الدكتورة فادية عبدالجواد لـ«روزاليوسف»: أحلم بمدينة متكاملة لتعليم فاقدى السمع
هاجر عثمان
صناع الأمل لا يعرفون اليأس، حتى ولو تذوقوا كل مرارة العالم. لا يكترثون بأحد، فقط الهدف والحلم هو سيد الموقف. هيلين كيلر رحلت قبل 50 عاما لكنها عادت ثانية بروح مصرية وملامح ريفية أصيلة. الدكتورة فادية عبدالجواد أول طبيبة صماء فى العالم، تخرجت فى كلية الطب بجامعة عين شمس سنة 1986ومارست الطب لمدة 20عامًا وهى صماء تمامًا، تخصصت فى الأمراض الجلدية والتجميل، قبل أن تجرى عمليتين لزراعة قوقعتين لاستعادة السمع، لتسطّر خطة عمل وكفاح طوال رحلة حياتها التى استمرت 41 عامًا بين جدران الصمت، سافرت فى العديد من الدول العربية والأفريقية من أجل نشر علمها، وتم تكريمها من جهات دولية ومحلية عديدة.
فى حوارها مع «روزاليوسف» تحدثت عبدالجواد عن روشتة مفعمة بالأمل والإلهام للأصحاء قبل ذوى الإعاقة، وإلى نص الحوار:
> ما هى أبرز محطات رحلتك، رحلة الكفاح والأمل؟
- الرحلة لم تكن شاقة ولكن كانت ممتعة ولو عاد الزمن بى كنت اخترتها بكل ترحاب، طوال مسيرتى التى استمرت لمدة 41 عامًا منذ أن فقدت السمع عام 1973وعمرى 11 عاما بعد إصابتى بالحمى الشوكية التى ترتب عليها فقدان السمع كان شعارى هو «لا يوجد مستحيل»، من الأمل تولد العزيمة، وأتذكر بعد إفاقتى من الغيبوبة التى استمرت لـ8 أسابيع وبعد أول إشارة لوالدى أن امتحان الشهادة الابتدائية اقترب، قلت له فورا «عايزة كتاب سلاح التلميذ».
> كيف استقبلت الطفلة فادية عبدالجواد محنة الصمت؟
- البداية كانت صعبة جدا، بكاء وغضب وانفعال، خاصة فترة إجازة الشهادة الابتدائية، وكنت طفلة نشيطة ترقص الباليه تعشق الحركة قبل الصمم، فكان صعباً للغاية الانتقال من هذا الصخب إلى الصمت فجأة، حتى إننى كنت أقوم بكسر أكواب المياه فى الأرض ظنا أننى أسمع صوتها ولكن هذا لم يحدث، حتى تغلبت على ذلك بإتقان قراءة الشفايف وكان أول تحدٍ وانتصرت فيه.
> هل كان وقتها يوجد مراكز للتخاطب والتأهيل؟
- إطلاقا تعلمتها بنفسى، وساعدنى إخوتى ووالدى، ومشاهدة الأفلام العربى ومتابعة نشرات الأخبار حتى أتقنت قراءة الشفايف بدقة وهو ما ساعدنى فى الالتحاق بالمرحلة الإعدادية ثم الثانوية والطب بكل سهولة. ورفضت الاستسلام ونظرات الشفقة والحزن فى عيون أمى وأخواتى، وقررت الاستمرار فى النجاح والتفوق العلمى كما كان معهودًا عنى قبل فقد السمع والحفاظ على موقع الفخر الذى أحظى به وليس موقع الرثاء.
> كيف كان دعم أسرتك فى هذه المحنة؟
- الأب كان عكازى فى الحياة، كان سندا وحازما وكان يعاملنى بشكل طبيعى بعيدا عن الشفقة والعطف، فاهتم أبى بدراستى ومتابعتى المستمرة وتشجيعى الدائم على القراءة وطلب العلم، ولم يكن يتقبل أى أخطاء أو فشل من جانبى. حتى صرت أشعر بأنه لا ينقصنى شيء بل إننى متميزة عن الزملاء بنجاحى ودرجاتى المرتفعة دائما، فكنت الأولى على المدرسة بالشهادة الإعدادية ثم الثانوية.
> كيف كان إصرارك على اختيار كلية الطب رغم الصمم؟
- هذه الرغبة كانت متأصلة فى نفسى من قبل فقدانى للسمع؛ أن أكون طبيبة لخدمة الناس وخاصة الفقراء وبالفعل تحقق ذلك بعد التخرج، كان كل يوم جمعة أسافر مع والدى لخدمة أهالى بلدنا، حتى إننى كنت أدون على كراساتى «الدكتورة فادية»، ولم يزحزح الرغبة إصابتى بالصمم، بل كانت حافزا مضاعفا، وكانت الرغبة الأولى فى كراسة الرغبات «كلية طب عين شمس»، دعمها مجموع %98.5 بالثانوية العامة، وبالفعل تحقق الحلم.
> هل كانت هناك عقبات أثناء دخولك الكلية بخصوص الصمم؟
- إطلاقا اجتزت الكشف الطبى ولم يلحظ أحد كونى لا أسمع، وهذا يعود لإتقانى قراءة حركة الشفايف بدقة بالغة، حتى إننى نسيت كونى صماء، ولكن الصعوبات بدأت بعد الدراسة وهو عدم تمرسى على قراءة حركة الشفايف للأساتذة أثناء المحاضرات وكانت كل المواد بالإنجليزية، ولكن مع التدريب والقراءة المستمرة تجاوزت ذلك.
> أبرز التحديات التى واجهتك أثناء الدراسة الطب؟
- الامتحانات الشفوى كانت أبرز مشكلاتى، وكان هناك تعنت من جانب الأساتذة فى عدم كتابة السؤال على السبورة، فالبعض كان يعتقد أننى أدعى ضعف سمعى كى أستعطفهم. وكثيرا ما تم ظلمى فى الدرجات حتى إن الدكتور ماهر مهران - وزير الصحة الأسبق رحمه الله - كان يمتحننى فى النساء والولادة وقام (بعصري) حرفيا مستنكرا وجودى فى كلية الطب، حتى إنه بعدما عرف من أحد الأساتذة كونى صماء قالها لفظيا «هو إحنا ناقصين»، وفى نهاية الامتحان سألنى سؤالا أعتبره صعبا جدا وأجبت عليه فورا ببساطة تامة، وفوجئت به يقوم من كرسيه ويحيينى واقفا، ثم ابتسم لى قائلا اذهبى ربنا يوفقك، وكان يوما من أيام انتصارى، ولكن رغم الصعوبات كان هناك أساتذة شجعوننى فى مشوارى منهم الدكتور على خليفة، والدكتور طلعت الديب.
> ماذا عن أول كلمة طرقت أذنك بعد إجراء عملية زراعة القوقعة وتأثيرها عليك؟
- أجريت العملية الأولى عام 2006 بعد إلحاح شديد من أبنائى، ورغم غضبى من طلبهم لإحساسى بكونى طبيعية ولا ينقصنى شيء تفهمت رغبتهم عندما قالت ابنتى الكبرى جهاد «ياماما نفسنا ننادى عليكى من الحجرة وتردى علينا»، وكانت أول كلمة استمعت إليها بعد العملية هى «ماما» بكل ما تحمله من معانٍ حنونة ورقيقة، وأتذكر أن العملية كانت قبل فرح ابنتى «جهاد» بشهور قليلة، وكانت أول جملة كاملة أسمعها بوضوح صوت غنائها فى الفرح مع عريسها «من الحلم ده متصحنيش»، واستمر فعلا الحلم بعد إجراء العملية الثانية عام 2014.
> ما الذى اختلف بعد عودتك من عالم الصمت الموحش إلى عالم الأصوات؟
- كانت بمثابة ميلاد جديد وإعادة لاكتشاف الحياة مرة أخرى بل عودة للروح، وأتمنى أن أنقل تجربتى للآخرين ونشر الوعى بطرق العلاج الحديثة وبثقافة زراعة القوقعة وسماعات الأذن الحديثة، وأعتبر عودتى من عالم الصمت بمثابة مسئولية على عاتقى لكى أحمل الأمل لغيرى من الذين مازالوا يعانون من الصمم.
> ما هى التحديات التى تواجه ذوى الإعاقة السمعية؟
- مصر تعتبر الدولة الأولى على العالم من حيث ارتفاع نسبة فاقدى السمع، والأعداد تتزايد خاصة فى المواليد، لذا أدعو أولا أطباء السمعيات بإجراء دراستهم لكشف الأسباب، حيث يؤدى الكشف المبكر لمعرفة ما الذى يحتاجه الطفل مبكرا سواء زراعة قوقعة أو سماعة أو «تخاطب».
> ولكن تكلفة زراعة القوقعة باهظة.. هل تعتقدين أن الدولة قادرة على ذلك؟
- بالفعل تتجاوز تكلفة زراعة القوقعة الواحدة 200 ألف جنيه، ولكن الدولة يجب أن يكون لها دور فى توفير الرعاية الطبية لتلك الملايين من الأطفال والشباب الذين يعانون الصمم، توفير العلاج للأصم مهم جدا حتى لا يصبح عالة على أسرته ومجتمعه، ومن ثم يتعلم ويعمل بعد ذلك ويصبح شخصًا منتجًا يساعد فى بناء دولته، وأحذر بشدة من إهمال الملايين من فاقدى السمع لأنه يمثل قنبلة موقوتة وخطرًا على المجتمع.
> باعتبارك طبيبة.. كيف تقيمين خدمات التأمين الصحى لذوى الإعاقة ؟
- للأسف التأمين الصحى الآن لا يغطى سوى نسبة ضعيفة لا تتجاوز %2 من أعداد الصم فى مصر، بل هناك إهدار لمئات الآلاف من الجنيهات التى ينفقها التأمين لزراعة القوقعة - والتى تأتى الموافقة عليها بعد مشوار صعب، حيث لا يوفر التأمين المراحل اللاحقة للعلاج بعد زراعتها من تدريبات التخاطب وهى مهمة جدا وبدونها تفشل عملية القوقعة، وتستغرق فترة التأهيل على التخاطب من 4 إلى 6 سنوات حسب السن التى أجرى فيها الشخص عملية الزراعة.
> ماذا لو نجحت فى الحصول على جائزة «صانع الأمل».. ما الذى تقدمينه لذوى الإعاقة السمعية؟
- كل رسالتى أن تصبح رحلة هؤلاء أقل صعوبة ومشقة من رحلتى، لذا أحلم بإنشاء مؤسسة كاملة لتعليم الأطفال من ذوى الإعاقة السمعية فى كل المراحل التعليمية من خلال توفير وسائل حديثة للتدريس حتى الالتحاق بالجامعة، هدفى هو رعاية هؤلاء الأطفال الذين يرفضهم المجتمع وينبذهم بدون سبب، ويتهمهم بأنهم غير مؤهلين للتعليم وليس من حقهم الالتحاق بالجامعة.
> وماذا عن حلمك لإنشاء مصنع لزراعة القوقعة؟
- فعلاً، أناشد الحكام العرب والمسئولين فى بلادى لإنشاء مصنع لزراعة القوقعة، نحتاج إلى مصنع واحد فقط يغطى الوطن العربى وينقذ الملايين من فاقدى السمع المهمشين ويحولهم إلى أشخاص منتجين فاعلين يخدمون أوطانهم.
> كيف ترين إعلان الرئاسة لعام 2018 أنه عام لذوى الإعاقة؟
- لا يوجد شيء اسمه شخص معاق ولكن هناك مجتمع معاق، فهم ذوو القدرات الخاصة وليس الاحتياجات الخاصة، من المهارات والقدرات الإبداعية الهائلة ولكن يحتاجون إلى تمكين حقيقى وتوفير لمطالبهم الأساسية حتى ينطلقوا فى مشوارهم، لذا يجب أن ننشر ثقافة الاختلاف بل نفرضها فرضا بالقوانين، ونأمل فى القانون الذى يعده البرلمان الآن بشأنهم أن ينص على التزام وزارة التعليم بدمج حقيقى للأطفال ذوى القدرات الخاصة مع أقرانهم، فضلا عن تجريم وعقوبات للسخرية من ذوى الإعاقة وإهانتهم والإساءة لهم.>