4 وزراء ضد الثقافة: محاكمة «حلمى النمنم».. ورفاقه!
ايمان علي
تغيّر مسار هذا التقرير الذى تقرأه الآن فى أكثر من اتجاه. فى البداية؛ كان المسار تقليديا، يقوم على استطلاع آراء أكبر قدر ممثّل لجموع النخبة الثقافية فى مصر عن أداء وزارات الثقافة الأربعة التى تعاقبت بعد 30 يونيو، فواجهتنا موجة عالية من الإحساس بالخيبة وفقدان الأمل.
فقد المثقف المصرى، بعد خبرات مؤلمة، الرغبة فى التفكير فى طرح البدائل، حيث أصبح يؤمن كما أسرّ أحدهم بـ«ألا فائدة مرجوّة». بينما آثر قطاع آخر من المثقفين الصمت، الحماسة الثورية كانت لحظية على ما يبدو، ولم تعد موجودة لاعتبارات خاصة. دائما للمثقف فى بلادنا اعتبارات خاصة، لا تسمح له بالخروج من أحد المأزقين: المثقف المُدجّن والمثقف المَنبوذ.
ثم فكّرنا فى شهادة مُحاكمة عُنوانها «كنت وزيرا للثقافة»، ففوجئنا أن المأزق أكبر. لو كُنّا نملك القدرة على نقد الذات نقدا حقيقيا صادقا لما وصلنا إلى هذه العتمة. لايزال الحديث يتردّد ويتكرّر عن التهميش والتنحية، ولايزال الهامش ضئيلا فى المقابل مما لا يسمح ببلورة رؤية ثقافية محدّدة. أصبح من المُسلّمات مثلا أن المثقفين «قطع شطرنج»؛ يبرّر كاتب كبير يأسه وعدم رغبته مُشاركتنا كشف الحساب.
يتمنى البعض وجود «خريطة ثقافية لمصر» لربط الثقافة بالسياحة، ويطمح البعض الآخر إلى إنشاء مشروع قومى للموهوبين فى مجالات الإبداع، بينما تُسجّل وزارات الثقافة فى كل موجاتها وجميع قطاعاتها رقما مرتفعا فى الفشل فى تنشيط الحركة الثقافية فى مصر وخارجها.
الثقافة الآن فى مصر تفتقد إلى مشروع قومى تتبناه الدولة، ورؤية شاملة جادة للإصلاح من الداخل. هذا الوضع قبل 30 يونيو، وعقب يناير 2011. ولاتزال إلى الآن، قطاعات عديدة للثقافة لا تعمل على مستوى الجمهورية، باستثناء هيئة قصور الثقافة التى قوّضها الفساد وبالكاد تُقيم أنشطة بائسة فى المُحافظات. «عُرى» و«عشوائية» و«مصالح شللية» أفرغت الثقافة من مضمونها، وأحالت وزراءها إلى خيال مآتة، على رءوسهم الطير، مسئولى تصريف أعمال، وتيسير وزارى، «إلى أن تُفرج». محاكمة صحفية لوزراء ثقافة ما بعد 30 يونيو
وزراء الوقت الضائع
تعاقب على وزارة الثقافة بعد ثورة 30 يونيو عدد من رجالات القطاعات الثقافية فى عهد فاروق حسنى وأساتذة جامعة. فى موجات متذبذبة وفارغة من أى إنجاز حقيقى، ومليئة بالكثير من اللغو والتصريحات الرنانة، ولا «طحين» بالأخير. بدأت هذه الموجات مع الدكتور محمد صابر عرب (1948) أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر. وهذا بالذات تعاقب على المنصب الوزارى فى ثلاثة تشكيلات كلها كانت فى الوقت الضائع، وتسكين الخانات الشاغرة. تسلّم د. صابر عرب حقيبة وزارة الثقافة فى حكومة حازم الببلاوى فى 16يوليو 2013، وكان وزيراً للثقافة فى حكومة كمال الجنزورى ديسمبر 2011 وفى حكومة هشام قنديل أغسطس 2012 حتى مايو 2013 مع التعديل الوزارى الذى تولّى بعده علاء عبدالعزيز منصب وزير الثقافة فى حكم محمد مرسى.
قبل هذا، عرفنا طويلا د. صابر عرب رئيسا لمجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية.. وكان أحد رجال وزارة فاروق حسنى والحزب الوطنى. لم يُحرّك صابر عرب ساكنا فى الحياة الثقافية حين أصبح وزيرا للثقافة. بل إن التاريخ يُسجّل إقدامه على طباعة دستور الإخوان، وهو ما تبرّأ منه عقب 30/6. كانت الثقافة فى فترة حكم الإخوان فى «مهب الريح»؛ لم يُظهر الدكتور عرب خلالها موقفا رسميا واضحا مناصرا للثقافة ومناهضا لأخونتها. مع بدء إحكام الإخوان قبضتهم على الوزارة بتعيين علاء عبدالعزيز على رأس هذا المكان العريق الذى جلس على كرسيّه ذات يوم الدكتور ثروت عكاشة، اضطلع المثقفون أنفسهم بتلك المهمّة، مع اعتصامهم أمام مقر الوزارة فى 5 يونيو 2013 لكنهم مثلما حملوا ثوريّتهم وغضبهم، لم يتخلّوا كذلك عن انقساماتهم ومصالحهم المتضاربة.
عصفور.. الوزير الحائر
فى أعقاب 25 يناير؛ تقلّد جابر عصفور (1944) لأوّل مرّة منصب وزير الثقافة، خلفا لفاروق حسنى، وذلك فى 31 يناير 2011 لمّا عُهد للفريق أحمد شفيق برئاسة مجلس الوزراء. وبعد عشرة أيام، استقال من الوزارة، فى 9 فبراير 2011 لأسباب «مُعلنة» صحيّة. لكن الكواليس كانت تنقل توتّرا وضغوطا أحاطت عصفور ورأى معها أن الوقت غير مناسب، واجهته دعاوى بأنه أحد أبرز أوجه العهد البائد. من المعروف أن عصفور كان رجل الثقافة الثانى فى عهد مبارك. التصريحات التى تناقلتها وسائل الإعلام وقتها، كانت تُرجع الاستقالة إلى «عدم الرغبة فى المشاركة فى وزارة ذات وجوه وزارية من العهد البائد». قال د. جابر عصفور هذا فى برنامج «الحياة اليوم» بتاريخ 2011/2/13
ثم عاود منصب وزير الثقافة عصفور مرّة أخرى، فى يونيو 2014. وذلك فى عهد حكومة إبراهيم محلب الثانية. معروف أن حكومة محلب تشكّلت مرتين، الأولى بعد استقالة حكومة الببلاوى، فى 25 فبراير 2014 فى عهد الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، وتولّى فيها صابر عرب وزارة الثقافة، ثم استقالت الحكومة فى 8 يونيو 2014 فكان التشكيل الثانى، الذى تولّى معه جابر عصفور حقيبة الثقافة، كان ذلك فى 17 يونيو 2014 عقب تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى الحكم، وقد تم تعديل هذه الحكومة فى 5 مارس 2015 ليتــــولى منصـــب وزير الثقـــافة عبدالواحد النبوى.
يمكن القول أن وزارة عصفور على قصرها، شهدت نقاشات مهمّة محمومة، لم تسفر كما العادة عن قرارات تُنفذ على أرض الواقع. ظل عصفور حبيس صراع باطنى بين الوزير والمثقّف. مرّ على وزارة الثقافة مرور الكرام، وكان يّنتظر منه الكثير. بدا أن د. عصفور حلّ فى الوقت غير المناسب، وبعد أن تآكلت بالفعل معالم الصروح الثقافية البارزة، التى كان جابر على رأس تشكيلها وتدوير العمل فيها، مثل المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومى للترجمة.
وإذا كانت الفترة الأولى، المشحونة المضطربة، التى تولى فيها جابر الوزارة، فإن فشله فى المرة الثانية بعد 30/6 يمكن أن نقول أنه «بيد عمرو». لم يقدّم أى معالم لتطوير الأداء الثقافى. صحيح أقدمت وزارة الثقافة فى عهده على خطوة جوهرية بالإعلان عن بدء صياغة «السياسة الثقافية لمصر»، وفتح «حوار مجتمعى» للمقترحات مع المثقفين المصريين بكل أطيافهم. لكن توقّف الأمر عند هذا الحد.
كان المجلس الأعلى للثقافة قد كلّف وقتها الباحث المرموق الراحل السيد ياسين بإعداد ورقة عن «رؤية لسياسة ثقافية مقترحة لمصر»، فيما قرّر أيضا تشكيل لجنة تضم كوكبة من المثقفين البارزين والخبراء المعنيين لمناقشة الورقة بعد الانتهاء من صياغتها.
وحسب تصريحات ياسين وقتها فإن ورقة العمل المقترحة تركز على التنمية الثقافية الجماهيرية باعتبارها فلسفة عامة لأربع سنوات قادمة. ولم يكد ينتهى عام 2015 حتى استقرّت تلك الأوراق والمقترحات كسابقاتها فى مكانها الأثير داخل أدراج المكاتب والمسئولين.
النبوى.. مُهرّج يحكم وزارة الثقافة
تولى عبد الواحد النبوى أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر الوزارة فى 5 مارس 2015 فى عهد وزارة محلب. وكان الدكتور عبدالواحد النبوى، يشغل منصب رئاسة الإدارة المركزية لدار الوثائق القومية فى 2010 ثم أصبح مديرًا للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، وأشرف على إنشاء مبنى دار الوثائق فى الفسطاط، كما أنه مدير تطوير مشروع رقمنة وميكنة الوثائق، ثم أصبح أمينًا للفرع العربى للمجلس الدولى للأرشيف.
وكان الدكتور علاء عبد العزيز، وزير الإخوان، أنهى ندب د. النبوى ثلاث قيادات بدار الكتب والوثائق القومية، فى واقعة مباغتة وتعسفيّة، كان الهدف منها بالطبع سيطرة الإخوان على ذاكرة مصر. وبعد 30 يونيو 2013 واستعادة عبد الواحد النبوى منصبه فى دار الوثائق، استكمل مهامه الإشرافية على مشروع مبنى دار الوثائق فى الفسطاط، على مساحة 5 آلاف متر فى منطقة مصر القديمة، بجوار متحف الحضارة، بمنحة إماراتية. لكن ماذا عن النبوى وزيرا؟ عمد النبوى إلى سلوكيات تقليدية بائدة، على سبيل المثال الزيارات المفاجئة لمقار قطاعات الثقافة، هو صاحب التصريح الهزيل «لا نملك رفاهية الاختلاف». وسخريته من الموظفة «السمينة». خلافاته مع رؤساء القطاعات، وإقالاته الهوجاء، فقد شهد عهده أزمة استقالة د. محمد عبدالغنى من قطاع الفنون التشكيلية.
النمنم.. وزير الأمل الضائع
حلمى النمنم مواليد 1959 وزير الثقافة المصرى منذ 19 سبتمبر 2015 وحتى اليوم. وهو كاتب صحفى انشغل طويلا بالقضايا التاريخية والسياسية والإسلامية.
النمنم، وزير الأمل المسلوب، الذى انخدعت فيه الجماعة الثقافية. كانت البشرى بأن يكون على رأس الوزارة، رجل مهموم بحق بالحركة الثقافية وقضايا التنوير ومناهضة الإسلام السياسى. رجل من النخبة المثقفة المتورّطة بالفعل فى المشهد، قارئ عالى الثقافة والمتابعة، ومفكّر دقيق وماهر. لكن ما حدث أن سلب حلمى النمنم حلم جماعة المثقفين المصريين وأملهم فى الارتقاء بحركة ثقافية متينة وراسخة وداعمة للجميع. وقف النمنم كما خيال المآتة، عاجزا بإرادته وصمته عن التغيير الفعّال. لم يّحرّك ساكنا فى قضايا مهمة فرضت نفسها على الساحة. بل إن فى عهد النمنم قبع كاتب شاب سنة فى السجن فى ألفاظ كتبها فى رواية. توارى النمنم خلف ميكروفونات قنوات التليفزيون على منصة نقابة الصحفيين، ناقما على الجيل الجديد الذى ابتذل اللغة، ولم يعد يعرف «العيب والأخلاق». وله موقفه الشهير بعدما تداولت الأوساط الثقافية تصريحه بأن على مكتبه العديد من دعاوى الحسبة على عدد من المثقفين، وأنه يتفضّل عليهم بألاّ يخرجها من مكتبه لتأخذ مسارها القانوني!
باختصار، كان حلمى النمنم مهموما قبل الوزارة بقضايا مصيرية لم يعد لها حيزّها بعد شغل المنصب.
الثقافة.. مورد اقتصادى مُهمل
ظهرت وزارة الثقافة لأوّل مرّة فى مصر فى التاسع من سبتمبر عام 1952 وأسندت حقيبتها لفتحى رضوان الذى شغل منصب وزير الثقافة والإرشاد القومى.
ولا يختلف اثنان على أن الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الأشهر فى ستينيات القرن العشرين، حقق نهضة ثقافية وكان صاحب الإنجازات فى البنية الأساسية للثقافة المصرية، أو ما يوصف «بالصناعات الثقافية الثقيلة»، من قصور للثقافة ومسارح ومتاحف وسلاسل دورية للكتب المهمة والمعاجم ودوائر المعارف، فضلا عن إقامة السيرك القومى وعروض الصوت والضوء، إنقاذ آثار النوبة عند بناء السد العالى، وإقامة العديد من فرق الفنون الشعبية.
اليوم فى دول العالم المتقدّم، يجرى الحديث عن المعلومات والمعرفة باعتبارها المورد الاقتصادى الأوّل، وليس رأس المال. مصر بحاجة إلى الاستثمار المُنتظم فى الإبداع، وتصدير السلع والخدمات الثقافية. نعرف مثلا أنه يصل حجم السلع والخدمات الثقافية المصدّرة سنويا حسب إحصاءات حتى 2014 نحو 640 بليون دولار، تُسهم الولايات المتحدة وحدها بنحو 142 بليون دولار من هذه السلع والخدمات وبشكل يفوق ما صدّرته من سلع وخدمات فى مجالات الزراعة والطيران وما يتصل بهما، ولاية كاليفورنيا مثلا صاحبة ثامن اقتصاد فى العالم وقد أسهم الاقتصاد الإبداعى فيها بأكثر من 3 بلايين دولار فى الدخل المحلى والضرائب عام 2012 .
انشغل بفكرة الصناعات الثقافية الإبداعية، الدكتور شاكر عبدالحميد الذى رأس الثقافة فى خمسة أشهر فقط.. يتحدّث مثلا عن «الاقتصاد الإبداعى»، وهو مُصطلح تم التقديم له بقوة مع مطلع العام 2000 وأصبح مؤخّرا اختصاص وزارة جديدة أنشأتها الحكومة فى إندونيسيا وتهتم بقطاعات الفنون وأسواق التحف ومجالات فنون الأداء والحرف اليدوية والأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافى والأزياء والإعلان والتصميم، والبرمجيات والموسيقى والعمارة والتليفزيون والراديو وكل ما يشمله التصنيف البريطانى للصناعات الإبداعية، إضافة إلى السياحة الثقافية.
مما يشير إليه د. شاكر، هو مواءمة المناخ الثقافى والاجتماعى للإبداع. ففى مناخ من التعدد والتنوع والحرية والتفتح تزدهر المؤسسات وأساليب الحياة الإبداعية. ويقترح أن نبدأ بمشروع قناة السويس كـ«حيّز للصناعات الثقافة على ضفاف القناة».
مع كل تاريخنا المُلبّد بالصراعات وتقليب المصالح، تصبح عبارات من قبيل «مصر الآن تحتاج إلى عقل جديد، وتفكير جديد، وخيال جديد» سهلة وديباجية، فقدت معناها، ويُصبح الحديث عن الحاجة إلى «مدن إبداعية» ضربًا من الخيال. فلا جامعات ولا مؤسسات مؤهلة لذلك عندنا.







