إلى رئيس الوزراء: 24 مليارا رواتب 73 ألف مستشار سنويا
محمد مصطفي و هالة أمين
الدواء مر.. تلك حقيقة منطقية لا تقبل الجدل، فالناس يتناولونه ليس من أجل التلذذ بمذاقه، وإنما طلبًا لأن يبرأ الجسم من المرض، وقديمًا قال شاعرنا العربى «لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا»..
مع اعتماد مجلس الوزراء خطة الترشيد أو التقشف الحكومية، الهادفة إلى تقليل الإنفاق على الجهاز الإدارى للدولة بما يتراوح بين 15 % و20 %، يبدو الأمر فى حاجة إلى الكثير من التروى والتدبر، حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه.
على الرغم مما أعلنته الحكومة «رسميًا» من أن الترشيد المنشود لن يمس الأجور، فإن هناك إشارات تبدو شديدة الخطورة، منها أن الخطة تقتضى وقف التعيينات فى المؤسسات الحكومية، وهى مؤسسات لا يمكن أن ننكر أنها تعانى ترهلًا هيكليًا، وتضم طوابير من «البطّالة المقنعة» غير أن وقف التعيينات سيفضى إلى طوابير من البطالة الحقيقية، فى بلد يقول تقرير صندوق النقد الدولى الصادر فى أكتوبر الجارى، عن شمال القارة السمراء إنها الأعلى من حيث بطالة الشباب، هذا رغم أن عدد الموظفين بالجهاز الإداري 6 ملايين، فكيف سيكون الحال فى حال وقف التعيينات أو تسريح أعداد منهم؟
ليس كشفًا بالطبع أن نقول إن البطالة فى مجتمع ما، تمثل أصل الشرور، ومن تداعياتها تعاطى المخدرات والجريمة وأيضًا الاستقطاب إلى جماعات العنف المسلحة التى تجد التربة الخصبة فى ثنائية الجهل والفقر، وهى ثنائية متحققة من دون شك فى مصر.
إذا كانت احتمالية تسريح موظفين بالجهاز الإدارى للدولة، أو تقليص رواتب مستبعدة «حتى الآن»، فإن المنهج بذاته يكشف عن منطق مختل تتبناه الحكومة، أو بالأحرى الحكومات المتعاقبة إزاء الثروة البشرية، فالتعليم الذى يخرج كوادر من غير المؤهلين، وبرامج التدريب التى لا تكاد توجد، والبيئة الوظيفية الطاردة للمبدعين.. كلها عوامل تثبط الموهوبين، والغريب أن الحكومة، - ومجددًا بالأحرى الحكومات المتعاقبة، التى فشلت فى استثمار وإدارة القوى البشرية، وتعامت عن أن التنمية الحقيقية لا تتأتى إلا بالبشر - تحمّل أولئك البشر تبعة خطاياها، ولا ترى المشهد إلا من زاوية أن الموظفين عالة، لا يعملون ويقبضون رواتب، تكبد ميزانية الدولة 206 مليارات جنيه أى أكثر من 25 % من الموازنة العامة.
تلك وجهة النظر الرسمية التى لا تستنكف عن التذكير بأن «الموظفين عبء على الموازنة، فى حين أن أصل العلة وبيت الداء هى أن «هؤلاء العالة» لم يجدوا تعليمًا ولا تأهيلا، فصار حالهم كحال طفل قذفوه فى أمواج المحيط من دون أن يتعلم السباحة، ثم وجهوا له التهم بأنه مسئول عن غرقه.
استلهام تجارب التنمية فى دول شرق آسيا مثلا، ومنها بالطبع ماليزيا، وصولاً إلى التجربة الهندية الراهنة، يؤكد أن القوى البشرية المؤهلة والمدربة هى ألف باء النهضة، فبدلاً من ترديد أسطوانة أن الشعب كسول، على الحكومة أن تعمل على تأهيله، وعوضًا عن العزف على ربابة البطالة المقنعة عليها أن تسارع إلى جراحة شد لترهل الجهاز الإدارى، بحيث لا ينحسر دور الموظف فى التوقيع على كشوف الحضور والانصراف، ومن ثم يلوذ بالمقاهى فيتطبع من الكسل، ويركن إلى الخمول.
وإذا كانت القوانين الاشتراكية التى تضبط إيقاع عملية التوظيف منذ الحقبة الناصرية حتى الآن لم تعد صالحة، فليس الحل فى شطب تلك القوانين كليًا، وإنما فى نظام اقتصادى مختلط على غرار النظام الفرنسى، الذى يكفل التوظيف، بعد التعليم والتدريب، ومن ثم يربط الأجر بالإنتاج.. وعندئذ لن يصبح الموظفون عبئًا، والأمر ليس اختراعًا، ولا كشفًا غير مسبوق.
على جانب آخر، فإن الترشيد الذى أعلنته الحكومة، يستهدف فيما يستهدف القضاء على آفة وظيفية مصرية، وهى آفة المستشارين الذين يتقاضون رواتب فلكية ومستثناة من الحد الأقصى للأجور فى حين أنهم واقعيًا -إلا قليلاً- يمثلون طابورا «مميزًا جدًا» من طوابير البطالة المقنعة.
ووفق تقرير أصدره المركز المصرى للدراسات الاقتصادية منتصف العام الجارى، فإن رواتب «طابور المستشارين المميز» يكبد الدولة 24 مليار جنيه، وبتقسيم هذا الرقم على عدد المستشارين الذين لا يزيدون على 73 ألفًا، فإن كلا منهم يتقاضى فى المتوسط 329 ألف جنيه سنويًا، أى نحو 28 ألفا شهريا.
إزاء هذا الرقم الكبير فى هذا الوقت «الأكثر من صعب» اقتصاديًا، فإن التوجه الحكومى نحو القضاء على دولة المستشارين، يمثل حراكًا مهمًا ومؤثرًا، غير أن العبرة بالتنفيذ لا بالتصريحات، فقد تعودنا من الحكومة، بل من الحكومات المتعاقبة أن الكلام مدهون بزبد يطلع عليه النهار «يسيح».
فهل هناك آلية ما لفرض التخلص من المستشارين «المقنعين» فى الوزارات؟
لوزير العدل وحده نحو 20 مساعدًا فى قطاعات وإدارات مختلفة، ولدى كل مساعد مكتب فنى من أربعة إلى خمسة مستشارين، بما يعنى وجود من 80 إلى 100 مستشار فى خدمة الوزير، فهل سيتخلى عنهم ترشيدًا للنفقات أم سيتمسك بهم «لخدمة صالح العمل»؟.. هذا على سبيل المثال.
وما يقال بشأن المستشارين يقال أيضًا بشأن خفض البعثات الدبلوماسية بنسبة 50 %، بعدما وصل عدد البعثات المصرية بالخارج 162 سفارة وقنصلية ومكتب رعاية مصالح ومكتب تمثيل، ويقدر عدد الدبلوماسيين العاملين بالبعثات المصرية وديوان وزارة الخارجية بالقاهرة إجماليًّا بـ980 دبلوماسيًّا من كافة درجات السلك الدبلوماسى والقنصلى، يتم تعيينهم فى الوزارة وإيفادهم للخارج عبر مرحلتين مختلفتين من الامتحانات، حسب موقع وزارة الخارجية، وتحصل الخارجية على ما يقرب من مليارى و100 مليون جنيه من الموازنة العامة للدولة، مقابل توريد ما يقرب من مليار و300 مليون من المتحصلات القنصلية.
مجددًا.. العبرة بالتنفيذ على أرض الواقع، فالتقشف كما أسلفنا هو دواء قد يكون مرًا.
إلى جوار هذه النقطة المفصلية، ثمة علامات استفهام كبرى عما إذا كان بوسع المسئولين الحاليين تنفيذ خطط تقشف، وهم الذين تعودوا على الحياة المخملية، ومن ثم ليس سهلًا إقناعهم بالبعد عن «العز».
لدينا وزراء لا يتحركون إلا بمواكب من السيارات الفاخرة، ووزيرة ترفض السفر على الدرجة السياحية، وأخرى غيرت ديكور مكتبها عدة مرات حتى يليق بذوقها وزوارها باعتبار أنها جاءت من شركة استثمارية كبيرة، ومجلس نواب يصدر قانونًا باسثناء رواتب أعضائه من الضرائب، فى حين يمرر ضريبة القيمة المضافة، ما يوحى إجمالاً باضطراب الأولويات الاقتصادية، أو بعبارة أكثر تحديدًا إلزام الفقير المعدم بالتقشف، وفتح مغارة «على بابا» لبعض الناس.
والغريب أن هؤلاء المسئولين يتحفوننا بتصريحات هى العجب العجاب، منها مثلا مطالبة وزير التموين الناس بالصبر وعدم تناول «المحشى» حتى يتجنبوا مصير «سوريا والعراق»، فى خلط للأمور، بينما يرى برلمانى أن 20 جنيهًا تكفى وزيادة لتوفير حياة كريمة للإنسان، وكأنه يتحدث عن الزمان الذى كان فيه رطل اللحمة بـ3 نكلة!
وعلى ضفة أخرى، فإن الحكومة الرسمية والبرلمان معًا، رغم تهليلهما وتكبيرهما لخطة التقشف، وترويجهما القرار بأنه ضرورة حتمية، لإصلاح الاقتصاد الذى يرتفع فيه التضخم بنسبة 10 %، وتتراجـع معـدلات النمو بنسبــة 2 %، لم يجيبا بحسم عن حجم الأموال التى ستتوافر جراء تنفيذ التقشف، وهو الأمر الذى رأت صحيفة «ديلى ميل» البريطانية أنه يلقى بظلال كثيفة من الشك حول الجدوى الفعلية من تلك الإجراءات.
أما صحيفة «مونيتور» الأمريكية فقالت من جانبها إن عملية التقشف التى تأتى ضمن إجراءات الالتزام بشروط صندوق النقد الدولى للحصول على قرض الـ12 مليار دولار، ليست ذات تأثير بالغ طالما أن الإنفاق الحكومى المصرى يفتقر إلى بوصلة تحدد أولوياته، واعتبرت الصحيفة أن على الحكومة إعادة التفكير فى المشروعات القومية الكبرى التى تستنزف الموازنة، من دون عوائد مناسبة حتى الآن.
لا أحد ضد التقشف، لكنه ينبغى أن يكون مدروسًا بما يراعى عدم الضغط على الطبقات الأكثر فقرًا، ولدينا فى التاريخ القريب تجربتان بالغتا الدلالة، الأولى تجربة البرازيل التى نفذت بين عامى 2004 و2011 خطة تقشف لم «تدُس» على رقاب الفقراء، فوفرت لهم قسائم الغاز والبنزين المدعم، وطرحت برامج اقتصادية ذات بعد اجتماعى يراعى حقيقة أنك لا تستطيع أن تطالب متضورًا من شدة الجوع بالصوم، فى حين التزم كبار مسئولى الدولة بالتقشف، إلى حد أن الرئيس دى سيلفيا كان يستقل سيارة فولوكس واجن «خنفسة»، ما أعاد الثقة للاقتصاد البرازيلى، واجتذبت البلاد مليونى مستثمر أجنبى، وهكذا لحقت بركب الدول النامية، فى حين أسفر الفساد السياسى فى إندونيسيا عن فشل الخطة.
المصريون إجمالاً، رغم الأزمة الاقتصادية الراهنة، التى ليس ممكنًا وصفها إلا بالقاسية، مستعدون لشد الحزام أكثر، من أجل الخروج بوطنهم من عنق الزجاجة، لكن هذا الاستعداد يتطلب أن يلمسوا صدقًا فى التنفيذ، وعدالة لا تجعل الناس ينقسمون إلى «خيار وفاقوس».. ففى هذه المرحلة ينبغى أن يكون الجميع أمام التقشف سواسية، وإلا أصبح الأمر كالحرث فى البحر، لا يثمر إلا فشلاً.











