الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ناصر لـ«البابا كيرلس»: بركات الرب تشمل الأقباط والمسلمين

ناصر لـ«البابا كيرلس»: بركات الرب تشمل الأقباط والمسلمين
ناصر لـ«البابا كيرلس»: بركات الرب تشمل الأقباط والمسلمين


علاقة البابا الراحل كيرلس السادس بالرئيس جمال عبدالناصر كانت علاقة طيبة جدا، فقد أدرك عبدالناصر مبكراً أن مشروعه القومى العروبى قائم على التعدد والتنوع وأنه لابد من البحث عن مواطن القوى الناعمة وتقويتها بغض النظر عن خلفياتها الدينية وكانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والمعروفة عالميا بـ «كنيسة الإسكندرية» قد بدأ نجمها العالمى يخبو وسط كنائس العالم وتقلدت كنيسة روما الريادة فى العالم المسيحى وأراد عبدالناصر أن يعيد للكنيسة القبطية مكانتها العالمية فى صدارة كنائس العالم فكان لابد من وجود كيان قوى وكبير تنطلق منه تلك الصحوة وكان التفكير فى بناء كاتدرائية كبيرة على غرار روما وتلاقت أفكار عبدالناصر مع هوى البابا كيرلس الذى كان يأمل فى بناء كاتدرائية جديدة للقديس مار مرقس ومقر جديد للبطريركية فى منطقة الأنبا رويس بالعباسية ولكن كيف يحقق هذا الأمل؟.. وكيف يطلب من عبدالناصر؟

يقول هيكل: «كانت هناك مشكلة أخرى واجهت البطريرك كيرلس السادس، فقد كان تواقاً إلى بناء كاتدرائية جديدة تليق بمكانة الكنيسة القبطية، وكان بناء كاتدرائية جديدة مشروعاً محببا إلى قلب البطريرك لكنه لم يكن يريد أن يلجأ إلى موارد من خارج مصر يبنى بها الكاتدرائية الجديدة  وفى نفس الوقت فإن موارد التبرعات المحتملة من داخل مصر كانت قليلة، لأن القرارات الاشتراكية أثرت على أغنياء الأقباط كما أثرت على أغنياء المسلمين ممن كانوا فى العادة قادرين على إعانة الكنيسة بتبرعاتهم، إلى جانب أن المهاجرين الأقباط الجدد لم يكونوا بعد فى موقف يسمح لهم بمد يد المساعدة السخية ثم إن أوقاف الأديرة القبطية أثرت فيها قوانين إلغاء الأوقاف.
وهكذا وجد البطريرك نفسه فى مأزق ولم ير مناسباً أن يفاتح عبدالناصر مباشرة فى مسألة بناء الكاتدرائية، ويضيف هيكل: تلقيت شخصياً دعوة من البطريرك لزيارته وذهبت فعلاً للقائه بصحبة الأنبا صموئيل الذى كان أسقفاً بدار البطريركية وفى هذا اللقاء حدثنى البطريرك عن المشكلة وأظهر تحرجه من مفاتحة جمال عبدالناصر مباشرة فى الأمر حتى لا يكون سبباً فى إثارة أى حساسيات ثم سألنى ما إذا كنت أستطيع مفاتحة الرئيس فى الموضوع دون حرج للبطريرك ولا حرج على الرئيس نفسه وعندما تحدثت مع الرئيس فى هذا الموضوع كان تفهمه كاملاً، كان يرى أهمية وحقوق أقباط مصر فى التركيب الإنسانى والاجتماعى لشعبها الواحد ثم إنه كان يدرك المركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسى فى التاريخ المصرى، وكما كان واعياً بمحاولات الاستقطاب التى نشط لها مجلس الكنائس العالمى وهكذا فإنه قرر على الفور أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية الجديدة نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يقدم عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام والتى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء.
وطلب إليَّ الرئيس إبلاغ البطريرك بقراره وكان الرجل شديد السعادة إلى درجة أنه طلب إلى اثنين من الأساقفة أحدهما الأنبا صموئيل أن يقيما قداسًا فى بيتى وكان بالغ الرقة حين قال «إن بركات الرب تشمل الكل أقباطاً ومسلمين» وتم بناء الكاتدرائية.
 تحويشة الأبناء
تعود البابا أن يزور الرئيس عبدالناصر فى منزله وفى زيارة من هذه الزيارات جاء إليه أولاده وكل منهم يحمل حصالته وقفوا أمامه فقال الرئيس للبابا: «أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها وقالوا حنحوش قرشين ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم له وأرجو ألا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم» فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حجره ووضع أولاد عبدالناصر تبرعاتهم ثم لفها وشكرهم.
 التنحي
فى مساء 8 يونيو 1967 أعلن الرئيس عبدالناصر قرار تنحيه إثر نكسة 5 يونيو وهزيمة الجيش المصري، وفى صباح يوم 9 يونيو 1967 م صلى البابا القداس رافعاً قلبه لأجل مصر وشعب مصر وكان حزينا ثم ذهب مباشرة إلى بيت السيد الرئيس عبدالناصر وصحبه ثلاثة مطارنة وحوالى 15 كاهناً  ولكنهم لم يستطيعوا اختراق الكتل البشرية التى تطالبه بالعودة إلى الرئاسة التى أحاطت بمنزل الرئيس وسدت الطرق الموصلة إلى بيته وصدرت تعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة تابعة للقوات المسلحة بفتح الطريق أمام سيارة البابا ووصل البابا إلى منزل الرئيس بمنشية البكرى واستقبله السيد محمد أحمد سكرتير الرئيس وأعلن له البابا تمسكه وتمسك الأقباط باستمرار وجود الرئيس جمال كرئيس للجمهورية وأحضروا للبابا كوباً من الليمون رفض أن يشربه وقال «أنا عاوز أقابل الرئيس» فأوصلوا قول البابا إلى الرئيس تليفونياً فطلب الرئيس أن يكلم البابا بالتليفون وقال له «أنا عمرى ما أتأخرت فى مقابلتك فى بيتى فى أى وقت ولكنى عيان والدكاترة من حولي» فقال له البابا «طيب عاوز أسمع منك وعد واحد» فرد عليه الرئيس: «قل» فقال البابا «الشعب بيأمرك أنك ما تتنازلش» قال له الرئيس «وأنا عند أمر الشعب وأمرك» وغادر البابا بيت الرئيس وفى طريق عودته طلب الاستعداد لضرب الأجراس وبعد قليل أعلن السيد أنور السادات رئيس مجلس الأمة وقتها أن الرئيس جمال عبدالناصر نزل على إرادة الشعب وفى صباح يوم 10 يونيو 1967 ذهب البابا إلى القصر الجمهورى وقام بكتابة كلمة فى سجل الزيارات وقد أعلن فيها فرحته وارتياح الأقباط بقرار عبدالناصر بالنزول على إرادة الشعب والعودة لممارسة مهامه كرئيس للجمهورية وزعيماً للأمة.
 وفاة عبدالناصر
فى مساء يوم الإثنين 28 سبتمبر 1970 توفى الرئيس جمال عبدالناصر فجأة بعد المجهود المضنى الذى بذله فى مؤتمر القمة العربى الذى عقد فى القاهرة وبعد توديعه لآخر الرؤساء العرب الذين حضروا المؤتمر وهو أمير الكويت فى المطار وتلقى البابا كيرلس السادس نبأ وفاة الرئيس جمال عبدالناصر بـأثر شديد وحزن حزناً عميقاً وأصدر بياناً إلى الأمة يعبر فيه عن شعوره قال فيه: «إن الحزن الذى يخيم ثقيلاً على أمتنا كلها لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبدالناصر إلى عالم الخلود أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به إن النبأ الأليم هز مشاعرنا ومشاعر الناس فى الشرق والغرب بصورة لم يسبق لها مثيل ونحن لا نصدق أن هذا الرجل الذى تجسدت فيه آمال المصريين وكل العرب يمكن أن يموت، إن جمال لم يمت ولن يموت إنه صنع فى مدى عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله فى قرون وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطاً باسم البطل المناضل الشجاع الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه ويشهدوا بأنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحنكته وبعد نظره وسماحته ومحبته وقوة إيمانه بمبادئ الحق والعدل والسلام، إن الأسى فى قلوبنا أعمق من كل كلام يقال ولكن إيماننا بالخلود وإيماننا بالمبادئ السامية التى عاش جمال عبدالناصر من أجلها وبذل عنها دمه وأعصابه وحياته إلى آخر رمق فيها يملأ قلبنا بالرجاء، إننا نشيعه إلى عالم الخلود محفوظاً بالكرامة التى تليق باسمه العظيم، وعزاء للأمة كلها، ولأمة العرب بأسرها، بل عزاء للعالم فى رجل من أعظم الرجال الذين عرفتهم البشرية فى كل عصورها« وتوجه البابا كيرلس السادس فى ظهر يوم الأربعاء 30 سبتمبر إلى القصر الجمهورى بالقبة يرافقه نيافة الأنبا إسطفانوس مطران النوبة وعطبرة وأم درمان ونيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى وهناك قابل محمد أنور السادات نائب الرئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا، لتقديم العزاء رسمياً فى جمال عبدالناصر وقد غلب التأثر على قداسته وتحدث باكياً عن محبة عبدالناصر وعلاقته به، ثم سجل كلمة عبر فيها عن مشاعره ومشاعر الأقباط فى وفاة الزعيم ناصر وأمر البابا كيرلس جميع الكنائس أن تدق أجراسها دقات الحزن منذ إعلان نبأ وفاة جمال عبدالناصر وتلقى العديد من رسائل التعزية من رؤساء العالم وأقام صلوات القداسات الإلهية وصلاة ترحيم على روح عبدالناصر رئيس جمهورية مصر الراحل وأن تتشح جميع الكنائس بالسود طوال فترة الأربعين يوما.