
أحمد إمبابى
الإصلاح الاقتصادى هل تستطيع الحكومة الاستغناء عن صندوق النقد الدولى؟
لا يمكن النظر لحديث رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولى، عن عدم حاجة الحكومة لبرنامج جديد مع صندوق النقد الدولى، بعدّه حديثًا عابرًا، أو مجرد طرح تعمل عليه الدولة، ومؤسساتها الاقتصادية، وإنما يشكل تحولًا فى السياسة الاقتصادية، يستحق التوقف والنقاش، بحكم ما ينطوى عليه من تساؤلات عديدة، بشأن مستقبل مسار الإصلاح الاقتصادى.
والتساؤلات التي يطرحها حديث رئيس الوزراء، مرتبطة بشكل أساسى، بمدى وصول العلاقة بين الحكومة المصرية، وصندوق النقد الدولى، إلى مرحلة «عدم الاحتياج»، بعد أن ارتبط مسار الإصلاح الاقتصادى، على مدى نحو عشرة أعوام ببرامج مع «الصندوق»، فضلاً عما هو البديل الوطني الآمن، الذي يُغنى عن أى أعباء شكلها طريق «الإصلاح المُر»، مع صندوق النقد.
والواقع أن الشراكة الاقتصادية التي جمعت الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولى، من خلال برنامجين للإصلاح الاقتصادى، الأول انطلق فى عام 2016، والثانى مطبق حاليا، بعد الاتفاق عليه فى نهاية عام 2022، ارتبطت بمخاوف من تبعات الالتزام، ببرامج الصندوق الإصلاحية، وتأثيراتها على قدرات المواطنين الشرائية وتلبية احتياجاتهم اليومية، رغم توسع الحكومة فى المقابل فى برامج الحماية الاجتماعية.
وإذا كانت الصورة الذهنية التي ارتبطت بشراكة مصر مع صندوق النقد، يغلب عليها «القلق»، إلا أن التقدير الحكومى، لهذه الشراكة، يتجاوز فكرة «توفير التمويل» فى أوقات الأزمات والتحديات الاقتصادية، لتعبر عن «شهادة ثقة»، فى الاقتصاد، تسهم فى تحسين التصنيف الاقتصادى للدول، وتحفز إلى مزيد من التعاون والشراكة مع مؤسسات التمويل الدولية الأخرى.
البرنامج الأخير مع الصندوق
من هذا المنطلق، يمكن أن نتوقف مع مفاجأة حديث رئيس الوزراء الأخير، حينما نوّه إلى أن «الحكومة، لن تكون بحاجة إلى برنامج جديد مع صندوق النقد الدولى، مكتفية بالبرنامج الحالى، الذي ينتهى فى عام 2026 أو 2027 على الأكثر، كآخر قرض من الصندوق العالمى».
وربط مدبولى هذا التوجه بخطة اقتصادية تفصيلية تعمل عليها الحكومة، تمتد إلى عام 2030، تركز على تعزيز دور القطاع الخاص، واستدامة النمو الاقتصادى، ودلل على ذلك أيضًا، بأن الحكومة ستقدم لأول مرة، العام القادم، موازنة لثلاث سنوات مقبلة، تتضمن خطة عمل لمستهدفات ثلاث سنوات، تسعى فيها الحكومة للحفاظ على معدلات نمو متزايدة، مع خفض نسب البطالة والتضخم، والتوسع فى برامج الحماية الاجتماعية.
واقترن حديث مدبولى، عن عدم الحاجة لقرض الصندوق، بتقدم ملحوظ للبرنامج الحالى، الذي شهد نموًا حقيقيًا بنسبة 3.9 بالمائة، فى النصف الأول من العام المالى 2024/2025، وانخفاض معدلات التضخم إلى 13.9 بالمائة فى أبريل الماضى، مقارنة بنحو 37 بالمائة فى العام السابق، إلى جانب انخفاض عجز الموازنة إلى 6.5 بالمائة.
برامج التعاون السابقة
وعلى مدار السنوات الماضية، كانت تعول الحكومة فى برامج الإصلاح على صندوق النقد الدولى، ليشكل العقد الأخير، فترة بارزة فى تاريخ التعاون الاقتصادى مع تلك المؤسسة المالية الدولية، منذ انضمام مصر لعضويتها، فى ديسمبر 1945، رغم الصورة التي ترسخت حول الصندوق باعتباره «دواءً مُرًّا»، وقت الأزمات والتحديات الاقتصادية.
وتمتد العلاقة بين مصر وصندوق النقد، منذ مايو 1962، حينما وقعت الحكومة على أول اتفاق للحصول على قرض لتثبيت الاقتصاد، وفى السبعينيات حصلت على قرض بقيمة 186 مليون دولار، فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لمعالجة مشكلات المدفوعات الخارجية والتضخم، وفى عامى 1991 - 1993 فى عهد الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك اقترضت مصر للمرة الثانية فى تاريخها نحو 375 مليون دولار لسد عجز الميزان التجاري.
ولم تستكمل مصر معظم برامج الصندوق بسبب «حزمة المشروطية الاقتصادية»، التي تضاعف من الأعباء الاقتصادية، لا سيما إذا ارتبطت بإجراءات لتحرير سعر الصرف، ورفع أسعار الوقود، وخفض الدعم، وفرض ضرائب جديدة، فمنذ عام 1993، وحتى عام 2016، لم تحصل الحكومة على أى قروض من الصندوق، واقتصر دوره على المشاورات والمساعدات الفنية.
وبدأ أكبر برنامج تعاون مع الصندوق فى 2016، حيث حصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار على 6 شرائح على مدى 3 سنوات، تزامنًا مع برنامج الإصلاح الاقتصادى الذي تضمن تعويم الجنيه وخفض الدعم.
وفى 2020 قدم الصندوق 2.77 مليار دولار كمساعدات عاجلة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا عبر أداة التمويل السريع، وفى ديسمبر 2022 وافق الصندوق على برنامج جديد بقيمة 3 مليارات دولار، تم توسيعه لاحقًا إلى 8 مليارات دولار فى مارس 2024 لدعم الاقتصاد، ويركز على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلى وتعزيز سعر الصرف المرن وتقليص دور الدولة فى الاقتصاد وتعزيز التنافسية فى البلاد.
فاتورة الأزمات الإقليمية والدولية
ورغم امتداد جذور العلاقة بين مصر وصندوق النقد تاريخيًا، فإن برامجه ارتبطت لدى كثيرين، بعدّها «وصفة صعبة»، تفاقم من أعباء المواطنين الاقتصادية، ولعل ذلك ما حفّز البعض لتداول مقاطع على منصات التواصل الاجتماعى، لمسؤولين سابقين، يتحدثون عن «رفض شروط الصندوق وتأثيراتها الاقتصادية على المواطنين، فى حقب سابقة».
غير أن ذلك لا يمكن اعتباره مقياسًا للحكم على مدى جدوى برامج التعاون مع الصندوق، لا سيما مع اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية، الحالية، عن الأوضاع فى حقب سابقة، مثل فترة «حكم مبارك»، فجملة التحديات التي يواجهها الاقتصاد المصري، على مدى أكثر من عقد، مرتبطة بشكل أساسى، باضطرابات إقليمية ودولية، لا سيما التوترات داخل دول الجوار المباشر، للدولة المصرية، بما يعنى أن الدولة لم تكن السبب فيها.
وهنا الشواهد عديدة، فبعد النتائج الإيجابية للبرنامج الأول للإصلاح الاقتصادى، الذي نفذته الدولة بداية من نوفمبر 2016، جاءت سلسلة من الأزمات الدولية والإقليمية، لتفاقم من التحديات الاقتصادية، ليس لمصر فقط، ولكن لغالبية دول العالم، وأبرزها ما يلى:
- جائحة كورونا: حيث تعددت التأثيرات الاقتصادية لجائحة «كوفيد»، فى عام 2020، بسبب سياسات الغلق، وتوقف سلاسل الإمداد، ما أدى إلى خفض معدلات النمو الاقتصادى فى مصر، بنحو 0.6 بالمائة، كما انخفضت قيمة العملة المحلية (الجنيه) بنحو %1.8، إلى جانب تراجع إيرادات قناة السويس، بسبب انخفاض عدد السفن العابرة، وفق تقرير للجهاز المركزى للإحصاء، صدر فى نوفمبر 2020.
- الحرب الأوكرانية: ووسط جهود التعافى من آثار جائحة كورونا، اندلعت الحرب الروسية - الأوكرانية، فى فبراير 2022، لتضاعف من أزمة الاقتصاد العالمى، لا سيما على سلاسل الإمداد والتموين، وحركة التجارة الدولية، وقدر رئيس الوزراء مصطفى مدبولى، فى نهاية عام 2022، تأثير الحرب على الموازنة المصرية بنحو 130 مليار جنيه سنويًا، بحكم الصلات التجارية والسياحية مع دول الأزمة وأوروبا، ذلك أن 42 % من إجمالى واردات مصر من الحبوب عام 2021، كانت من روسيا وأوكرانيا.
- حرب غزة: ورغم فاتورة حرب أوكرانيا المستمرة، جاءت الحرب على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، لتشكل فاتورة أكثر صعوبة على الاقتصاد المصري، لا سيما مع الهجمات التي طالت السفن المارة بالبحر الأحمر، والتي أثرت بشكل حاد على حركة التجارة من قناة السويس، ما أدى مثلاً إلى فقدان مصر لنحو 7 مليارات دولار عام 2024، بسبب تراجع إيرادات قناة السويس، فضلاً عن تراجع معدلات التجارة الخارجية، تؤكدها أرقام التبادل التجاري مع دول أوروبية وأفريقية وعربية.
مراجعة برنامج الصندوق
وأمام استمرار جملة الاضطرابات الإقليمية والدولية، مع تحديات أخرى، مثل استمرار الحرب السودانية، والتوترات فى القرن الأفريقى، والحرب التجارية العالمية، تطالب مصر، مختلف مؤسسات التمويل الدولية، ومن بينها صندوق النقد، بالوضع فى الحسبان تأثيرات الأزمات الخارجية، على اقتصادها الوطني، وضرورة دعم جهود التعافى الاقتصادى من تلك الأزمات.
وهذه كانت معنى رسالة الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى شهر أكتوبر 2024، حينما أشار إلى «ضرورة مراجعة الموقف مع صندوق النقد، إذا كان سيضع ضغوطًا على الرأى العام بشكل لا يمكن تحمله»، ووجه الحكومة وقتها بالعمل على «مواجهة التحديات الاقتصادية وتخفيف الأعباء على المصريين».
بعد هذه الرسالة بأيام، استقبل الرئيس السيسى، مدير عام صندوق النقد الدولى، كريستالينا جورجييفا، حيث دعا إلى «ضرورة مراعاة المتغيرات وحجم التحديات التي تعرضت لها مصر، فى الفترة الأخيرة، بسبب الأزمات الإقليمية والدولية، والتي كان لها أثر بالغ على الموارد الدولارية وإيرادات الموازنة»، وشدد وقتها على أن «أولوية الدولة، هى تخفيف الضغوط والأعباء عن كاهل المواطنين، من خلال مكافحة التضخم وارتفاع الأسعار، مع استمرار جهود جذب الاستثمارات وتمكين القطاع الخاص».
ورغم التفهم الذي أظهرته مدير عام صندوق النقد الدولى، خلال اللقاء، لحجم التحديات التي تواجهها مصر، والإشادة بتقدم الاقتصاد الكلى، فإن رسالة الرئيس السيسي للحكومة، التي سبقت هذا اللقاء، بمراجعة الموقف مع صندوق النقد، يمكن عدّها نقطة البداية لتحول السياسة الاقتصادية، بتبنى برنامج وطني للإصلاح الاقتصادى، دون الحاجة لبرامج أخرى مع صندوق النقد، قد تزيد من الأعباء الاقتصادية على المصريين.
ماذا جنت مصر من الصندوق؟
وحديث رئيس الوزراء، عن عدم الحاجة لبرنامج جديد مع صندوق النقد، لا يعنى أن مصر لم تجنِ ثمارًا اقتصادية، من برامجها مع الصندوق خلال السنوات الأخيرة، وهذا ما تؤكده مؤشرات الاقتصاد الكلى، بعد تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادى، الصادرة عن مجلس الوزراء، وأهمها ما يلى:
1 - نتائج المرحلة الأولى:
من نتائج المرحلة الأولى للإصلاح الاقتصادى، تحقيق فائض أولى بدلًا من عجز أولى فى الموازنة كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، ليسجل (0,4 %) فى الفترة من يوليو 2020 حتى مارس 2021 مقارنةً بـ(-1.2 %) فى الفترة من يوليو 2016 حتى مارس 2017، بالإضافة إلى انخفاض عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى ليبلغ 5,4 % فى الفترة من يوليو 2020 حتى مارس 2021، مقابل 7,9 % فى الفترة من يوليو 2016 حتى مارس 2017.
كما انخفض معدل البطالة فى الربع الأول عام 2021 مسجلًا
7.4 % مقارنة بـ 12 % فى الربع ذاته عام 2017، وكذلك انخفض الدين الخارجى كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، حيث سجل %34 فى الربع الثانى عام 2020/2021 مقارنة بـ 37.6 % بنفس الربع عام 2016/2017.
2 - نتائج المرحلة الثانية حتى الآن:
منذ بدء المرحلة الثانية للإصلاح، فى مارس 2024، وتحرير سعر الصرف، شهدت مؤشرات الاقتصاد الكلى تقدمًا، أظهرته عديد من البيانات، أهمها:
- تحقيق أعلى فائض أولى، بنحو 435 مليار جنيه بنسبة
2٫5 % من الناتج المحلى رغم تراجع إيرادات قناة السويس وقطاع البترول، مع نمو الإيرادات العامة بنحو 32 %، والمصروفات بنسبة 24 %، فى الفترة من يوليو 2024 حتى مارس الماضى.
- استحواذ القطاع الخاص على نحو 59 % من إجمالى الاستثمارات خلال النصف الأول من العام المالى الحالى، بمعدل نمو سنوى %80، إلى جانب نمو قطاع السياحة فى نفس الفترة، بنسبة 13٫1 %، مع تراجع العجز الكلى للموازنة إلى 6.3 % من الناتج المحلى.
- كما تراجع معدل التضخم من 33٫3 % فى مارس 2024 إلى %13٫6 فى مارس الماضى، وتراجع حجم الدين الخارجى لأجهزة الموازنة بقيمة مليار دولار خلال الثمانية أشهر الماضية مسجلا 78.3 مليار دولار فى فبراير 2025.
شهادة ثقة
وإلى جانب المؤشرات الاقتصادية، لا يمكن إنكار آثار برامج الإصلاح مع صندوق النقد، وتداعياتها الاجتماعية، وربما هذا ما يفسر التوسع المستمر فى برامج الحماية الاجتماعية، والتي ارتفعت قيمتها من 421 مليار جنيه، فى موازنة عام 2016/2017، إلى 732.6 مليار جنيه، بموازنة العام المالى الجديد 2025/2026.
لكن فى الوقت نفسه، لم يكن هدف الحكومة من اتفاقها مع الصندوق، الحصول على التمويل فقط، وإنما أيضًا الحصول على شهادة دولية بأن مصر تنفذ مسارًا إصلاحيًا، يطمئن البنوك والمؤسسات العالمية والدول المانحة، لتكون أكثر استعدادًا للتعاون والمساعدة.
وهذا ما يفسر حديث رئيس الوزراء، مصطفى مدبولى، بأن برنامج صندوق النقد، يمثل «شهادة ثقة» فى الاقتصاد المصري، لا سيما أن البرنامج «رؤية مصرية خالصة»، ولا يتضمن أى شروط من الصندوق على مصر.
ولعل الشواهد على ذلك، ما لحق بالاتفاق الأخير مع صندوق النقد فى مارس من العام الماضى، من برامج دولية أخرى للتعاون الاقتصادى، أبرزها حزمة التمويل التي جرى توقيعها مع الاتحاد الأوروبى بقيمة 7.4 مليار يورو، على مدى أربعة أعوام، تشمل قروضًا واستثمارات وتعاونًا فى ملفى الهجرة إلى أوروبا ومكافحة الإرهاب.
وعزّز صندوق النقد شهادته فى تقدم الاقتصاد المصري، فى بيانه الأخير هذا الأسبوع، بعد إجراء المراجعة الخامسة لاتفاق الدعم المالى، حينما أشار إلى أن «مصر تحرز تقدمًا نحو استقرار الاقتصاد الكلى»، كما توقع استمرار التحسن فى الفترة المقبلة، رغم بعض الملاحظات التي تتعلق بالإجراءات الضريبية والجمركية.
ومع الشهادات الدولية الإيجابية، يبدو أن الحكومة تدرك أخطاء الماضى، خصوصًا ما يتعلق بالسياسات المصرفية، كما أن سياستها الاقتصادية، تستهدف تعزيز مواردها من الاستثمارات والتصنيع، وتقليل فاتورة الواردات، بالاعتماد على الإنتاج المحلى لتلبية الاحتياجات الداخلية، ودعم القطاع الخاص، وتحفيز الاستثمارات، إلى جانب التوسع فى شراكات اقتصادية على الصعيد الثنائى وعلى الصعيد الجماعى، وكلها تدابير يمكن أن تغنى الحكومة عن برامج صندوق النقد الدولى، إذا حافظت على وضعها فى مقدمة أولويات عملها.