الأحد 4 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

دولة الرئيس أنطون الجميل

دولة الرئيس أنطون الجميل
دولة الرئيس أنطون الجميل


عندما عرضت عليه القيادات المارونية السياسية والدينية  فى لبنان، طرح اسمه كرئيس للجمهورية اللبنانية كبديل لبشارة الخوري، رفض أنطون باشا الجميل رئاسة جمهورية الآرز، وفضل مهنته الصحفية، حيث كان أشهر رئيس تحرير فى العالم العربى وقتها.
فحينما وقع خلاف بين البطريرك المارونى أنطون عريضة، ورئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري، نتيجة تدخل الأخير فى السياسة الكنسية، حيث كان يشكو البطريركية أمام الفاتيكان، كان المطران فى كرسى القاهرة بطرس ديب  قد أبلغ البطريرك الماروني، أن الأجدر فى الموارنة  لرئاسة  لبنان هو أنطون الجميل، حيث كان الرجلان (أنطون الجميل، والبطريرك عريضة) على مسافة سياسية واحدة، فذهب  المطران بطرس ديب إلى أنطون الجميل ليبلغه باقتراح القيادات الدينية، فرفض الجميل.

وروى حافظ محمود، أن أنطون فى العام 1945: «جاءه من يقترح عليه أن يصفى أعماله فى القاهرة، ويقصد إلى بيروت، على أن يرشحوه هناك لمنصب رئيس الوزراء»، فرفض الجميل وفضل مكانته الصحفية. والرواية مغلوطة وبلا تفاصيل - كما ذكرنا - عن ترشيحه للرئاسة كبديل لبشارة الخوري، لأن رئاسة وزراء لبنان كانت من نصيب المسلمين السنة، طبقا للميثاق الوطنى الشفهى 1943 والذى قامت على إثره المحاصصة الطائفية فى السلطة اللبنانية، فكيف إذن أن يرشح لها مارونى اسمه أنطون الجميل؟!.. وأخطأ شيخ الصحفيين فى التاريخ، ولم يذكر من الذى اقترح على أنطون الجميل. وكل من كتبوا عن الجميل نقلوا عن حافظ محمود روايته هذه من كتابه «عمالقة الصحافة» بلا تروي.
آل الجميل فى المحروسة
وتاريخ آل الجميل فى مصر بالغ القدم، فقد عمل منهم مترجمون أيام حملة بونابرت على المحروسة  (1798-1801) إلا أن أشهر اسم برز فيهم بعدها  كان جرجس الجميل، والذى قتل إبان الثورة العرابية  1882 فى الإسكندرية حيث عمل لسنوات مترجما للقنصلية الفرنسية فيها، وكانت المنصورة وقتها تجمع آل الجميل الأولين أمثال: غنطوس الجميل، وكنج الجميل، ثم الياس الجميل، وهو والد جنفياف (زوجة الشيخ بيير فيما بعد) والتى ولدت بالمنصورة أيضا، وهى أول امرأة  مصرية وأصغرهن (16 عاما) تستخرج رخصة قيادة سيارة، وأول مصرية وعربية تقود طائرة، وقد كرمها الملك فؤاد. إضافة إلى أنها مصممة العلم اللبنانى (على ستارة منزلية).
وأخوها موريس الجميل الذى صار فيما بعد وزيرا  للمالية ثم التخطيط فى الحكومة اللبنانية.
 وبعدهم وفد للمحروسة كل من يوسف بشير الجميل وأخوه أمين بشير الجميل، هاربين من حكم إعدام أصدرته بحقهما  السلطات العثمانية، حيث كان الأخوان ذوى نزعة استقلالية وميل إلى الفرنسيين أعداء السلطان العثماني، وهناك ولد لأمين ابنه الأشهر بيير فى المنصورة عام 1905ليكون فيما بعد الشيخ بيير الجميل، أول مؤسس لحزب مسيحى عربى هو «حزب الكتائب» والذى سانده الرئيس المصرى أنور السادات طيلة حياته فى الأزمة اللبنانية نظرا لميلاده المصرى وأصول العائلة المصرية، وهو والد أول رئيسين من أصول مصرية يحكمان لبنان (1982-1988) هما ابناه بشير وأمين الجميل.
 ثم لحقهما شاب طامح من أبناء عمومتهما هو أنطون الجميل الذى جاء ليحرر «مجلة الزهور»، والتى اتخذ اسمها فيما بعد ابن عمه موريس الجميل ليطلقها اسما لعيد فى لبنان وهو «عيد الزهور» 1933.
المسيحى المارونى مؤسس «الأهرام» الحقيقي
ولد أنطون الجميل عام 1887 فى بكفيا قضاء المتن، بجبل لبنان، قدم إلى مصر قاصدا الصحافة والشعر فأسس  مجلة «الزهور» الأدبية الفنية عام1910 وبعد توقفها مارس الصحافة فى مجلة الهلال، ويروى أنطون أنه فى يوم  كان يقرأ ديوان خليل مطران فكتب بعض المسودات عنه ثم نقحها، وذهب بها إلى جورجى زيدان فى مكتبة الهلال بالفجالة وعرضها عليه، فوعده زيدان بنشرها الشهر المقبل، بعدها علا صيت الجميل، فبدأ يكتب فى المقتطف والمصور، بجانب عمله  فى وزارة المالية، إلى أن دعاه جبرائيل تقلا للعمل فى «الأهرام»، حيث تولى رئاسة تحريرها بعد وفاة داود بركات فى الفترة من(1933 1948-). أخلص الجميل لمهنته الصحفية، والتى أخذت كل وقته، فكان يبيت فى الأهرام، ولم يتزوج لضيق الوقت. وارتفعت مبيعات الصحيفة الأشهر فى العالم العربى من خمسين ألف نسخة وهو أعلى رقم سجلته مبيعات الصحيفة فى عهد أسلافه، الى مئة ألف نسخة  عندما تولى الجميل رئاسة تحريرها.
وخلال فترة رئاسته للأهرام رعى الجميل كثيراً من الأدباء والمفكرين أمثال المازنى ومى زيادة التى كان يصرف لها من الأهرام مكافأة نظير مقالات غير دورية ترسلها زيادة فى الوقت الذى تشاؤه، كى تستمر فى إصدار صحيفة «المحروسة» التى شارك ابيها فى تأسيسها، وصالونها الادبى الشهير، ومنحها أيضا شقة من ممتلكات «الأهرام» فى شارع علوى تسكنها بلا أجر، إضافة إلى أن الجميل قد قدم الكثيرين  من اعلام الصحافة أبرزهم كامل الشناوي، والتوأم على ومصطفى أمين. ومن الحكايات الطريفة أن على أمين ذهب إليه  عام 1938 بعدما عرف أن الشعر مفتاحه فحفظ شيئا من شعره وأخذ يردده أمامه  فقبله الجميل رئيسا لقسم الأخبار، بل وسأله عن توأمه  مصطفي، متى يعود وينهى دراسته فمكانه «محجوز». وعلى أثر الحكاية هذه ذهب موسى صبرى بدوره إلى أنطون وقرأ له قصة فرفضه الجميل متعللا بضيق الحالة المادية فى الصحيفة.
ويروى كامل الشناوى أنه جاء لرئيس تحريره أنطون باشا بخبر عن مرض عبد العزيز فهمى باشا، وزير الحقانية (العدل) الأسبق، فسأله الجميل: هل استأذنته فى النشر؟.. فأجاب الشناوي: لا.. فرد الجميل: هذه أخبار شخصية ولا يجوز نشرها الا باستئذان أصحابها.
وأنطون الجميل أو المسيح الماروني، أكثر ما اشتهر به أعماله الخيرية ودماثة خلقه، ومساعدته للفقراء، فكان يهب 90 % من راتبه  الشهرى الكبير،  والذى كان يصل مع مكافآته إلى 8 آلاف جنيه فى الأربعينيات (أى ما يعادل اليوم 2 مليون جنيه تقريبا أو كثر، مع حساب القيمة الشرائية فى الزمنين) إلى الجمعيات الخيرية  كما يروى معاصروه،  والذين شهدوا بأنه لم يكن يمتلك حسابا مصرفياً طيلة حياته. إضافة إلى أنه أول من أقام مأدبة إفطار الوحدة الوطنية فى مصر (كما ذكرنا فى موضع سابق).
كان الجميل  مارونيا متدينا ومحافظا، ترأس «جمعية المساعى الخيرية المارونية»، وخصص لها نسبة من راتبه. وكانت له فيها مواعظ دينية، فكان ينتدب كل عام 4 مرات لإلقاء موعظته الدينية فى عيد الميلاد، والفصح، وعيد مار مارون، ومار شربل.
وكان الرجل معتدا بأصوله وجذوره، وقف يوما فى «جمعية المساعي» يوم 12 فبراير 1922 يخطب فى الموارنة المجتمعين:
«.. ومن يريد أن يرى بأم العين ما تصوره له المخيلة عن النصرانية فى إبان نشأتها، وأن يعرف حرارة العقيدة، وطهارة الآداب، وروح التجرد بلا مغالاة، والسلطة بلا استبداد، والفقر بلا تذلل، والكرامة بلا صلف. ينبغى له أن يزور «بلاد الموارنة»، فالرجل منهم وسيم المحيّا، شريف الطلة.. نحن نتغنى بالوطنية فى الأندية، ونترنم بأناشيدها فى الشوارع».
انتخب  الجميل عدة مرات فى مجلس النواب المصري، وتولى رئاسة لجنة الشئون القانونية والموازنة فيه. وحصل على اللقبين الأشهرين:  البك والباشا، ومنح الجنسية المصرية بموجب 3 قرارات  كان آخرها عام 1929 وترشح لانتخابات نقابة الصحفيين فلم ينجح لأنه عرض أن يكون الصحفى مؤهلا تعليميا ومهنيا. وفى أول تعليق له على سقوطه قال: «العضوية فى هذا المجلس ليست لى بل لأبنائى فى المهنة».
كان الرجل صاحب شخصية كاريزماتية عالية، جاءه رئيس الوزراء على ماهر ليعتذر له فى مكتبه بـ«الأهرام»، وبعد هذه الواقعة كانت عينه لا تكف عن النظر إلى كرسى رئاسة وزراء مصر، خاصة وأن المسيحى بطرس نيروز غالي، قد اعتلاها  قبله بسنوات (1908-1910) فكان يأتى بالموارنة من لبنان إلى مصر لتعزيز نفوذه السياسى ويمنحهم الجنسية المصرية، فالملاحظ أن أكثر العائلات المارونية فى مصر عددا هى عائلة الجميل، إضافة إلى أن بقية الموارنة يحفظون شيئا لأنطون، وأن أكثر المهاجرين الموارنة قد زادوا فى عهده. وقد حدث العكس من قبل ابن عمه الشيخ بيار الجميل، إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) فكان بيار يأتى بالاقباط من مصر، ويدخلهم فى حزب الكتائب ليزيد من أعداد مريديه.
واسم أنطون الجميل لايزال مدويا إلى الآن كأشهر شخصية مارونية مصرية وعربية، عاش أنطون طامحا وقدم لمصر حاملا طموحه على كفه، وعلى ظهر سفينة حملت حقائب تحوى مسودات «مجلة الزهور» اول مشروعاته الصحفية والأدبية. عاش محبا للفكاهة والضحك مخفيا خلف ابتسامته  تجاعيد فقدان الثقة فى المرأة لما خلفته سيرة مى زيادة، وإليسا داغر (عشيقة العقاد أو كما أسماها سارة فى روايته) التى كانت على كل الألسنة!! ومات على فكاهة.. «حادثة البيض»، فالرجل النحيل الزاهد، فجأة طلب من عامل البوفيه فى «الأهرام» طبقا كبيرا من البيض المقلي، تناوله بشراهة غير معهودة فأصيب بأوجاع وضيق فى التنفس.. ومات شهيد البيض!
وعندما خرجت جنازته من الكاتدرائية المارونية بحى الظاهر كان مشهدا يستحق التسجيل فى صفحات التاريخ المشرقة، فقد شيعه أصدقاؤه وتلامذته فى جنازة مهيبة، وكأن أنطون حى يوصيهم  بلسان الشاعر العربي: «أقول لأصحابى ارفعونى فإننى يقر بعينى أن سهيلا بدا ليا»، فدخل المسلمون الى الكاتدرائية حاملين نعشه، ووقف الأطفال الأيتام يلقون نظرة الوداع عليه، إذ جمعهم العم إبراهيم، أحد المشرفين على دار أيتام كان يرعاها انطون، فى سيارة، واصطحبهم ليحضروا الجنازة. سأله اندراوس ضرغام: «لماذا فعلت هذا؟».. فأجاب: «كى يرى الأيتام بأم أعينهم الرجل الذى رعاهم بأمواله ميتا، فإذا تشردوا وتحولوا إلى أطفال شوارع من بعده فلا يلوموني».
نكسة الموارنة بعد موت الجميل
فى صبيحة 13 يناير من العام 1948 انتكس الموارنة، واستيقظوا على كبرى الفواجع : مات المسيح المارونى أنطون باشا.. كان المارونى المصرى شديد التعلق بمارونيته،  فكان ينادى باسمه مقترنا بـ«الماروني».
ورغم هذا الحرص والاعتزاز بالعرق الماروني، إلا أن الفقر والهجرة  كانا لهما دور بارز، فكثير من المهاجرين اللبنانيين (غير الشرعيين) الذين استقدمهم أنطون الجميل إلى مصر لتعزيز نفوذه بأناس من بنى عرقه (المارونى) قد وجدوا أنفسهم فجأة فى العراء بلا أى ورقة رسمية: لا جنسية لبنانية ولا مصرية، ولا هم مقيدون فى سجلات الكنائس المارونية، لأن من استقدمهم  ووعدهم بالجنسية قد توفى فجأة عام 1948 فاستقبلهم رجال من عائلة «خياط» والتى كانت تسكن أسيوط وهم من أصول شامية، وتم إدراجهم فى سجلات الكنائس الأرثوذكسية واستخراج شهادات ميلاد مصرية لهم بتواريخ قديمة، وكان رجال الدين الارثوذكس يأخذون من الموارنة الوافدين (غير الشرعيين) مقابلاً مادياً للإدراج فى السجلات، إذ كانت الكنيسة فى أيام البابا القبطى يوساب الثانى  مليئة بسطوة رجاله الذين استغلوا الدين فى «البيزنس».
والحاجة إلى المال دفعت فقراء الموارنة  المصريين المقيدين بالسجلات الرسمية  أن يبيعوا أوراقهم وأوراق آبائهم المتوفين لليهود، ويغيروا هم المذهب للأرثوذكسية، فبعدما تعرض اليهود للتضييق ثم الترحيل فى الفترة (1948-1961)  أيام عبد الناصر كان اليهودى يشترى وثائق تضمن له الاستمرار فى مصر دون تهجير، إضافة إلى أن بعض السجلات المارونية  الخاصة بالوفاة قد فقدت، والحقيقة أنها سرقت. وكان اليهودى يفاضل بين من يأخذ أوراقه المارونى أم القبطى حسب السعر الأقل الذى يرضى اليهودى لشراء وثائق، فيبيع المارونى مقابل حفنة من المال، ولأن أغلب الأقباط لم يكن لهم وثائق كميلاد أو وفاة تم بيع العدد الأكبر من وثائق الموارنة الشخصية لليهود.
ويلاحظ أن أكثرية أقباط الصعيد خاصة فى محافظة أسيوط لم يكن لهم وثائق فى الدولة خاصة شهادات الميلاد، إذن فهم ساقطو قيد فى سجلات الدولة، وفجأة تجد أعدادهم المقيدة فى سجلات الدولة قد تضاعفت!! وذلك كنتيجة مباشرة للموارنة الذين أدرجوا فى السجلات القبطية. أما فيما يخص الوثائق المارونية،  فعلى سبيل المثال سجلات البطرخانة المارونية فى القاهرة  أغلبها مفقود إضافة إلى أنه فى سجلات الوفيات بين العامين (1914-1953) تبلغ أعداد الموارنة  المسجلين فيها كمتوفين 2524 حالة وفاة، وهو رقم كبير جدا إذا ما قورن بأعداد الموارنة الموجودين فى القاهرة وحدها، والذين لم يتجاوزوا بأعلى تقدير 7 آلاف. أما أموال أثرياء المارونية والتبرعات فكانت كثيرة إلا أنها كانت توجه للدولة على شكل تبرعات أو إنشاءات كنوع من مظاهر الوجاهة الاجتماعية ولا توجه للفقير الماروني. 
إضافة إلى أن كثيراً من الموارنة تدخلوا بصفة غير رسمية فى الاطلاع والتلاعب بالوثائق الموجودة فى مؤسسات الدولة المصرية بلا معرفة الدولة، فنجد أن رجلا مارونيا من جمعية القديس منصور المارونية، واسمه توفيق لبس استطاع أن يحصى أعداد الموارنة المقيدين  فى دائرة الإحصاء الرسمية فى الدولة بمعاونة رجلى دين مارونيين هما: الخورى يوحنا الحاج، والخورى يوسف البجاني. 