عيالنـا للبيـع فـى أوروبــــا

هدي منصور و سيد طنطاوي
أطفال لم تتجاوز أعمارهم 18 عامًا، تبدلت أحلامهم، فبدلا من التعليم والنظر للمستقبل، هربوا إلى أحلام الثراء السريع عبر طرق وأساليب، يراها البعض مشروعة، وآخرون يرونها غير مشروعة، بل يصفونها فى أحيانٍ كثيرة بالتجارة فى البشر.. الهجرة غير الشرعية لأوروبا كانت دائما وأبدًا حلم الشباب، يبدأ الشاب فى البحث عن العمل فلا يجد، فيبدأ فى التفكير فى السفر إلى الخارج وما إن يفشل، فيتلقفه من يبيعون وهم الثراء السريع، بأن يسفرونه إلى الخارج، وخاصة دول أوروبا، مقابل مبلغ مالي، لكن دون أوراق.
أصبحت المافيا الآن تتحكم فى هذه التجارة ولها طلبات فأصبحت لا تقبل إلا من هم دون الـ18 عامًا، أما الشباب ففاتهم قطار الهجرة غير الشرعية وهم على استعداد أيضًا ليفوتهم قطار الزواج.
بدأ مسلسل الهجرة غير الشرعية للأطفال منذ عشر سنوات، واستمر هذا الأمر طى الكتمان باعتبار أن الأطفال يهربون إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا ومن بعدها إلى دول أوروبا، ولم يُفتضح الأمر إلا مؤخرًا بعدما غرق الأطفال بعد وصولهم إلى ليبيا ولم ينج إلا قليلون.
المركب الغارق كشف الأمر وحول قرى كثيرة إلى مأتم فأهلها لا يعرفون هل مات أبناؤهم؟ أم اختطفوا فى عرض البحر؟ ومن ثم يطالبون المسئولين بمساعدتهم إما بإعادة جثمان ذويهم أو استخراج شهادات وفاة لهم، ومن القرى التى خيم عليها الحزن، ميت أبوالسعود بمركز أجا بالدقهلية، والمقاطعة بالمنصورة والبساتين بالمنصورة أيضًا، وقبل هؤلاء كان هناك ضحايا مماثلون من قرى كفر العرب وتمور ونشوة وقهلة الجبل بالشرقية وهؤلاء الأطفال انقطعت أخبارهم منذ 21 شهرًا.
ميت أبو السعود الدقهلية
فى البداية يقول بحراوى والد حامد: لو نعلم أن هذا هو مصير أبنائنا لما وافقنا على السفر، وما طمأننا أن هناك من سافروا قبل أبنائنا ويعيشون حياة كريمة وكنا نتمنى مثل هذه الحياة لأبنائنا، وحامد هو ابنى الولد الوحيد على ثلاث بنات والآن أعض أصابع الندم وأتمنى من الدولة أن تتدخل لحل الأزمة وإن كان عندنا خطأ موافقون على المحاسبة حتى لو وصل الأمر إلى السجن، وما نريده إما جثث أبنائنا واستخراج شهادات وفاة لنا، أو إعادتهم لنا إن كانوا على قيد الحياة.
ويضيف على الحنفى جد حامد: لدينا 8 أطفال فى المركب الأخيرة وبعد الحادث أصبحنا فى مأتم لأن كلنا هنا أقارب، وحامد وحيد على ثلاث بنات وكل أطفال بلدنا تسافر إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا ولى ابنى لم أستطع إعادته حتى الآن وأتمنى لو يعود لى والأهم فى بلدنا، ميت أبوالسعود، عن الهجرة غير الشرعية أنها اتجهت للأطفال وقديما كان الجميع يسافر كبيرًا وصغيرًا إلا أنها اتجهت مؤخرا إلى سفر الأطفال فقط ولم يحدث هذا إلا من 10 سنوات، والحقيقة أننا لا نتحدث عن الفقر فكل البلد قائم على صناعة التريكو وهناك فترة من السنة 5 أشهر لا نعمل فيها على الإطلاق.
والحقيقة أن الأهالى كثير منهم هنا لا يرغب أن يسافر أبناؤهم إلا أن أبناءهم يصرون على السفر ومنهم من يهدد بالهروب دون علم أهله فالسفر هنا رغبة جامحة للأطفال.
وخلال عامين يتعلم الشاب لغة، وشرط على من يسافرون أن يكونوا من 12 عامًا إلى ما قبل 18 عامًا، أما ما دون ذلك فيرفضهم السمسار فيجب أن يكونوا أطفالاً وبعدما يصل الطفل إلى 18 عامًا يتم منحه إقامة فى الدولة التى سافر إليها حتى لو كان سافر إليها عن طريق الهجرة غير الشرعية، ويحصل بعد ذلك على جواز سفر بشكل طبيعى جدًا، وهو ما يُعتبر تقنينًا للهجرة غير الشرعية.
وأضاف: الآن هناك مافيا تدير عملية سفر الأطفال للخارج والطفل حينما يرى الماء قد يفكر فى التراجع إلا أنه فى ذلك الوقت يكون الركوب إجباريًا.
والمركب الذى غرق مؤخرا كان به 250 فرداً وذهب بها إلى ليبيا وأزاد على الحمولة 260 آخرين فكان طبيعيًا أن يغرق المركب وما علمناه حتى الآن أن من نجا من هذا المركب هم 46 فردًا فقط ذهبوا بمركب يقال إلى اليونان وهو ما علمناه من شاب صومالى كان موجودًا مع المركب.
أم فارس قالت: ابنى أصر على السفر لأن زملاءه الذين سافروا قالوا له إنهم دخلوا مدارس والحياة عندهم أفضل من مصر كثيرًا، وأضافت: ابنى سافر الثلاثاء 5 إبريل وكلمنى يوم الأربعاء وقال إنه فى شقة فى الإسكندرية، ومن أبلغنى أن المركب غرق هو والد أحد الأطفال المسافرين من الإسكندرية والسمسار أبلغنا يوم 16 إبريل أن أولادنا وصلوا بالفعل، والحقيقة أن ما رأيته مع من سافروا من قبل طمأننى بعض الشيء.
قالت والدة فارس عزت محمد من قرية «ميت سعود»: ابنى عمره 16 عامًا ونصف، خرج مع 8 أطفال آخرين جميعهم فى نفس العمر وبعضهم أقل، ضحى «فارس» بتعليمه فى المرحلة الإعدادية فى بلده ليذهب إلى الحلم الأكبر فى أوروبا وأعترف أننا كأولياء أمور أخطأنا فى أننا تركنا أبناءنا يرحلون، لكننا كنا نرى أصدقاءهم ممن سافروا فى الخارج حققوا ثروة كبيرة لأسرهم واشتروا أرضًا ومساكن جديدة وسيارات.
وأضافت أم فارس: السمسار واحد مننا ونعرفه جيدا ولم نتوقع أن يحدث ما حدث ويترك القرية ويهرب خوفا على حياته ويترك خلفه 8 جثث.
وأوضحت أم فارس: العيش مع ذنب التضحية بروح ابنى فى مراكب الهجرة غير الشرعية يساوى حياة ميتة، وآخر مرة سمعت فيها صوت فارس كان يوم 7 أبريل الفجر قال لي: «أمى ادعيلى خلاص أنا ركبت المركب إلى إيطاليا وهكلمك هناك» انتظرت أكثر من شهر بعد سفره ولم أستمع إلى صوته مرة أخري، وكل ما نطلبه حاليا جثث الأطفال فقط لأن أمل حياتهم أصبح مستحيلاً.
وقال والده: لم أوافق على سفر ابنى لكنه قال لي: قبلت أم رفضت سأسافر لدرجة أننى عرضت عليه أن يحصل على ما يزيد على المبلغ المخصص للسفر بخمسة آلاف جنيه ولا يسافر إلا أنه أصر على السفر والآن لا أريد سوى ابنى فقط.
وأشار والد محمد عبدالله شفيق: ابنى عمره 15 عامًا ومنذ 3 أعوام يطلبون منى السماسرة سفره حتى تتغير حياتنا ويحل الثراء علينا لأنه فى بلادنا الأطفال ثروة لأسرهم، ومازلت أبحث عن ابنى فى كل الشواطئ المتوقع سفر الهجرة غير الشرعية عن طريقها فقد سافرت الى شواطئ رشيد وشواطئ الإسكندرية وشواطئ برج البرلس، ولم أصل لأى نتائج حتى الآن، فالجميع يؤكد وفاة أطفال قرية ميت سعود غرقا على المركب الذى حمل أرقامًا مضاعفة من الأطفال ونجا منهم 41 واحدًا فقط منهم 7 مصريين من مدينة طنطا.
رضا عباس والد عباس قال: ابنى عباس كان مع المسافرين ولم أكن أرغب فى سفره، لكنه وضعنى أمام الأمر الواقع ولدينا أمل فى مناشدة الرئيس أن يتحرك لينقذ أبناءنا فأنا مقتنع أن ابنى مازال على قيد الحياة وأنتظر من الرئيس إعادته لي.
صبرى طلبة محامى ضحايا المنصورة قال: تقدمنا ببلاغات فى الأموال العامة ضد السماسرة، وناشدنا خفر السواحل وتقدمنا بطلبات للمنطقة الشمالية العسكرية للبحث عن أبنائنا ولن نترك حق أولادنا مهما كان الثمن، وأضاف طلبة: إن قرية ميت أبو السعود ليس بها إلا سمسار واحد هو صلاح الشيخ وبعد الحادثة الأخيرة هرب ولم يعد له وجود هنا، وقبل ذلك كانت الأموال أمانة عند وسيط عندما يصل الأبناء ويتصلون بوالديهم يتم تسليم الأموال إلى السمسار.
كفر العرب شرقية
يقول أحمد رجب، ولى أمر الطفل المفقود، كريم 14 عامًا: إنه لم يكن يتوقع أنه سيقدم فلذة كبده يومًا للتجارة، لكن حلم الثراء يراودنى منذ سنوات، وكنت أتمنى أن ينجح فى السفر ويصبح سندى فى الحياة حتى فى المال، فأنا أعمل فلاحًا وقريتنا قرية بسيطة لا يتجاوز عدد سكانها الـ20 ألف نسمة وتعتمد على الزراعة فقط، وسفر الأطفال منتشر فى أربع قرى مجاورة، وكان ينجح دائمًا رغم خطورته، وما دفعنى فى آخر وقت لاتخاذ القرار بشكل نهائى كان طلب «كريم» نفسه بعد تواصل مع الأطفال فى إيطاليا عبر الإنترنت وكان يرى حياتهم وتفاصيلها الراقية والراحة التى يعيشون فيها وما عجل سفره خوفى من أن يتم الـ18 عامًا، ومن ثم يُحرم من السفر، وفى النهاية كان الأمر كابوسًا بغرق ابني.
أشار أحمد رجب إلى أن «تجارة سفر الأطفال» عبر البحر تنتعش بداية شهر مارس لذلك عقدت النية وبعت قطعة أرض لأوفر لابنى تكاليف السفر التى تبلغ 25 ألف جنيه وسافر بالفعل فى نهاية شهر مارس بشكل سرى مع طفلين فقط من القرية حسب الشروط المطلوبة فى السن وتواصلنا معه حتى وصل إلى حدود ليبيا، ثم اختفت كل المعلومات عنه تماما، وفى البداية كنا نتوقع غيابه بسبب مدة السفر من ليبيا إلى إيطاليا وهى 4 أيام فكل مدة السفر من مصر إلى إيطاليا 7 أيام فقط، ومرت الـ7 أيام ومر العشرات غيرها ولم يظهر كريم والسمسار الذى نتواصل معه كان «سريا» ولا نعلم سوى اسمه ورقم هاتفه المزيف لأن هناك وسطاء تنصلوا من مساندتنا وذهب المال وذهب كريم ومعه طفلان من القرية.
قريتا تمور ونشوة 13 طفلاً ضحايا
وأضاف طارق أمير ولى أمر محمد، طفل عمره 15 عامًا من قرية تمور: قلبنا محروق على أطفالنا والشعور بذنبهم جعلنا أحياء بدون حياة فمن يتحمل ذنب براءة هؤلاء الأطفال غيرنا، ونتوقع أن يحضر الأمن لإلقاء القبض علينا فى أى لحظة وتظل أسرنا بدون عائل فقد فقدنا كل شيء.
وأوضح طارق، أنه ودع أطفالاً آخرين ووصلوا إلى فرنسا وعاشوا حياة ناجحة وأصبح لديهم ثروة حاليا فى القرية بسبب سفرهم، لكن حاليا زوجتى طلبت الطلاق وبيتى أصبح خرابة.
«قهلة الجبلية»
وأشارت سماح حافظ، والدة الطفل محمود محمد فى الصف الأول الإعدادي: «محمود» الوحيد على 3 بنات إلا أنه رغم صغر سنه كان يتواصل مع شباب القرية ويستمع إلى قصص الشباب والأموال الطائلة التى جمعوها، وسافر محمود مع 8 أطفال من القرية وحاولت منعه فى البداية خوفا على حياته، لكنه وعدنى بعدم السفر لكن يوم الرحلة المشئومة وجدت ابنى بينهم.
وأضافت سماح: بعد 21 يومًا خرجنا لنبحث خلف الخيط الرفيع عن سفرهم لم نجد سوى معلومات مغلوطة حتى الآن ولا نصل لأى معلومات.
وقال ناصر عبدالغنى عبدالفتاح والد عبد الغنى 16 عامًا من نفس القرية: أشعر بحالة من الجنون لما حدث وكيف حدث ذلك وفرطت فى ابنى وراح منى فى غمضة عين ومصيره مجهول، وليس لنا الآن سوى الدعاء.
تذاكر الموت
وأكد عمدة «كفر العرب» بلبيس خيرى النجيرمي، أن أبناء القرية والقرى المجاورة اعتادوا السفر إلى إيطاليا عن طريق البحر بواسطة سماسرة الموت والأمر معروف للجميع، والغريب والمحزن أنهم أطفال والمجموعة الأخيرة التى سافرت لم تصل إلى إيطاليا.
وأضاف النجيرمي: معظم القرى توقع على شيكات على بياض للسماسرة حتى يصل أبناؤهم إلى شواطئ إيطاليا على خير ويبلغونهم بأنهم بأمان، وهنا يدفع الأهالى الأموال المطلوبة كاش، وما يجعل الأمر كارثة أن السماسرة أصبحوا لا يطلبون إلا الأطفال للسفر فقط ويضعون أرقامًا متفاوتة للرحلات حتى إنهم قاموا بتخفيض تذكرة الموت إلى 20 ألفًا لحصد أكبر عدد ممكن من الأطفال للسفر إلى الأحلام المزيفة!