الإثنين 27 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

العشاق احتلوا مقاهى محفوظ وإحسان وجاهين

العشاق احتلوا مقاهى محفوظ وإحسان وجاهين
العشاق احتلوا مقاهى محفوظ وإحسان وجاهين


مقاعد متناثرة ومتلاصقة، أصوات موسيقى غربية وشعبية متداخلة وصاخبة، روائح الدخان تعم الأجواء.. شاب وفتاة يجلسان متقابلين، وبالقرب منهما فتيان وفتيات متحلقين يتضاحكون ويتبادلون مناقشات سياسية ساخنة.. بعضهم يلعب الشطرنج أو الطاولة، وآخر يمسك بموبايل أو لاب توب متصفحا أحد المواقع.
مشهد الشباب «المودرن» يثير الانتباه بمجرد أن تقترب من مقهى «البورصة» الذى تحول إلى مجرد «كوفى شوب» للشباب والفتيات، الذين يزورونه لقضاء بعض الوقت مع «الشلة».
جلست بالقرب من مجموعة شباب حول منضدة معدنية، يتبادلون النكات والقفشات، بعضهم يلعب الشطرنج أو الطاولة، وآخر أمسك جهاز موبايله يتجول على الفيس بوك أو تويتر للاستفادة من خدمة «الواى فاى».
ألقيت التحية على أحد الشباب، ثم سألته عن سبب تجمعهم فى مقاهى وسط المدينة التى كانت تقتصر على الأدباء والمثقفين، فقال إنه يأتى مع زملائه منذ أحداث ثورة 25 يناير وما شهدته مصر من  تحول وعدم استقرار، فكانوا يتجمعون بالمقاهى القريبة من وسط المدينة للنقاش وتنسيق المسيرات الاحتجاجية والاعتصامات. بينما هجرها الأدباء والمثقفون لسبب آخر هو الارتفاع المضطرد فى الأسعار.
وظل مقهى الفيشاوى منذ إنشائه عام 1797، أحد معاقل الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين، بداية من رواد النهضة جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، مرورا بالملك فاروق ورؤساء الجزائر عبدالعزيز بوتفليقة، واليمن على عبدالله صالح، حتى كبار الأدباء نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعى، يوسف إدريس، والفنانين كمال الشناوى، وعزت العلايلى، وكمال الطويل، محمد الموجى وغيرهم.
«الفيشاوى» لم يعد الآن مقصدًا للأدباء والفنانين والسياسيين، بل أصبح ركنًا فى زيارات الأجانب لمصر.
انتقلت بعد ذلك إلى مقهى «ريش» الذى اختاره أديب نوبل نجيب محفوظ لعقد جلسته كل جمعة، كما شهد مناقشات وحوارات أثرت فى توجهات الأدباء والنقاد والشعراء.
يعود تاريخ هذا المقهى لأكثر من قرن من الزمان «تأسس عام 1908»، لاتزال تزين جدرانه الصور والقصص والكتب والجرائد القديمة، وصور لألمع الكتاب والمفكرين الذين كانوا من الرواد.
كان مقهى ريش منذ تأسيسه يمنع تدخين النرجيلة وحتى لعب الكوتشينة والطاولة، حتى يحافظ أصحابه على طبيعته الثقافية ورواده الذين عاش بعضهم قصص حبهم التى انتهت بالزواج: مثل الشاعر أمل دنقل والصحفية عبلة الروينى، والشاعر أحمد فؤاد نجم والناقدة صافى ناز كاظم، الفنان محمد عبدالقدوس وروزاليوسف «فاطمة اليوسف»..
ومن «ريش» إلى زهرة البستان القريب من ميدان طلعت حرب، الذى ظل على مدى 90 عامًا مقصدا للشعراء والأدباء والصحفيين لدرجة أن أصحابه كتبوا تحت اسمه «ملتقى الأدباء والفنانين»، وبه كان يعقد نجيب محفوظ ندوته كل ثلاثاء، وفيه أبدع علاء الأسوانى رواياته الشهيرة «شيكاغو»، و«عمارة يعقوبيان»، و«نادى السيارات».. فضلا عن الشاعرين أمل دنقل وأحمد حجازى.
وفى الطابق الأعلى من زهرة البستان، صعدت إلى مقهى بيت دوِّن، ويضم مكتبة تحتوى على كتب وروايات، وتقام به ندوات أدبية وحفلات توقيع للكتب والإصدارات الجديدة.
حاضر تلك المقاهى ذكرنى بماضيها عندما كان يلتقى الأديب العالمى نجيب محفوظ زبون مشترك فى كل المقاهى الأدبية فى مصر، فكانت له ندوة كل يوم جمعة من السادسة مساءً إلى الثامنة والنصف، استمر فى إلقائها حتى منتصف الستينيات. وفيه عُقد اجتماع ضمَّ أبرز فنانى مصر، على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب، فى الأربعينيات من القرن المنصرم، أسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين فى مصر والعالم العربى.
كتب محفوظ عن تجاربه مع المقاهى قائلا: «بخلاف قهوة قشتمر وعرابى والفيشاوى، التى كنت ارتادها لملاقاة الأصدقاء، كانت هناك القهاوى التى كنت أذهب إليها لألتقى بالكتاب والمثقفين، وكان أول منتدى أدبى لى هو كازينو الأوبرا، ثم بعد ذلك جاءت قهوة ريش، ثم على بابا، وأخيرا كازينو قصر النيل، الذى ظللت أذهب إليه، إلى أن وقعت لى الحادثة «يقصد الاعتداء الإرهابى عليه»، فمنعونى عن الذهاب إليه».
كان «صاحب نوبل» من عشاق المقاهى الشعبية، والتى اجتذبت مشاهير الأدب والفن والسياسة على مر العصور، وقد تناثرت تلك المقاهى العريقة، ما بين أحياء الحسين ووسط البلد وقصر النيل وغيرها.
ويبرز المقهى بشكل واضح فى روايات نجيب محفوظ مثل «الكرنك» والتى تدور أحداثها تقريبا على مقهى، كما تبدو قوية أيضا فى مسلسل «ليالى الحلمية» للكاتب أسامة أنور عكاشة، وهو ما جعل بعض المقاهى تختار هذا الاسم تحديدا.
لم يقتصر الأمر على محفوظ فحسب، فكان كل مقهى من تلك المقاهى، يشهد عقد ندوات ثقافية وشعرية أسبوعية، يتجمع فيها الأدباء والشعراء، يلقون أشعارهم وقصصهم، ويعرض الفنانون أحدث لوحاتهم الفنية.
وهناك دلائل على أن العصر الذهبى لمقاهى المثقفين كان فى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ومن أشهر المقاهى تلك الفترة قهوة عبدالله فى الجيزة التى تحدث عنها محمود السعدنى فى كتابه «مسافر على الرصيف» يقول: وكانت سياحتى فى قهوة عبدالله هى أهم سياحة فى العمر، وكانت رحلتى خلالها هى أطول رحلاتى، فقد امتدت عشر سنوات كاملة تنقلت فهيا خلال الجزر الخصبة والصحراوات المجدبة، ولكنها بخيرها وشرها حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والشعر والموسيقى، وفن النكتة وعلم الحديث والكلام.
مقاهى القاهرة بالنسبة للأدباء لم تكن مجرد أماكن للتجمع أو احتساء المشروبات فقط وإنما تأثيرها كان واضحا فى أعمال عدد وكانت مجلسًا للعديد من المشاهير من أمثال توفيق الحكيم وكامل الشناوى وأحمد رامى والقصبجى وسليمان نجيب ود. لويس عوض.
وعرفت القاهرة ظاهرة المقاهى منتصف القرن التاسع عشر مع قدوم جمال الدين الأفغانى إلى مصر، وتحلق حوله محمد عبده وعبدالله النديم وسعد زغلول، وضمت على مدار تلك العقود الفنانين والأدباء ورجال السياسة وأصحاب الآراء فى الواقع المصرى والعربى والعالمى، وحالياً.. لا يميل الأدباء والشعراء إلى إضاعة الوقت فى لعب الشطرنج أو الطاولة، فقد فضل بعضهم اللجوء إلى مقاه صغيرة ومنزوية فى حوارى القاهرة أو بالقرب من أماكن سكنهم. بينما يلتقى آخرون فى الأماكن التقليدية المخصصة للأدباء مثل أتيليه القاهرة ونادى القصة ودار الأوبرا.
بالعودة إلى مشهد الشباب «المودرن» فى «كوفى شوب» يزوره الشباب يقول أحدهم إنه يرتاد المقهى لقضاء الوقت ولعدم توفر الأندية المتخصصة لتجمعات الشباب خاصة ما يتعلق بالترفيه أو الرياضة.
حسين نعيم، موظف على المعاش يجلس بمفرده بالقرب بوابة المقهى، يقول: «سوق الحميدية» هى متنفسى الوحيد بعيدا عن الجدل السياسى للشباب المحبط مما آلت إليه الأمورـ لا أحب طريقة الجدل سواء فى المقاهى أو برامج التوك شو، ومنذ سنوات طويلة كنت أحضر إلى هنا للاستماع لنقاشات الأدباء وقصائد الشعراء، لدرجة أننى اقترحت على أصحاب المقهى تغيير اسمها من «سوق الحميدية» إلى «سوق الأدب والفن»، لكن طلبى لم ينفذ.
ويبدو أن إقبال الشباب نحو تلك المقاهى لأسباب مختلفة يأتى على رأسها الفراغ الممتد فى يوم الشباب والفرار من الأعمال الجادة، خصوصا مع ارتفاع معدل البطالة، فيبحث الشاب عن مكان يقطع فيه فراغه. ثم بعد ذلك أسباب أخرى منها الاستئناس بالأصدقاء والبعد عن جو المنزل من خلال الخدمات الجانبية التى يقدمها المقهى ومواعدة الأصدقاء فيها.
لا يقتصر أمر المقاهى الأدبية على القاهرة فقط، وإنما يمتد إلى غيرها من عواصم العالم، ومنها العاصمة الفرنسية باريس التى شهدت على مدار تاريخها انتشارا كثيفا للمقاهى، ما أضفى عليها حيوية ميزتها عن سواها من المدن، وشكلت المقاهى جزءاً لا يتجزأ من المشهد الباريسى ومن حياة الباريسيين وعاداتهم اليومية، ومن تراثهم وتاريخهم.
لكن مضى الزمن الذى كان فيه أندريه بريتون يصدر بياناته ويلتف من حوله مريدوه فى المقاهى الباريسية، وجان بول سارتر مع رفيقته سيمون دو بوفوار يؤلفان كتبهما عن الوجودية والجنس الآخر على طاولة صغيرة فى مقهى فلور أو ديماغو، بعض هذه المقاهى اختفى والبعض الآخر صمد فى وجه الزمن. وشهد العام 2009 إغلاق حوالى ألفى مقهى فى باريس، فى حين أن العدد الإجمالى للمقاهى فى فرنسا تراجع من 200 ألف فى عام 1960 إلى 30 ألف مقهى حالياً. 