الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

تجديد الفكر الماركسى!

تجديد الفكر الماركسى!
تجديد الفكر الماركسى!


هـذا العـام، يُصادف  الذكرى الـ169 لنشر واحدة من أكثر الوثائق تأثيرا فى تاريخ العالم: بيان الحزب الشيوعى. والـ100 للثورة البلشفية.
فى هذه المُقدمة من الطبعة الجديدة للمانيفستو، طبعة مزدوجة مع «أطروحات إبريل» التى قدّمها لينين أوّل مرة عام 1917, يُلقى طارق على الضوء على الفترة، عشيّة ثورات 1848, ويضعها فى سياقها، وهى الفترة التى صاغ فيها ماركس وإنجلز تُحفتهما الفنيّة، ويرى أنّنا فى حاجة ماسّة إلى «خليفة» بحجمهما.
هذه ترجمة مقتطعة، أعدنا فيها ترتيب مقاطع التقديم المطوّل - 3000 كلمة - الذى يختمه الروائى والصحافى والمؤرخ البريطانى الباكستانى الأصل بتوضيح الفرق فى النهج الذى بدأه ماركس وأكمله لينين، فالأخير كما كتب طارق علي؛ فهم ماركس جيدا عن الجميع, قبض على ما استعصى فهمه على الماركسيين الأوروبيين وهو أن الحلقة الأضعف فى الرأسمالية هى أول ما يتحطم وينهار وقت الأزمات الشديدة، ما يؤدى بالتالى إلى انهيار النظام بأكمله.
ومن هنا كانت أطروحاته التى كتبها بين ثورتين فى روسيا القيصرية. يقول علي: «لولا الثورة الروسية لاقتصر المانيفستو الشيوعى على المكتبات المتخصصة، وما كان لينافس الكتاب المقدس، باعتباره النصّ الأكثر ترجمة فى التاريخ الحديث».
 يسار جديد
البيان الشيوعى (المانيفستو) هو آخر وثيقة كبيرة من عصر التنوير الأوروبى، وأوّل تسجيل لنظام جديد تماما من فكر: «المادية التاريخيّة». على هذا النحو؛ فإن البيان الشيوعى يُمثّل فى آن كلا من الاستمراريّة والفاصل التاريخى. كُتب المانيفستو فى وقت كان أثر الهزيمة السياسية الضخمة قد بدأ فى التلاشى، كان نتاج عقلية شابين ألمانيين، كلاهما مثقف فى العشرينيات، ينتميان إلى مدرسة الفلسفة الهيجلية وهو الاتجاه الذى هيمن على برلين والجامعات الألمانية الأخرى خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. هذا النَصّ، كان نُقطة تحوّل رئيسية فى النظرية والممارسة الثوريّة فى القرنين الماضيين، بإصراره على أن الثورة هى النتيجة الحتمية للرأسمالية فى المجتمعات الصناعية الحديثة.
كان لتطوّر الفلسفة فى ألمانيا الأثر فى ولادة وسط من اليسار الراديكالى الجديد لعب فيه ماركس وإنجلز دورا بارزا. جميع نصوصهما، وخاصة هذا المانيفستو، يجب دراسته فى إطار السياق الاجتماعى والاقتصادى والفلسفى للفترة التى كُتب فيها. ومعالجته على أنّه «مساحات تعبّديّة» تعنى إهانة المعنى والمنهج. الروشتة والتنبؤات فى المانيفستو بالتأكيد عفى عليها الزمن اليوم، والرأسمالية نفسها، على الرغم من انتصار عام 1991 تبدو أشبه بـ«اضطراب عصبى» أكثر من كونها بِنية قادرة على دفع البشرية إلى الأمام. نحن بحاجة ماسّة، نتطلّع بلا أمل، إلى بيان جديد لمواجهة تحدّيات اليوم وتلك التى تنتظرنا فى المُستقبل، ولكن حتى ذلك الوقت (وحتى بعد ذلك) هناك الكثير لنتعلّمه من هذه الطريقة، هذا المنهج، من الحماسة والزخم وهذه اللغة.
 تجاوز هيجل
كانت السياسة حاسمة فى دفع النُخبة المثقّفة من الشباب الألمانى إلى المزيد من الراديكالية فى القرن التاسع عشر. لم يكن هناك خيار اسمه «اليسار». إمّا الانضمام إليه، أو كان عليهم تجاوز هيجل. انتهت الفترة التى افتتحتها الثورة الفرنسية فى عام 1789 مع هزيمة نابليون فى واترلو فى عام 1815. مؤتمر فيينا الذى عُقد فى وقت لاحق من ذلك العام قد وافق على خريطة أوروبا وناقش الآليات التى يمكن من خلالها السيطرة على المعارضة وسحقها. وسوف تتم مُراقبة إجماع فيينا من قبل روسيا وبروسيا والنمسا مع البحرية البريطانية كخلفية موثّقة، يمكن الاعتماد عليها دائما، أو كسلاح الملاذ الأخير. هذا الانتصار غذّى تراجع الجبهة الفكرية. يصرّ هيجل، مُنظّر الانتقال الدائم، على أن التاريخ لم يكن أبدا ثابتا، وأنه فى حد ذاته نتيجة لصراع الأفكار، هو الجدليّة حيث الماضى والحاضر يحدّدان المستقبل. هذا التاريخ، وكما أصرّ أيضا، لا مفرّ منه، لا يُمكن التنبّؤ به، والأهم من ذلك، لا يُمكن إيقافه. مهزوزا بالهزيمة فى واترلو، تقبّل «نهاية التاريخ»، حين ألقت «الروح العالمية» معطف نابليون وقبّعته الفخمة جانبا، وفضّلت عنها الخوذات الفولاذية لنسر يونكرز البروسيين. وكان الفيلد مارشال بلوخر قد هزم الكورسيكى المغرور.
 إلى المواطن كارل ماركس
جرى التكليف بإصدار البيان بوصفه برنامج التأسيس لـ«العُصبة الشيوعية». المكوّنة من عدد كبير من مثقفين ألمان منفيّين وعدد قليل من أنصارهم من البلجيك والإنجليز الذين اجتمعوا فى لندن فى صيف عام 1847. وقد كلّفت اللجنة المركزية للعُصبة كارل ماركس، بعد وقت وكان هو فى بروكسل، بكتابة البيان. وافق ماركس لكنّه لم يُعامل التكليف كأولويّة. ووجد أنه من السهل كتابة النصّ فى أى وقت عندما يتحدّد موعدٌ نهائى. بعد بضعة أشهر، قامت اللجنة المكوّنة من الثلاثى: كارل شابر، وهاينريش باور، وجوزيف مول، باقتراح موعد نهائى لتسليم المانيفستو، وهدّدت بإجراءات تأديبية وعقوبات على ماركس إذا لم يتمّ الوفاء به:
«إن اللجنة المركزية للعُصبة الشيوعية فى لندن تُوجّه لجنة بروكسل أن تُبلّغ المواطن كارل ماركس بوضوح أن نسخة المانيفستو - والتى التزم طوعًا فى المؤتمر الأخير بصياغتها - إذا لم تصل لندن قبل يوم الثلاثاء القادم 1 فبراير 1848 فإننا سنضطّر لاتخاذ إجراءات أخرى ضده. وفى حالة أن المواطن ماركس لم يُنجز المانيفستو فإن اللجنة ستطلب فورًا استعادة جميع الوثائق التى طلبها للانتهاء من النصّ».
كانوا مُحقّين فى غضبهم. المعلومات التى وصلت إليهم من عواصم أوروبية عديدة أن غضبا عارما يجتاحها، لا سيّما بين العمّال، ضد قرارات مؤتمر فيينا لعام 1815. وثمّة تطوّر ديمقراطى من المتوقّع أن تشهده ألمانيا. كان المواطنون يتطلّعون فى يأس إلى مانيفستو يُعبّر عن الآمال ويكون قناة لتوجيه طاقاتهم السياسية. ماذا كان يفعل ماركس على الأرض إذن؟ لكى نكون مُنصفين، كان يعمل على الوثيقة، لكنه دأب على الانقطاع بسبب عمّال ومثقّفين ألمان اعتادوا مناقشته الوضع فى بيته. كان ماركس مُدركا بشكل غريزى أن هذه الوثيقة ذات أهمية ما. لهذا السبب، اختار لكل كلمة فى المانيفستو وزنها بعناية، هذا ما كان هو وإنجلز يتعاونان من أجله. وهذا هو أيضا، ما منح الوثيقة قوّة أدبية مُقنعة.
 المانيفستو فى المطبعة
تم الانتهاء من النسخة النهائية من المانيفستو فى الأسبوع الأوّل من فبراير 1848 وكان «ساخنا» فى المطبعة مع ثورة 1848 التى اندلعت فى فرنسا وانتشرت بسرعة إلى بقية القارّة. لم يكن للبيان أى دور فى التحضير للنضالات أو إثارتها، إلا أنّه تم تعميمه وقراءته على نطاق واسع من قبل أولئك الذين لعبوا دورا قياديا أو شاركوا فى الاضطرابات التى أشعلت أوروبا فى ذلك العام. فى العقود التى أعقبت ذلك سوف يُصبح المانيفستو الوثيقة التأسيسية الفعلية لمعظم الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية فى مدن العالم، فى بريطانيا مثلا (التى لم تمسّها 1848) كأهم استثناء. بينما لم تنشأ مثل هذه الأحزاب فى الولايات المتحدة، حيث نُشر البيان أوّل مرة عام 1872 فى صحيفة ناطقة بالألمانية تصدر فى شيكاغو.
 فى المنفى
بعض من تلاميذ وأتباع هيجل الأكثر موهبة، بمن فيهم مؤلفانا الاثنان، تابعوا الأحداث فى فرنسا بالتفاصيل الدقيقة. كانوا على بيّنة من «مؤامرة المساواة» التى تلت الثورة. فرانسوا بابوف (الذى اعتمد اسما مستعارا هو جراشوس) طعن نفسه للهروب من الإعدام فى 26 مارس 1797. هذه التواريخ النابضة بالحياة وكذلك تلك الثورة نفسها كانت تُلتهم بشغف ولهفة من قبل الراديكاليين الشباب فى ألمانيا وأماكن أخرى. وكانت المجتمعات السريّة، والعمل تحت الأرض، والمقاومة، وأعمال العنف الفردية أمرا شائعا. لم تتوقّف المناقشات حول ما حدث لـ«الثورة الثانية» فى فرنسا بعد هزيمة روبسبير من قبل ثيرميدوريان أبدا. على كل حال، كانت لغة الراديكاليين، التى رفضها نابليون و«حكومة المديرين»، هى التى توقّعت المطالب التى غلّفت القارّة فى وقت لاحق: الاقتراع (الاستفتاء) العام، الفصل بين الكنيسة والدولة، إعادة توزيع الثروة.
موجة من القمع سُرعان ما اجتاحت أنحاء مختلفة من القارة الأوروبية. وأبلغت الشرطة السريّة فى فرنسا عن استياء مُتزايد فى أجزاء كثيرة أخرى من البلاد. هنا مزاج من القوميّة الراديكالية والرغبة فى تقرير المصير أخذ يكتسب شعبية حول العالم. وبدأت أشكال مختلفة من المعارضة فى الظهور فى شكل صراع طبقى ومطالب ديمقراطية وقوميّة راديكالية؛ أصبح مزاج النُخب الأوروبية قاتما (لا يختلف عن تجمّعات الأثرياء والأقوياء فى دافوس وأماكن أخرى بعد أزمة وول ستريت عام 2008). أدنى مقاومة اعتبرت تهديدا للنظام الجديد، كما تمّ تقليص الحقوق السياسية المحدودة أصلا، وبلغت ذروتها بقيود شديدة على حريّة الصحافة والتعبير والفعل. أُرغم ماركس على المنفى، أوّلا فرنسا، ثم بلجيكا وأخيرا إنجلترا. عائلة إنجلز تمتلك بالفعل شركة فى مانشستر، لذلك كان اختياره للمنفى مُحدّدا سلفا. زملاؤهما الآخرون هجروا جميعا أوروبا إلى الولايات المتحدة حيث أبقوا على نشاطهم وظلّوا على اتصال منتظم مع رفاقهم فى أوروبا. وقد فرض العديد منهم ضغوطا هائلة على ماركس للهجرة إلى الولايات المتحدة. وهو رفض ذلك لأسباب سياسية، معتبرا أوروبا الغربية - الجزء الأكثر تقدّما فى الرأسمالية - منبع الثورات التى تنتظرنا.
 النظرية أم السلاح
فضّل ماركس العيش فى فرنسا، البلد الذى أصبح قُطب الجاذبية الفكرية والسياسية، وهو لا يزال فى ترير (غرب ألمانيا). كان قد قرأ أعمال الكونت دى سان سيمون بمزيج من الفرح والإثارة، واجه فى كتاباته لأوّل مرّة «الاشتراكية» ككلمة وكمفهوم بدائى. التقليد الاشتراكى فى فرنسا لن يُصبح متأصّلا إلا عندما يمدّ التصنيع فى البلاد الصلات بين الأفكار المتطرّفة (الراديكالية) وظهور طبقة اجتماعية جديدة. لم تكن البرجوازية المتعصّبة غير مُدركة لهذا، ولهذا أدخلت قوانين سبتمبر 1835 التى عزّزت بقوّة وظيفة المُحلّفين والصحافة. كان يعنى هذا تجاوز حدود الفلسفة الألمانية (هيجل وفويرباخ) فلم تكن كافية.
فى مقال نُشر قبل أربع سنوات من كتابة المانيفستو، كتب ماركس: «سلاح الانتقاد لا يُمكن أن يحلّ محلّ نقد الأسلحة». «لا يُمكن الإطاحة بالقوّة المادية إلا بالقوّة الماديّة. لكن النظرية تُصبح أيضا قوّة ماديّة عندما تكون قد اجتاحت الجماهير». كانت النقطة المرجعيّة الرئيسيّة، بطبيعة الحال، هى الثورة الفرنسية، ولكن هؤلاء الراديكاليين الجُدد سيكونون على وعى كبير بالتاريخ الألمانى الذى عاشوه وتنفّسوه. وإذا كان الراهب، خلال الإصلاح الدينى فى ألمانيا، تحدّى روما، فإن الفيلسوف هو من سيتحدّى الآن القوى الجديدة. ألمانيا، من أجل أن تتحرّر بالكامل، كان يجب أن تتجاوز ما حقّقته بريطانيا وهولندا وفرنسا بالفعل.