه الأفلام. وإنما كانت دائما البطلة الأصلية ممثلة أخرى ثقيلة ومتجهمة شكلا ومضمونا. وإن كان «فوزى» لم يكن بحاجة لمزيد من المرح فى طبيعته فقد كان «فريد الأطرش» فى حاجة لمرح «شادية» وقد تمكن من التقاط مفتاح هذا المرح وعرف كيفية التحرر من قيود التجهم والكآبة فى واحد من الفيلمين اللذين شاركتهما بطولته وهو «أنت حبيبي». أما الأفلام الغنائية الأهم فقد كانت ثلاثية «لحن الوفاء»، «دليلة»، و«معبودة الجماهير» التى شاركت فى بطولتها مع «عبدالحليم» لتحقق أكبر نسبة مشاركة معه فى أفلامه الـ(16).. السر فى هذا الحضور ربما نفهمه من رد «حليم» عندما سئل عن سبب تكرار التعاون معها لثلاث مرات فقال: «شادية على قدنا».. مشيرا إلى قصر قامتها مثله. كانت «شادية» هى الشريك المثالى لعبد الحليم من نواح كثيرة وهذا ما جعل التناغم واضحًا بين الاثنين وجعل العلاقة شديدة القبول والتصديق.
فيما بعد ودون قصد تبدأ «شادية» فى التحول من ممثلة الأدوار العادية للفتاة الموجودة فى كل بيت، والتحول - بالمصطلح الشعبى - من أدوار البنت (الغلبانة) إلى «حميدة»، إحدى بنات أفكار «نجيب محفوظ» فى رواية «زقاق المدق» التى يصفها فى الرواية بأنها «كانت عاهرة بالسليقة».. وهو وصف صعب أن تفهمه ممثلة عادية والأصعب أن تجسده وتجيده دون مبالغة ولكنها تمكنت من الاثنين من الوصف والشخصية. لتجعل «محفوظ» يعترف بأنها أدت الدور كما كتبه وكان يحس بكل خلجة من خلجات «حميدة» فى «زقاق المدق». لم تكن قوة «حميدة» طاغية على المشوار الفنى فقط لـ«شادية» وإنما امتد تأثيرها إلى قوة شخصيتها فى الحياة،ويتجلى ذلك فى واقعة حدثت بالفعل أثناء التحضير للفيلم، واقعة قهرت فيها «شادية» الملحن الأقوى فى تاريخ مصر وهو «محمد عبدالوهاب» حيث تحدث المخرج «حسن الإمام» مع «شادية» حول ضرورة اختيار أغنية واحدة فقط من أُغنيتين تم تلحينهما لصالح الفيلم، وكان المُبرر أن وجود أغنيتين معاً بالفيلم سيكون بلا معني!.. كانت إحدى الأُغنيتين من ألحان  «عبدالوهاب» والثانية لـ«محمد الموجي».. وبعد أن قرر «حسن الإمام» اختيار أُغنية «عبدالوهاب»، اعترضت «شادية»، وذلك لأن أُغنية «الموجي» ملائمة أكثر للخط الدِرامى للفيلم، فصُعِقَ «حسن الإمام» من حديث «شادية»، وقال لها: «لا يا ستى اتصلى أنتِ بعبدالوهاب قولى له الكلام ده»!.. وبالفعل اتصلت «شادية» بـ«عبدالوهاب» واعتذرت له، فوافق «عبدالوهاب» ظاهرياً، لكنه قرر ألا يتعاون مع «شادية» مُجدداً، وكان يضطر للتعاون أحياناً فقط حين يُكلف مثلاً بتلحين أَغانى وطنية تكون بها «شادية»!.. لم يصمُت «عبدالوهاب» عما حدث، بل أطلق تصريحات أغضبت «شادية»، حيث  قال: «شادية صوتها لا يسوى قُروش لكنها تقدم فن يِسوى ملايين».. ولم تُعلق «شادية» أبداً!.. بل وغنت أُغنية «عبدالوهاب» المُؤجلة من فيلم «زُقاق المدق»، فى فيلم «وادى الذكريات» عام 1979.. الأغنية التى نتحدث عنها هى «بسبوسة»! .
 كان التمهيد لـ«حميدة» التى ظهرت على الشاشة عام 1963، من خلال دور صغير لكن مؤثر لعاهرة أخرى هى «نور» فى «اللص والكلاب» عام 1962، ولحقه شخصية أصعب من الاثنتين، عاهرة ثالثة  ولكن مستترة، هى «كريمة» فى «الطريق» 1964، هذه الأدوار الصعبة المثقفة التى قدمتها «شادية» على الشاشة نسجت علاقة جديدة بينها وبين رجل آخر، هو نابغة الأدب «نجيب محفوظ» الذى يقال إنه وقع فى غرامها فى الحياة أيضا مثل باقى الرجال الذين عملت معهم. ولم يتمكنوا من مقاومة السحر الغريب لتلك المرأة التى ربما تجتمع بداخلها كل النساء.. الشخصيات الدرامية الثلاث ولاحقا انضمت لها «زهرة» فى «ميرامار» 1969 و«كريمة» فى «ذات الوجهين» 1973، كانت من أهم ما قدمت «شادية» خاصة الأربعة أفلام الأولى. ليس فقط لأن الأعمال نفسها كانت من روائع صناعها ولكن لأن «شادية» أبدعت فى كل شخصية وتوافقت بشكل غير عادى مع الأبطال والمخرجين وكانت من أكثر الممثلات قدرة على رؤية واستيعاب شخصيات «نجيب محفوظ». ليس فقط فى التقاط تفاصيل الشكل الخارجى لكل شخصية منهن وكأنها كانت تنقلها نقلا من الورق إلى الشاشة، فـ«نور» فى «زقاق المدق» كان مطلوبا أن يكون لها ظهور مضيء فى كل مشهد تؤديه وهو ما حدث بالفعل، وأسلوب الحركة والكلام فى «زقاق المدق» والصمت الذى كان أبدع من أى حوار لدرجة أن طريقة نطق الكلمات كانت تبدو ثقيلة لأنها تخرج من لسان غير متمرس على كثرة الكلام فى «الطريق». أيضا مظهرها الخارجى فى «ميرامار» والتقاطها لروح وطبيعة الفلاحة التى تأتى إلى المدينة فتتعامل بتحفظ حتى لا يسخر من أدائها ولهجتها أحد، كيف تقنعك «زهرة» أنها قادرة على نيل إعجاب جميع الرجال من حولها من الثائر المثقف للأفاق ومن العجوز العاقل للمتصابى وحتى بائع الجرائد، هذه الروح التى تمتلكها «زهرة» هى أقرب لروح «شادية» التى استطاعت أن تجذب الجميع إليها وتتناغم مع شتى أنواع الرجال، حتى وإن كانوا من ثنائى الكوميديا الأشهر فى الوطن العربى «دريد لحام» و«نهاد قلعي» اللذين شاركتهما بطولة فيلم «خياط السيدات» أو كانوا فنانين من اليابان مثل المخرج «كوناكا هيرا» أو الممثل «ايشيهارا يوجيرو» اللذين قدمت معهما فيلم «على ضفاف النيل».
مرور الزمن لم يقيد أو يمحو أيًا من جاذبية «شادية» فقد واصلت العمل مع جيل جديد من الكتاب والمخرجين والممثلين دون أن تشعرك بأنها كبرت عمرا أو تتعامل على أنها عالية المكانة فى الوسط الفنى. فكانت دائما تشجع المواهب الشابة وتتعاون معهم وكان أوفرهم حظا المخرج «أشرف فهمي» الذى تعاونت معه فى أربعة أفلام منها آخر فيلم ظهرت به «لا تسألنى من أنا».
 «شادية» كانت مثل حجر المغناطيس الذى كان يجذب كل من حولها من رجال فى الخيال والواقع، من أمام وخلف الكاميرا.>