الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

إنقاذ «البراءة» المعذبة على الرصيف

إنقاذ «البراءة» المعذبة على الرصيف
إنقاذ «البراءة» المعذبة على الرصيف


لم يكن الطفل عبدالرحمن فكرى الذى هزت قصته الرأى العام ولقب إعلامياً بـ «الراقص مع الكلاب» سوى  واحد من بين ما يزيد على 16 ألف طفل يعيشون فى الشوارع، لكن قدر عبد الرحمن أن رصدته عدسات الكاميرات وأصبح حديث الناس، وتسابق عليه عشرات من رجال الأعمال والمتطوعين لمحاولة إنقاذه وتوفير مأوى له.
آلاف الحكايات أبطالها ضحايا يسيرون يوميا فى الشوارع لا يجدون من يحنو عليهم أو يمد لهم يد العون لإنقاذهم من الحالة التى وصلوا إليها ربما بسبب التفكك الأسرى أو ممن ليس لهم نسب، لم يجدوا العطف إلا من الأرصفة يلجأون إليها كل مساء لعلها تحميهم من برد الشتاء، ويستظلون بأشجار الشوارع وحوائطها من حرارة شمس الصيف.
هم دائما فريسة لأصحاب النفوس المريضة ممن يرغمونهم على العمل فى الشوارع أو يدفعون بهم ليكونوا ضحايا عصابات الإتجار بالبشر، والاعتداءات الجنسية، والتسول والدعارة، وهو ما دفع الرئيس عبدالفتاح السيسى للإعلان عن مشروع قومى يعالج ظاهرة أطفال الشوارع، من خلال التعاون بين صندوق تحيا مصر، ووزارة التضامن.
تفاصيل المشروع بالأرقام
المشروع الذى يطلق عليه «أطفال بلا مأوى»، يجرى تنفيذه فى 10 محافظات تم اختيارها بعد إجراء مسح عام 2014 لتحديد عدد الأطفال الذين ليس لهم مسكن على مستوى الجمهورية، حيث اتضح أن 80 % من الأطفال بلا مأوى متمركزين فى محافظات «الجيزة والقاهرة والقليوبية والإسكندرية والمنيا والشرقية والسويس وبنى سويف والمنوفية وأسيوط».
يستهدف المشروع إيجاد مأوى لما يزيد على 16 ألف طفل، فى 2558 نقطة تجمع، بالإضافة للأطفال العاملين فى الشوارع، من خلال  17 وحدة متنقلة، وكل وحدة متنقلة بها خمسة أشخاص.. سائق وإخصائى اجتماعى ونشاط ونفسى ومسعفة، كما يستقبل البرنامج البلاغات عن أطفال الشوارع من خلال الخط الساخن 16439، حيث يتم تحريك فريق للتعامل مع الطفل واتخاذ اللازم بشأنه.
أعضاء الفريق المشارك فى تنفيذ المشروع البالغ عددهم 85 شابا وفتاة، تم اختيارهم عن طريق نشر إعلانات فى الجرائد، وتقدم للبرنامج ثلاثة آلاف شخص وتم اختيار أفضل المتقدمين، تم تدريبهم على التعامل مع الأطفال.
تمويل البرنامج وفق حازم الملاح  المسئول المركزى لـ«أطفال بلا مأوى» يبلغ 164 مليون جنيه، منهما 114 مليوناً من صندوق تحيا مصر و50 مليوناً من صندوق إعانة الجمعيات بوزارة التضامن الاجتماعى، ومنذ الانطلاق قبل عام من الآن تم التعامل مع 3  آلاف طفل ودمج وإيداع 325 طفلاً منهم بدور الرعاية.
برنامج استقطاب الأطفال من الشارع
البرنامج وضع خطة للتعامل مع الأطفال بلا مأوى من خلال وحدة متنقلة بها خمسة أشخاص.. سائق وإخصائى اجتماعى ونشاط ونفسى ومسعفة، ويبدأ خط السير كل يوم من الساعة السادسة مساءً حتى الساعة الثانية عشرة صباحا، وهو توقيت رجوع الأطفال بعد يوم العمل بالشوارع، من خلال الأماكن التى يكثر بها تواجد الأطفال - تحت الكبارى وداخل الحدائق العامة، وعند الوصول لنقطة الهدف.
يبدأ كل من الإخصائى النفسى والنشاط النزول من السيارة للحوار مع الأطفال بهدف جذب الأطفال إلى السيارة الخاصة بالفريق وهى مجهزة بكل وسائل جذب الأطفال من ألعاب ورسومات وغيرهما.
«الأطفال بلا مأوى» غالبيتهم  لديهم أسر والبعض منهم يعرف عنوان سكنه، لكنهم يتواجدون فى الشوارع نتيجة التفكك الأسرى، فيجد الشارع ملاذا آمنا هروباً من المشاجرات بين والديه واضطهاد زوج والدته له أو زوجة أبيه، أو يكون مطروداً من زوج أمه أو زوجة أبيه من المنزل.
جلسات تأهيل الأطفال من خلال الفرق المتنقلة تختلف بحسب طبيعة كل طفل، فهناك طفل يستغرق تأهيله من ثلاث جلسات، وآخر يتخذ قرار رجوعه للمنزل أو دخوله لدار رعاية من ثانى جلسة.
الفتيات فى الشوارع عددهن أقل مقارنة بالأطفال الذكور، وتتراوح أعمارهن بين 12 و15 عاما، وغالبيتهن تعرضن للاعتداء الجنسى، وهو ما يعمل عليه فريق «أطفال بلا مأوى» من خلال البحث عن مكان لاستضافتهن وأولادهن، ولكن الفريق يواجه عقبة فى تسجيل الطفل المجهول، وببعض الحالات تكون الطفلة الأم نفسها غير مسجلة.
يتسبب تدخل الشرطة بالقبض على بعض الأطفال فى بعض الأحيان فى تعطيل تنفيذ خطة التدخل التى يتم وضعها، بالتالى يتم البحث عن الطفل المختفى وعند التأكد من أنه تم القبض عليه أو ترك المنطقة بسبب تدخل الشرطة، يتم تغيير الخطة.
بيشوى وشيماء وجمال .. 3 فى مهمة إنسانية
بيشوى عدلى، إخصائى نفسى ومسئول وحدة الجيزة برنامج «أطفال بلا مأوى» واحد من بين المسئولين عن إنقاذ أطفال الشوارع، يعمل مع الفريق على جذب الأطفال  بكل الطرق الممكنة.. مدى الاستجابة مع بيشوى وزملائه تختلف من طفل لآخر، فقد يستجيب الطفل من أول مرة وهناك أطفال يبادرون بأنفسهم بالذهاب لفريق البرنامج، وهناك طفل لا يستجيب إلا بعد عدة مرات، فالأطفال الأكثر تواجداً بالشارع تتراوح أعمارهم بين 14 سنة و 18 سنة، وكلما زاد عمر الطفل كان من الصعب إقناعه.
يضع بيشوى ورفاقه خطة متكاملة لإقناع الطفل، تبدأ بمقابلة مبدئية ثم مقابلات متابعة، حيث يقوم الإخصائى الاجتماعى بتجهيز  ملف للطفل برقم محدد، ويتم التواصل مع الطفل وإعطاؤه رقم تليفون الفريق لتسهيل الوصول إليه فى أى وقت، وعند إحساس الفريق بوجود استعداد لدى الطفل للرجوع إلى البيت مرة أخرى يتم العمل على جعله يتقبل الرجوع للمنزل.
أحيانا يتعامل الفريق مع أطفال يتعاطون المخدرات، وتختلف طريقة التعامل مع طفل لآخر حسب نوع المخدرات التى يتعاطاها الطفل والمدة التى تعاطى فيها المخدرات والجرعات التى يحصل عليها، ويبعد الفريق عن التعامل مع  الطفل أثناء تأثير المخدرات عليه، وما إن يقبل التعامل يتم إيداعه إحدى دور الرعاية للتعافى من تعاطى المخدرات.
فريق بيشوى اكتشف خلال رحلة عمله وقوع أحد الأطفال ضحية لعصابات سرقة الأعضاء، حيث اتضح للفريق بعد التعامل مع طفل  وتحويله لإحدى الجمعيات الخيرية أنه تمت سرقة إحدى كليتيه وتم تحرير محضر بذلك.
شيماء عبدالسلام دياب حاصلة على بكالوريوس خدمة اجتماعية،  وكانت  عضو فرقة طوارئ بالهلال الأحمر المصرى منذ عام 2011  وكانت ضمن  فريق استجابة الحوادث والدعم النفسى.. تعمل شيماء مسعفة داخل سيارة الأطفال دورها تقديم الإسعافات الأولية للأطفال وتحويلهم لمستشفى لو تطلب الأمر خياطة للجرح أو تجبيس الكسر، مشيرة إلى أن أغلب إصابات الأطفال تنتج عن المشاجرات مع بعضهم البعض أو أثناء الهروب من مطاردات.
مر بشيماء العديد من الحالات من بينها حالة طفل أعادته الوحدة المتنقلة للمشروع لمنزله أكثر من مرة، وذات يوم وجدوه بالشارع مع ابن عمه، وعند سؤاله عن سبب عودته مرة أخرى كان الرد صادما، حيث طلق والده والدته، وطلق عمه أيضا زوجته وتبادل الزوجان الزوجات، ولم يتحمل الطفلان الوضع فخرجا إلى الشارع.
إلى جانب شيماء يجلس عدنان عبدالفتاح إخصائى اجتماعى فى سيارة الفريق يتابع حركة الشوارع التى تتواجد الأطفال بها، ويتجاذب الحديث معهم إلى أن يصل لمرحلة الإقناع، فهو يتعامل مع أطفال تتراوح أعمارهم بين سبعة أعوام وثمانية عشر عاماً، غالبيتهم يزيد سنهم على 12 عاما، وهى المرحلة التى يكون فيها الطفل مشتتاً ويستغرق وقتاً كبيراً مع الإخصائى الاجتماعى حتى يتم تأهيله، وبكل جلسة يكون هناك هدف فأول جلسة للحصول على المعلومات عن الطفل واكتساب ثقته، وتتوالى الجلسات لإقناع الطفل بالعودة لبيت أهله أو الدخول لإحدى دور الرعاية.
جمال عزت إخصائى نشاط بإحدى الوحدات المتنقلة دوره كسب ثقة الطفل ويبدأ برصد وملاحظة وجمع معلومات عنه من خلال اللعب دون توجيه أسئلة مباشرة له، وعدم توجيه نصائح بشكل مباشر، بل من خلال اللعب والأنشطة سواء تعليمية أو أنشطة فنية كالرسم والتلوين والصلصال والغناء، وخلال اللعب مع الطفل يسجل الإخصائى الاجتماعى ملاحظاته.
هنا يتم تأهيل أطفال الشوارع
من الفرق المتنقلة للتعامل مع أطفال الشوارع انتقلنا إلى مؤسسة الحرية بعين شمس وهى المكان الذى ينتقل إليه «الأطفال بلا مأوى»، المؤسسة عبارة عن مبنى من طابقين الأول به مكاتب للعاملين والمطبخ وصالة كبيرة للطعام ومسرح، فضلا على وجود ملعبين الأول للأطفال الأكبر سنا  والآخر للأطفال الصغار، وحمام سباحة، ومسجد حيث يتجمع الأطفال للصلاة، وفى الطابق الثانى غرفة كل من الإخصائى الاجتماعى والنفسى، وغرفة للموسيقى والرسم، مكتبة وقاعة سينما، وغرف للنوم حسب الأعمار السنية للأطفال، ويفصل بينها غرفة مشرف ليلى.
يوجد بالمؤسسة ما يقرب من 80 طفلا أعمارهم تتراوح بين 6  سنوات و 18 سنة بينهم 20 طفلا تم استقبالهم من برنامج أطفال بلا مأوى، هذا ما أكده لنا محمود عبدالسلام رئيس المؤسسة، مشيرا إلى أن مؤسسته تعليمية فقط ولا يوجد بها ورش تدريب، ويعتزم مشاركة وزارة التربية والتعليم فى مدرسة مجتمعية للأطفال، حيث  يتم التحاق أطفال المؤسسة بالمدراس القريبة لإكمال تعليمهم.
جميع الأطفال الموجودين بالمؤسسة من الذكور فقط، يتابعهم فيها 9 إخصائيين اجتماعيين، ورئيس رعاية وثلاثة إخصائيين نفسيين، كل إخصائى اجتماعى مسئول عن 7  أطفال مسئولية كاملة، وينفذ معهم برامجا وأنشطة ومتابعة وبعض الأطفال يكونون فى حاجة لتدخل إخصائى نفسى الذى يقوم بعمل جلسات إرشاد للأطفال، وتنفذ المؤسسة العديد من الأنشطة كالسباحة وكرة القدم وقاعة كمبيوتر ومكتبة وقاعة سينما ومسرح وحفلات، فضلا عن تنفيذ العديد من الأنشطة الخارجية  كالرحلات وتدريبات كارتيه وكونغ فو وتايكوندو.
مؤسسة الحرية تعمل على توفير فرص عمل للأطفال فى فترة الإجازة المدرسية، ومن بين الأطفال هناك من يتقن مهن الحلاق والحداد والنجار والبائع والجزار والعامل بكافتيريا، وذلك من أجل أن يصبح الطفل مسئولاً عن نفسه مسئولية كاملة بعد ترك المؤسسة، التى لا يتوقف دورها عند وصول الطفل للسن القانونية 18 عاملا بل تساعده فى إيجاد سكن وعمل.
داخل غرفة رئيسة الرعاية بمؤسسة الحرية، كان هناك طفل نحيف، قصير القامة ملامحه كلها براءة وصدق وعفوية، كان يخشى الحديث خوفا من أن يعود إلى منزل والده مرة أخرى، إنه سيد أحمد عمره 12 عاما، كان يسكن مع والديه  فى منطقة الهرم قبل أن يطلق والده والدته، ويتزوج من أخرى، وما إن استقرت زوجة الأب فى المنزل حتى بدأت فى الادعاء عليه بأشياء لم يفعلها، وكان رد فعل والده الضرب، وهو ما دفعه إلى ترك المنزل.
الإنسانية المعذبة على الرصيف
سيد كان لديه 8 سنوات عندما خرج إلى الشارع هربا من والده وزوجته، وبعد شهر فى الشارع، ألقت الشرطة القبض عليه وتم إيداعه دار رعاية الجيزة، وظل بها ثلاث سنوات ونصف السنة، وتركها بسبب طريقة التعامل معه، وسكن بالشوارع فى منطقة العمرانية لمدة أسبوعين ينام بأحد المقاهى بجوار مسجد خاتم المرسلين، وبعدها انجذب لشباب مشروع «أطفال بلا مأوى»، وتم إدخاله مؤسسة الحرية، ويحلم بأن يصبح ضابطا يحارب الإرهاب مثل الرئيس السيسى.
محمد سيد يبلغ ستة أعوام  أصغر الأطفال بمؤسسة الحرية، كان يسكن مع والديه قبل أن تتوفى والدته، ولديه ثلاث أخوات، لا يعلم عنهن شيئا بعد أن تركه والده أمام أحد المحلات منذ عدة شهور وذهب، وعمل مع صاحب محل حلاقة، وكان ينام داخل المحل، إلى أن ساعده أحد شباب مشروع «أطفال بلا مأوى» وضمه إلى المؤسسة منذ أربعة أشهر.
أما الطفل محمد كمال الذى يبلغ من العمر 11 عاما، فقد انضم إلى المؤسسة الأسبوع الماضى، بعد أن ترك منزل والده بعزبة خير الله، حيث تزوج  والده بعد وفاة والدته بأسبوعين، وكانت الزوجة الجديدة تعامله بطريقة مهينة، وتدعى عليه بأفعال لم يقم بها، فضلا عن اعتداء إخوته من زوجة أبيه عليه، وهو ما دفعه لشوارع حلوان حيث عمل بجراج لمدة شهر، حتى قابل سيارة «تحيا مصر» التى أدخلته المؤسسة.
منى الحكيم إخصائية اجتماعى بمؤسسة الحرية تقول إنه عندما يحضر أى طفل للمؤسسة يتم الكشف عليه وإن وجد به أى مرض يمنع دخوله للمؤسسة وإلحاقه بمكان آخر، مشيرة إلى أنهم يعملون على التأهيل الاجتماعى والنفسى للطفل، من خلال كسب ثقته، موضحة أن أكبر المشاكل بين غالبية الأطفال هى الانطوائية والبعد عن الناس، ويستغرق تكيف الطفل مع المؤسسة وقتا طويلاً، وفى البداية يفكر الطفل فى الهرب من المؤسسة بحثاً عن حريته نتيجة اقتناعه أنه سيكون محبوسا داخل المؤسسة بخلاف حياته بالشارع «حر طليق»، وعليه يتم العمل على إقناعه بأن البقاء فى المؤسسة ليس حبساً ولكن لخدمته وأمانه وراحته.
وكشفت رئيسة الرعاية إيمان حجاج عن أصعب المشاكل التى تواجه المؤسسة هى رفض المدارس تسليم المؤسسة ملف الطفل لعدم وجود صفة، رغم أن الأوراق التى يتم تقديمها قانونية، وهو ما دفعها مع البعض لإبقاء الطفل بنفس المدرسة بنظام المنازل لاستكمال تعليمه، موضحة أن  هناك انطباعاً لدى المدرسين بأن مراكز رعاية الأطفال مجرد إصلاحية بخلاف الواقع  ويسعى الإخصائى الاجتماعى لإقناع الطفل بتجاهل الأفعال السلبية التى تحدث معه بحياته بشكل عام.