الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

زغاريد الحـزن

زغاريد الحـزن
زغاريد الحـزن


لا تكتمل الأعراس إلا بـ«الزغرودة» فى تقليد تتوارثه الأجيال، فرحاً وإعلاناً على الملأ بالارتباط الجديد والخبر السعيد، فما الذى حول الحزن إلى زغاريد؟
امتزجت أصوات الزغاريد بالنحيب، وسالت الدموع مع دقات طبول الجنازة العسكرية، فى وداع الشهيد، مشهد بات مألوفا، هى لحظة صمت تسبق الزغرودة المكتومة المخنوقة بدمع على فراق، بعدها تتحول الجنازة إلى مزيج من البكاء والزغاريد تجلجل، تزف عريسا إلى السماء.
لم يكن المشهد جديدا فى وداع أبطال دافعوا عن سيناء حتى آخر لحظة فصعدت روحهم إلى بارئها وتركوا لنا الكرامة والأمان.
المشهد نفسه شاهدناه مع فريق الكشافة التابع للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، خلال صلوات القداس الجنائزى على أرواح 25 شهيدًا، راحوا إثر تفجير إرهابى آخر استهدف الكنيسة البطرسية الملحقة بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.


ثم فى وداع شهداء كنيستى الإسكندرية وطنطا.
لا تكتمل الأعراس إلا بـ«الزغرودة» ولا يكتمل حزننا على الشهداء إلا بـ«الزغرودة» أيضا.
فما حكاية الزغرودة التى باتت قاسما مشتركا فى أفراحنا وأتراحنا؟!!
يعرّف الكاتب محمد خالد  الزغرودة فى كتابه «زغرودة» بأنها تعود إلى الفعل الرباعى «زغرد» ومعناه رفع النساء صوتهن فى الأفراح، وجمعها زغاريد ويطلق عليها اسم «الزغلوطة» باللهجة العاميّة لدول عربية مختلفة.
كل امرأة تستطيع الزغردة، لكن هناك مزغردات خاصات يعرفن بالاسم ويتمتعن بسمات خاصة كجمال الصوت وقوته وارتفاعه.
تمثل الأعراس وأفراح العودة من الحج وقدوم مولود جديد وتحقيق انتصار ونجاح ما أو حتى وصول جثمان شهيد - على سبيل المثال - مناسبات تستدعى الزغاريد منذ القدم.
هكذا يقول الكاتب، إذن فحكاية الزغرودة فى الحزن لم تكن جديدة وإن كنا فى مصر عرفناها جديدا بعد أن بات بيننا خونة وإرهابيون، كل حلمهم المزيد من الحزن والبكاء.
الحكاية قديمة ولكنى أشك أن سيدات من المنوفية والغربية والشرقية والقاهرة قرأن كتاب «الزغرودة» أو اتفقن على إطلاق الزغاريد فرحا / حزنا، لرحيل أبطال مثل ملازم أحمد محمد محمود حسنين 22 عاما، والذى استشهد قبل زفافه بأربعة أيام.
وفى وداع جثمان الشهيد العقيد أركان حرب أحمد صابر المنسى، قائد الكتيبة 103 صاعقة، والنقيب أحمد عمر الشبراوى البالغ من العمر 32 سنة فى محافظة الشرقية لم تتفق السيدات على إطلاق الزغرودة، واتفقن على الحزن.
للزغرودة دلالات ومعانٍ تاريخية واجتماعية تؤثر فى العمق النفسى للفرد والجماعة فى مجتمعاتنا، فهى مليئة بالعواطف وحاملة لقدر كبير من حقيقة الأمنيات والأفكار والدوافع العميقة والمزاج العام للمرأة على وجه الخصوص.
الكلام ليس لى، الكلام لباحثين كثر، درسوا وتعمقوا فى معنى وأصل الزغرودة.
المثير أن الباحثين الأجانب قالوا أنها ليست مصرية الأصل، والمفاجأة نسبوها للهنود الحمر فى أمريكا.
وقالوا أن الزغرودة كلمة أصلها آت من قبيلة تدعى «السو» وهى قبيلة من الهنود الحمر تواجدت على الحدود الأمريكية المكسيكية جنوب الأمريكان.
هذه القبيلة كانت تعتمد فى قوتها اليومى على لحوم الثور البرى  وعند اصطياده ينطلق منبع الزغرودة وأصلها، إذن الزغرودة نتجت عن صيد الثيران البرية من طرف الهنود، فكلما تم الصيد تطلق الزغاريد الكثيفة من جوانب ثلاثة ويبقى جانب رابع من أجل تغيير وجهة الثيران وجرها إلى أحد الأودية حسب تخطيط الهنود الحمر حتى يتم صيدها.
وقال الباحثون أيضا أن قبائل «الأنكا» جنوب أمريكا كانوا يطلقون الزغاريد فى المعارك وأثناء احتدامها نظرا لما توقعه هذه الزغرودة المرتفعة بطريقتهم الخاصة من رعب ورهبة فى قلوب العدو.
هذا عن الغرب، أما عالمنا العربى الأصيل فقد انتقلت له الزغرودة فى القرن 17 عن طريق الرحالات والرحالة ومنهم اكتسبت النساء مهارة الزغرودة وسارت عنوانا للأفراح والليالى الملاح!!
وعلى العكس تماما يقول الدكتور وسيم السيسى عالم المصريات الشهير، أن هذه العادة اتبعتها مصر القديمة وابتدعتها على وجه التحديد الأسرة الثانية قبل الميلاد بـ3200 سنة.
وتابع: إن قدماء المصريين أول من عرفوا النوتة الموسيقية، واستخدموها فى توديع العظماء، فالقوانين فى مصر القديمة كانت تلزم الملك الذى يأمر بالحرب أن يكون هو نفسه فى أول صفوفها، ولعل أشهر من تم توديعهم بالموسيقى الجنائزية والرقص الجنائزى والزغاريد الملك «سقنن رع الثانى» من ملوك الأسرة الـ17 ورحل فى حربه لتحرير مصر من الهكسوس، ولحق به ابنه، وباعتبارهما من العظماء وشهداء الحرب، ودعتهما مصر بالزغاريد والطبول والموسيقى والرقص الجنائزى.
وأكد عالم المصريات أن مصر القديمة تعيش فى نفوس المصريين حتى اليوم، وتوديع الشهداء بالأفراح أمر أصيل فى «مصر القديمة»، ونراه اليوم فى جنازات ضباط الجيش والشرطة، وشهداء الإرهاب، فغالبا ما يودعهم ذووهم بالزغاريد والدموع فى آن واحد.
وبغض النظر عن أصلها، تبقى الزغرودة جزءا لا يتجزأ من هوية تراثية أصيلة خاصة بالمجتمعات العربية وبلحظات سعادتهم على وجه التحديد، السعادة التى تكون أحيانا مخلوطة بدموع لفراق شهيد يصعد عريسا للسماء.
ولم يكن غريبا أن الفنانة فيفى عبده، نشرت فيديو لها على صفحتها الشخصية عبر موقع «إنستجرام» مع مجموعة كبيرة من الراقصات البرازيليات، خلال حضورها مهرجان الرقص الشرقى.
ووقفت فيفى عبده تعلم الراقصات البرازيليات إطلاق الزغرودة.
زغرودة أخرى كانت الأشهر على السوشيال ميديا أطلقتها إيناس مظهر، المنسقة الإعلامية لمنتخب مصر فى كأس الأمم الإفريقية، الأخيرة، فى مباراة الفوز على منتخب المغرب، وقالت فى تبرير فعلتها: «احتفلت على الطريقة المصرية ومحستش بنفسى».
بعد الهدف أطلقت الزغاريد من الفرحة، «هى جات كدا، وأعتبرها زغرودة تاريخية».
وأشارت إلى أنها رافقت اللاعبين بعد انتهاء المؤتمر الصحفى، وطلبوا منى إطلاق المزيد من الزغاريد، ومن هذا المنطلق  - التاريخى طبعا  - فالذاكرة تحتفظ الآن بزغرودتين استمطرتا الدمع من عيوننا بغزارة شديدة.. الأولى نقلها بحرفية شديدة المخرج السينمائى الراحل مصطفى العقاد فى فيلم «عمر المختار» وذلك عندما قُدّمَ الشيخ المجاهد عمر المختار للمشنقة والجماهير الليبية البائسة تتطلع إليه بحزن، وما إن بدأ المجاهد يتأرجح فى ٍحبل المشنقة حتى انطلقت زغرودة عالية من بين شفاه أنثى تشٍٍهد نهاية رمز كبير من رموز الجهاد والنضال.. توالت بعدها الزغاريد لآلاف النساء!!
الزغرودة الثانية، كانت من تونس عندما اقتادوا المجاهد التونسى «محمد الدجباجى» للإعدام فى مدينة حامة رفض وضع قناع على عينية لحظة التنفيذ الذى أعقبته زغرودة أنثى تشهد النهاية لحياة مناضل كبير، رغم ذلك تبقى زغرودة تثير الشجن وتستنزف الدمع المرير.