السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

من ألحان سيد درويش إلى الأعمال «المسلوقة»: الغناء للوطن.. أم عليه!

من ألحان سيد درويش إلى الأعمال «المسلوقة»: الغناء للوطن.. أم عليه!
من ألحان سيد درويش إلى الأعمال «المسلوقة»: الغناء للوطن.. أم عليه!


«عُمرَكش سمعت الدلنجات بيسافروا ليها ببازابورتات»؟!!..  «لو سألتك إنت مصرى، تقوللى إيه»؟
يفترض أن البيتين السابقين بين علامات التنصيص يفصل بينهما ما يقرب من قرن من الزمان، يفترض كذلك أن الأول كتبه العظيم «بديع خيرى» فى «شد الحزام على وسطك» فى أوج ثورة 1919، بينما الثانى بصوت اللبنانية «نانسى عجرم» قبيل ثورة 2011، يفترض كذلك أن البيت الأول سؤال استنكارى ساخر بحت، فيما يبدو أن سؤال «عجرم» استفهام محدّش عارف غرضه إلى الآن وإن كانت إجابته لربما تكون «كل إللى يجيبه ربنا كويس، واللهم لا اعتراض»!!!
بين السؤالين تاريخ طويل من الكلمات والألحان التى تغنت بمصر وغنت على مصر فى أوقات كثيرة، وأصوات أكثر طالما وجدت طريقا إلى آذاننا دون أن تقدم شيئا فى الواقع.
الحق أن الغناء بشكل عام هو تراث الشعوب، والأغنية الوطنية ليست بدعة، بل هى متجذرة فى التاريخ الإنسانى عبر صورها الشعرية الأولى كالسير والملاحم والأناشيد الشعبية، فهى ذراع قوة مهم وقت الأزمات والحروب ولسان حال المواطن أغلب الأحيان.
بعد الشاعر والملحن والمؤدى يعتبر المستمع هو الضلع الرابع فى المنظومة الغنائية، لكن إن خص الحديث الأغنية الوطنية فالمستمع يصير سلطانا فعلا، رأيه هو الأول والأخير، فإن تسلطن يمكنك اعتبار الأغنية ناجحة، فالسميع هنا ينتظر حالة وجدانية خاصة إما حماسية غالبا تستنهض مشاعره أو حالة من الشجن ترصد عاطفته تجاه أرضه التى هى مزيج من الحب والإيثار والفخر والحنين وقد لا تخلو من مسحة حزن إذا تذكر مرارات الهزيمة مثلا أو أوقات الانكسار فى تاريخ وطنه.
على سبيل «الخصوصية الشعرية» التى صارت عامة فيما يبدو دأب كُتَّاب النصوص الغنائية على مقاربة الوطن بالمرأة المحبوبة، فمصر تارة «بهية»، وتارة «هى أمى» إلخ، والتوصيف على حُسن مقاصده لكنه يحمل فى طياته نظرة ذكورية متعصبة فى المقابل من قِبل المتحدِّث الشاعر ثم المتلقى بدوره، فالوطن فى ظل تلك التصورات الأمومية البهية المُحالة للأرض غالبا هو تلك المرأة التى تحتاج دوما إلى الرجل «الذى يصلح حالها»، فيما برأيى مثلا_كمتلق_ يفترض بالوطن أن يكون كيانا قائما بذاته خالقا لحياة المواطن ومنتجا لمقومات الحياة ومتحررا بذاته عن أى وصايات مهما حملت من حُسن النوايا، هذه الحرية المستقلة المُسوَّرة بالدساتير والقوانين هى ذاتها منبع حريات المواطنين الذين لا يفترض فيهم تلك «الحالة الشِّعرية من اليُّتم» التى يحلو للمغنواتية تصويرها باعتبار مصر الصبية ومصر يامّة يابهية وغيرها من الاستعارات الأمومية «حريمية الطابع» ولا أقول نسوية، إذ إن فارقًا هائلاً بين «منظور نسوى شِّعرى» ومنظور «حريمى»، هو ذاته الفارق بين اصطلاح «النسوية» الثقافى والمجتمعى وبين مصطلح «الحريم» السوقى الدّارج.
يعد المؤرخون ثورة 1919بمثابة أول ثورة مدنية خالصة تتفق فيها أطياف الشعب المصرى على مطلب وطنى حقيقى، حتى إنها مثلا لم تُغبن تاريخيا كثورة «عرابى» التى عُرفت بين العوام بـ«هوجة عرابى»، وفى مسرحية «قولوا له» لبديع خيرى التى كتبت إبان تأزم الوضع السياسى والاجتماعى على خلفية نفى «سعد زغلول» والتحضير للثورة، نجد «شد الحزام» التى صارت عرفا بين المصريين بكل ما حملته من معان تستنفر الهمم حتى لا تخمد أمام جبروت الاحتلال، ثم يأتى شطر «عمركش سمعت الدلنجات -تلك البلدة الريفية الفقيرة آنذاك - بيسافروا ليها ببازابورتات» أى أن تضييق المحتل بلغ به المدى أن فرق بين أقاليم البلد حتى صار الانتقال اليومى العادى بالغ العسر حتى ليكاد يستلزم له جوازات سفر «بازابورتات»!
حتى عام1952كان سيد درويش هو «زرياب» الأغنية المصرية الحديثة، غناؤه للـ«شغيلة» وطوائف العمال المصريين جعل للأغنية الوطنية طابعا «شعبيا» لا يرتبط بمناسبة أو حدث بقدر ما يرتبط «بالحراك اليومى الاجتماعى» للمواطن وقضاياه ومشاكله التى تنوعت بين ضيق الحال والفقر وحتى الإدمان وتناول المكيفات التى انتشرت بين المصريين كـ«استثمار» لتجارة المحتل فى مستعمرات الأفيون والحشيش فى الهند والصين ووسيلة مضمونة لإسكات المصريين، قبل أن ينشغل «درويش» بالحالة السياسية التى ارتبطت بنضال المصريين ضد الاحتلال الإنجليزى، فلحن «بلادى بلادى» من كلمات الشيخ «يونس القاضى» المستوحاة من خطب الزعيم «مصطفى كامل»، وغنى معه المصريون «يا بلح زغلول» احتفالا برضوخ الحكومة الإنجليزية للمطالب الشعبية المصرية وإعادة «سعد زغلول» من منفاه إلى مصر.
«أنا إن قدَّر الإله مماتى، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى»، أشنفت آذان المصريين أم كلثوم بأبيات «حافظ إبراهيم» قبل عام واحد من ثورة1952، لتلهب وجدان كل مصرى بكلمات خالدة لا ترتبط بزمن أو حدث، بل يطرح فيها «حافظ إبراهيم» الوطن كفكرة فوق الزمن وفوق الخلود لا تفنى إلا بقدرة الخالق لينتهى معها الشرق كله.
لكن لسنوات طويلة ارتبطت الأغنية الوطنية بالمناسبات، لعل «الليلة عيد» لأم كلثوم مثال شهير حين غنتها فى حضور الملك فاروق مضيفة لها كوبليه من «حبيبى يسعد أوقاته» لتصبح الأغنية مزيجا كلثوميا فريدا له طابع احتفالى مرتبط بالأعياد عقب انتشار الأغنية الأصلية من فيلم «دنانير»، وكذلك الطابع العاطفى الذى «جرى تخصيصه» ليقتصر على «حضرة ملكية حاكمة» تكريما لها فتتحول الأغنية إلى أغنية مناسبات لا يؤرخ لها إلا بذكر ملابساتها تلك جميعها.
الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين «وثق» غنائيا بأغان لها طابع حماسى لعب فيه «محمد عبدالوهاب» دورا مهما، وكان للمصريين حضور قوى يستنكر العدوان على الأراضى العربية التى لم يكد يمر عشر سنوات على ضياع قدسها حتى منيت القاهرة بالعدوان الثلاثى ثم هزيمة 1967، فى هذين العقدين كانت الأغنية الوطنية قد غادرت «فكرة الغناء للمناسبة» إلى «الغناء للقضية»، ظهرت أصوات تتغنى للسلاح وبالبندقية وكانت الكلمات تشحذ الهمم كـ«أصبح عندى الآن بندقية»، و«خللى السلاح صاحى»، و«المسيح» لعبدالحليم والأبنودى، ونشيد وطنى الأكبر.   
لسبب ما لم تكن «أغنية النصر» بقدر «هيبة» أغانى الهزيمة، ربما لأن الفرحة فى الموروث الشعبى تتسم بالبهرجة، أو ربما لأن «هالمنطقة ما بتنطرب إلا حزين» كما قال زياد الرحبانى، فجاءت أغانى السبعينيات الوطنية محملة بطابع الانفتاح ولا تليق أغلبها بجلال النصر، أو ربما لأن الحرب الأهلية اللبنانية ثم الاجتياح الإسرائيلى جثما فوق كل نصر، هذه الفترة التى شهدت أوج وأبهى ما أبدع «سعيد عقل» فى الغناء لـ«سورية» و«لبنان» «وفلسطين» برغم من تعصبه «الفينيقى» وكتاباته ومواقفه المثيرة للجدل بهذا الشأن، وشهدت عبقرية الرحابنة وعظمة أداء فيروز التى شدت «مصر عادت شمسك الذهب»!
بعد1973كان «المصريين أهمة، حيوية وعزم وهمة»، و«رجالة وطول عمر ولادك يا بلدنا رجالة»، وهى كلمات _مع كامل التقدير لكتابها_ تظل «سطحية» وتفتقر التصوير وتقترب كثيرا من «الجعجعة الصبيانية»، ناهيك عن الأرتام والألحان التى لا تلمس فيها مطلقا «الجلال الموسيقى الواجب»، لتنسلخ الأغنية الوطنية عن «قاطرة القضية» وتعود مرة أخرى لفكرة «المناسبات الشعرية» التى تعد لغويا حتى أسوأ منازل الشعر العربى الغنائى.
مشوار الفنانين «هانى شاكر» و«محمد ثروت» ارتبط كثيرا بأغنية الثمانينيات الوطنية التى لا تفهم منها سر الابتسامة الواسعة التى تكسو وجهيهما حين يقولان من فوق تلك الفلوكة إياها «ده جناحى مرفرف ف سماكى والقلب اتربااا على خيرك»، ثم فى موضع غنائى آخر يشير «ثروت» بيديه مداعبا حضور الحفل الرسمى «لو ميلتى كدة الدنيا تميل»، إذ لم نفهم كمستمعين مثلا كيف «تنوى مصر أن تميل كدة يعنى»، وما الداعى لذلك أصلا، وما علاقة هذا بالوطنية إذا كانت الدنيا ستميل بدورها، وإذا كان الميل فى حد ذاته مكروها فلم جاءت الموسيقى راقصة فرحة مبتهجة إلى هذا الحد بموضوع «ميل مصر» هذا!
«المصرى حبيب متحمس لو حتى بلقمة يغمس، وإن جاله عزول بيخمس، محفوظ بيغنى ياليل على دقة قلب زويل» هى نموذج فج لـ«سلق أغانى وطنية الألفينات»، أظن أنه لولا «عمر خيرت» لما كان للأغنية وجود، فالحقيقة أن الأغنية عاشت بفضل اللحن فقط  ثم بفضل فستان «لطيفة»!
عقب 25يناير كان هناك دوما «حاجز نفسى» بين الكثيرين وبين قبول منتجها الغنائى، أمر هو أقرب للحدس لم أفهمه، الخط الغنائى الذى صاحب الثورة هو أقرب لأغلب الخطوط الغنائية الغربية المعروفة.. الراب.. الكاونترى.. إلخ، مع تركيب كلمات عربى «ثورية» طبعا!
أصوات «شابة» عديدة أخذت أكثر من حقها دون سبب واضح، وهى بالإمكانات وبالقدرة وبالآداء فقيرة للغاية !
«أصوات أخرى اكتسبت «شهرتها» من غنائها بالفصحى، دون «اختيار فِكرى» واضح لخط الفصحى نفسه، مجرد أن يكون كاتب القصيدة «اسم» متداول باعتباره جواز مرور لا بأس به بالنسبة للصوت!
وآخرون كانت مكتسباتهم هى إحياء تراث نجم وإمام!!!
بشكل عام، المناخ الفنى الثقافى كان محاولات باهتة لاستنساخ كل شيء!
كثيرون يخلطون بين الأغنية الحاشدة والأغنية الوطنية، «بشرة خير» مثلا تنتمى للنوع الأول، أغنية وظيفية بحتة عبرت عن وجهة نظر صناعها وارتبطت بحدث استثنائى لكنها ارتبطت فى الوجدان الشعبى ليس عبر الرتم الراقص وحده بل عبر خفة دم الكلمات و«رص» أسماء المحافظات المصرية بطريقة لطيفة.
يظل النشيد القومى هو الأغنية الوطنية الأولى ليس على المستوى الرسمى فقط بل على المستوى الشعبى أيضا، فعندما يستبدل به أغنيات أخرى فى طوابير الصباح بالمدارس بدعوى أنها أكثر حماسة، أو حتى حين يحل محله تلاوة قرآنية كما شهدنا فى السنوات الأخيرة فى بعض مؤسسات التعليم فنحن أمام أزمة هوية حقيقية ينبغى دراستها واحتواؤها قبل فوات الأوان.