كلمات صدام الأخيرة

أحمد شوقي العطار
«وصايا الذبيح، التقى والشيطان فى رسائل صدام حسين».. عنوان أدبى لامع اختاره الكاتب الصحفى الأردنى وليد حسنى زهرة لكتابه البحثى الضخم الذى تجاوزت صفحاته الخمسمائة صفحة، وعلى غلافه الأسود القاتم رسم وجه الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين.
الكتاب الذى منع من النشر فى الأردن بعد صدوره عام 2009 وأفرج عنه فى 2011 بعد الثورات العربية، ولم يصل لأيدى القراء المصريين حتى هذه اللحظة إلا قليلا، وقع فى أيدينا مؤخرا يحمل تفاصيل ومعلومات موثقة وخطيرة عن المخططات الخارجية المعُدة للشرق الأوسط والمنطقة العربية، والغريب أن الكتاب الصادر عام 2009 تنبأ بعدد من الأحداث التى وقعت بعد صدوره ونعيشها هذه الأيام، لذا كان من الضرورى أن نقدم لقارئ «روزاليوسف» أهم ما تم رصده من معلومات موثقة لفضح المخططات الأمريكية الإسرائيلية لتقسيم المنطقة العربية بأكملها.
المؤلف فى كتابه «وصايا الذبيح، التقى والشيطان فى رسائل صدام حسين» يضع دراسة مقارنة بين الأفكار الاحتلالية «الأنجلوأمريكية» التى استهدفت العراق مبكرا، وبين الأفكار والتحذيرات التى كان صدام حسين يطلقها فى رسائله مخاطبا فيها الشعب العراقى أولا، والأمة العربية ثانيا، مع الرصد الدقيق والموثق لجميع المخططات الأمريكية والإسرائيلية التى استهدفت العراق والشرق الأوسط قبل احتلال العراق بسنوات عديدة.
كما يرصد أيضا جملة الأكاذيب الكبرى التى حاولت إدارة بوش الابن فى واشنطن وتونى بلير فى داوننج ستريت فى لندن ترويجها وتسويقها إلى العالم لتتكشف جملة تلك الأكاذيب تباعا.
يتناول المؤلف خلال الفصل الأول «كيف نقضم العراق.. أفكار ما قبل الحرب لإعادة رسم الخرائط» مجموع الخطط الأمريكية التى وضعت مبكرا للانقضاض على العراق حتى قبل أن يدخل الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن البيت الأبيض رئيسًا للولايات المتحدة- وكيف أن الرئيس الراحل صدام حسين يدرك تماما طبيعة هذه المخططات وأهدافها وطبيعة الصراع على العراق ومكونات الصراع فيه وأطماع الدول المجاورة وكذلك أطماع الداخل؟
هذا الإدراك ظهر جليا فى رسائل صدام التى صدرت عنه عقب احتلال بغداد وحتى لحظة إعدامه، هذه الرسائل التى تعتبر بمثابة العمود الفقرى لكتاب وصايا الذبيح والذى بنى عليها الباحث بحثه المتميز.
هذه الرسائل وشت برؤية صدام الاستراتيجية للوطنية العراقية الناهضة التى وضعها لمواجهة استراتيجيات الاحتلال وأفكاره.
هذه المخططات الخارجية التى وضعت فى أواخر القرن العشرين لرسم مستقبل جديد للمنطقة العربية والشرق الأوسط صاغها ما يسمى بالمحافظين الجدد من أجل هيمنة الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم وإرساء قواعد جديدة تضمن من خلالها التحكم فى ثروات الشرق الأوسط وإمكانياته وضمان أمن إسرائيل وتوسيع نفوذها فى المنطقة.
وإذا تتبعنا الوثائق والتقارير التى تم ذكر تفاصيلها بالكتاب والتى استعان بها المؤلف ليوضح طبيعة المخططات التى تسعى قوى الشر فى العالم لتنفيذها من أجل تقسيم الشرق الأوسط والسيطرة عليه، سنجد أن أول هذه المخططات ظهر فى الثمانينيات، من قلب إسرائيل، وهى عبارة عن وثيقة كتبها «عوديد ينون» المستشار الأمنى لمناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق وحملت عنوان «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات».
الوثيقة التى استند إليها الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين فى رسالته والتى بعثها للقمة العربية المنعقدة فى الخرطوم فى 27 مارس 2006 متحدثا فيها عن خطط صهيونية مسبقة لتفتيت وتجزئة الوطن العربى لتسهيل السيطرة عليه، مشيرا إلى أن تقسيم العراق الذى بدأت ملامحه فى الظهور عام 2006 هو خطة معروفة تبنتها الحركة الصهيونية العالمية قبل إنشاء الكيان الصهيونى وبعدها.
والتقرير جاء فيه أن بقاء إسرائيل مرتبط بالنجاح فى تقسيم الأقطار العربية كلها شرقا وغربا، وأن نجاح مخطط التقسيم يعتمد بشكل حتمى على تعاون إسرائيل مع دول الجوار غير العربية كتركيا وإيران فى آسيا وإثيوبيا وأوغندا وغيرهما فى أفريقيا، بالإضافة إلى خطة شاملة لدعم الأقليات الإثنية أو الطائفية فى الوطن العربى وتشجيعها على الانفصال بكافة الطرق.
ورغم أن هذا التقرير هو الإشارة الاستثنائية الوحيدة فى رسائل صدام لخطة واضحة لعدو يتحين الفرص للانقضاض على الوطن العربى، إلا أن صدام أشار مرارا وتكرارا لما أسماه بالعملية الكبرى ضد العراق والعالم العربى والإسلامى، مؤكدا أن ما يتعرض له العراق منذ الاحتلال هو نتاج خطط مسبقة وأفكار قديمة وضعت للنيل من موقف العراق المناهض للإمبريالية الأمريكية والاحتلال الصهيونى لفلسطين.
ولخص صدام حسين دوافع العملية الكبرى فى رسالته لقمة الخرطوم فى ثلاثة أهداف رئيسية هى التدمير والتقسيم والتذويب المبرمج للهوية العربية الإسلامية، وأن الهدف الرئيسى من احتلال العراق هو تقسيمه وتفتيته لدويلات ثلاث على أسس طائفية وعرقية.
وفى رسالة الخرطوم أيضا، كشف صدام عن مواقف بعض زعماء العرب من الحرب على العراق مؤكدا أن بعضهم شارك فى تنفيذ المؤامرة والبعض الآخر سكت ولم يتكلم، كما أكد أيضا أن احتلال العراق بوابة لتقسيم المنطقة بالكامل للسيطرة على نفط الشرق الأوسط وتطبيق خطة شارون «الوطن البديل» التى تستهدف التخلص من اللاجئين الفلسطينيين عبر إقامة الوطن البديل فى الأردن وإسكان أربعة ملايين فلسطينى فى غرب العراق بعد التقسيم.
ويستعرض الكاتب مستقبل دول المنطقة عقب احتلال العراق من خلال رؤى صدام الاستراتيجية التى ظهرت فى رسائله، ورغم أن رسائل صدام توقفت منذ عام 2006 بعد إعدامه، ورغم أن الكتاب نفسه صدر عام ,2009 إلا أن رؤى صدام التى استخدمها الكاتب الأردنى لقراءة مستقبل الوضع فى الدول العربية بعضها تحقق بالفعل والبعض الآخر ظهرت مقدماته.
فالسودان قُسمت فعليا إلى دولتين فى يناير ,2011 وذكر الكاتب- قبل التقسيم بعامين- أن أمريكا افتعلت مشكلة دارفور لفصل جنوب السودان عن شرقه والقضاء على عروبته، وأن واشنطن مصرة على تغيير الوضع فى سوريا بأى ثمن، كما فعلت فى العراق من إشعال الفتن العرقية والدينية وتأجيج الصراعات من أجل التقسيم للدولة.
وبالنسبة لليمن يرى الكاتب أن هناك إصرارًا أمريكيًا إيرانيًا مشتركًا على إبقاء فتنة الحوثى «الشيعة اليمنيين» فى اليمن مشتعلة وهو مؤشر على أن اليمن يجب أن يتعرض لأزمات خطيرة ومدمرة.
بالإضافة إلى مخطط إلغاء الأردن وقيام الوطن البديل على أنقاضه وإخلاء أغلب دول الخليج العربى من السكان وتحويلها لمنطقة استثمار بترولى وليس لها من سيادة الدولة إلا الناحية الشكلية، وفى المغرب العربى يتم التخطيط لإقامة كيانات منفصلة باسم البربر فى المغرب العربى، وأخيرا مصر التى يسعى المخطط لتقسيمها إلى ثلاث دول واحدة قبطية وأخرى نوبية وبينهما دولة عربية.
نعود للخطة الإسرائيلية التى تستهدف تفتيت الأمة العربية التى حملت عنوان «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات» والتى استفاض الكاتب فى ذكر تفاصيلها.
وضعت الخطة فى عام 1982 ونشرتها مجلة «كيفونيهم» التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية، وقام المفكر العربى الكبير المرحوم د.عصمت سيف الدولة بالاعتماد عليها كأحد أبرز وثائق الدفاع عن المتهمين فى قضيه تنظيم ثورة مصر سنة 1988بعد أن تمت ترجمتها من لغتها العبرية الأم إلى اللغة العربية، وفقا لما قاله عنها محمد سيف الدولة الذى تولى إعادة نشرها وتسليط الأضواء عليها عقب احتلال بغداد فى التاسع من أبريل ,2003 وكانت تلك الخطة ماثلة تماما أمام الرئيس صدام حسين وهو يجول بعينيه فى خارطة المنطقة العربية مخاطبا الزعماء العرب فى قمة الخرطوم وبالرغم من أن رؤيته لا تبتعد كثيرا عما ورد فى الخطة الإسرائيلية فإنه من المؤكد تماما أن بعضها لا يزال قيد التنفيذ.
وتبدأ الوثيقة بوضع صورة عامة لحال العالمين العربى والإسلامى واصفة إياه ببرج من الورق أقامه المستعمر من فرنسا وبريطانيا فى العشرينيات دون أن يوضع فى الحسبان رغبات وتطلعات سكان العالم وتم تقسيمه إلى 19 دولة كلها تتكون من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة والتى تعادى كل منها الأخرى، وعليه فإن كل دولة عربية إسلامية معرضة اليوم لخطر التفتت العرقى والاجتماعى فى الداخل إلى حد الحرب الداخلية.
وتقول الوثيقة «وإذا ما أضفنا إلى ذلك الوضع الاقتصادى يتبين لنا كيف أن المنطقة كلها فى الواقع بناء مصطنع كبرج الورق لا يمكنه التصدى للمشكلات الخطيرة التى تواجهه، وأن معظم العرب متوسط دخلهم السنوى حوالى 300 دولار فى العام، وترى الوثيقة أن هذه المشاكل الضاغطة فى دول الجوار الإسرائيلى تشكل لإسرائيل مجموعة من التحديات لكنها بالمقابل تشكل لها أرضية لفرص عظيمة، ثم تذهب الوثيقة لدراسة حالة كل دولة عربية على انفراد مركزة على المشكلات الرئيسية الاستراتيجية الداخلية التى تواجه كل قطر عربى، ومدى إمكانية خدمة تلك المشكلات الرئيسية لمصالح إسرائيل فى المنطقة، وكيفية قيام إسرائيل بتعزيز تلك المشكلات لضمان التفوق الإسرائيلى وصولا للتغلغل الإسرائيلى فى كل دولة على انفراد، وتتحدث الوثيقة الإسرائيلية عن أوضاع مصر الداخلية ومشكلاتها الطائفية والإثنية قائلة: إن مصر تضم أغلبية سنية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يشكلون الأغلبية فى مصر العليا 8 ملايين نسمة، كما أن الملايين من السكان على حافة الجوع ونصفهم يعانون من البطالة فى ظروف أعلى نسبة تكدس سكانى فى العالم ولا يوجد أى قطاع فى مصر يتمتع بالانضباط باستثناء الجيش، والدولة فى حاله دائمة من الإفلاس بدون المساعدات الخارجية الأمريكية التى خصصت لها بعد اتفاقية السلام.
وتؤكد الوثيقة الإسرائيلية أن مصر بطبيعتها وبتركيبتها السياسية الداخلية الحالية بمثابة جثة هامدة فعلا بعد سقوطها، وذلك بسبب التفرقة بين المسلمين والمسيحيين والتى سوف تزداد حدتها فى المستقبل، وأن تفتيت مصر إلى أقاليم جغرافية منفصلة هو هدف إسرائيل السياسى فى الثمانينيات على جبهتها الغربية إذ إن مصر المفككة والمقسمة إلى عناصر سيادية متعددة على عكس ما هى عليه الآن، لن تشكل أى تهديد لدولة إسرائيل بل ستكون ضمانا للأمن والسلام لفترة طويلة.
واعتبرت الوثيقة أن هذا الأمر فى متناول أيدى الإسرائيليين بعدما أصبحت مصر لا تشكل خطرا عسكريا استراتيجيا على الأمد البعيد بسبب تفككها الداخلى.
وترى الوثيقة أن وسيلة إسرائيل الوحيدة لإحداث التطور التاريخى بتفكيك مصر وإنشاء دولة قبطية مسيحية فى مصر العليا، إلى جانب عدد من الدويلات الضعيفة التى تتمتع بالسيادة الإقليمية فى مصر، بعكس السلطة والسيادة المركزية الموجودة اليوم، سيقود حتما إلى تفكيك باقى الدول العربية الأخرى مثل ليبيا والسودان ولن يكون للدول العربية أى وجود بالصورة الحالية بل ستنضم إلى حالة التفكك والسقوط التى ستتعرض لها مصر.
وتتحدث الوثيقة الإسرائيلية الخطرة جدا، عن تفكيك لبنان إلى خمس مقاطعات إقليمية ويجب أن يكون هذا التفتيت درسا وسابقة لكل العالم العربى بما فى ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية.
ولا ترى الوثيقة فى ليبيا أى مقومات للدولة أو للشعب قائلة إن ليبيا دولة تكاد تخلو من وجود سكان يمكن أن يشكلوا قومية قوية وذات نفوذ، ومن هنا جاءت محاولات معمر القذافى لعقد اتفاقيات بالاتحاد مع دولة حقيقية كما حدث فى الماضى مع مصر.
وتعتقد الوثيقة أن السودان من أكثر دول العالم العربى الإسلامى تفككا، إذ يتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سنية تسيطر على أغلبية غير عربية أفريقية، إلى وثنيين وإلى مسيحيين، مشيرة إلى أن الجزائر والمغرب العربى بينهما حرب بسبب المستعمرات الصحراوية، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التى تعانيها كل منهما فيما تخضع تونس لتهديد التطرف الإسلامى.
ولا تفرق الوثيقة الإسرائيلية بين أوضاع سوريا الداخلية طائفياً وبين لبنان الطائفى باستثناء النظام العسكرى الذى يحكم فى دمشق إلا أنها تؤكد على أن الحرب الداخلية الحقيقية ستشتعل بين الأغلبية السنية، والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين الذين يشكلون 12٪ فقط من عدد السكان وذلك تأكيدا على مدى خطورة المشكلة الداخلية السورية.
وتدعو الخطة الإسرائيلية لتحقيق هدف إسرائيل فى تفكيك سوريا والعراق إلى أقاليم قومية دينية تبعاً لتركيبها العرقى والطائفى وإلى دويلات عدة كما هو الحال فى لبنان، بحيث تقام دولة علوية على الشاطئ السورى المتوسطى ودولة سنية فى منطقة حلب، ودولة سنية منقسمة على نفسها فى دمشق تقف على تناقض عدائى مع مثيلتها فى الشمال حلب، وإقامة دولة درزية يسيطر الدروز عليها فى الجولان ودولة أخرى فى حوارات وشمال الأردن ليكون ذلك ضماناً للأمن والسلام فى المنطقة بكاملها على المدى القريب.
وينتقل الكاتب من شرحه المفصل لوثيقة إسرائيل إلى رصد كامل لمخططات وأطماع الولايات المتحدة فى العراق والعالم العربى.
واستعان الكاتب برسائل صدام مجددا ليبين كيف أن العراق هو الهدف الأول للولايات المتحدة وكيف أن الدعوات لاحتلال العراق والانقضاض عليه تتوالى تباعا فى مراكز صنع القرار الأمريكى والتى يسيطر عليها قادة أمريكيون يهود أو يدينون بالولاء لليهودية والصهيونية، والذين يريدون العراق محتلا وتحت سيطرة أمريكا وإسرائيل ليس فقط من أجل النفط بل للعبث فى المنطقة العربية بأكملها.
ويكمل الكاتب سرده للمعلومات الموثقة قائلا أن الوثائق الأمريكية اهتمت بشدة بصدام حسين منذ صعوده إلى الحكم عام 1979 وتحدثت عنه باعتباره عراب إدخال السوفييت إلى العراق والمنطقة، والتقارب العراقى من السوفييت الذى حاول التمدد إلى قلب آسيا عن طريق احتلال أفغانستان فى السبعينيات دفع أمريكا للقلق على مصالحها فى الشرق الأوسط مما دفع الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر لإصدار ما عرف فى أدبيات السياسة بمبدأ كارتر ليعطى لمنطقة الخليج بكاملها بما فيها إيران أهمية استثنائية غير مسبوقة، لوضع حد لتسلل السوفييت إلى المنطقة بعد احتلال أفغانستان.
ثم جاء الرئيس الأمريكى ريجان بعد ذلك ليكمل ما بدأه كارتر، وفتح الباب على مصراعيه أمام المحافظين الجدد للاقتراب من مركز صنع القرار فى الولايات المتحدة، وبدأ «المحافظين الجدد» خلال عهد ريجان التخطيط لأفكار استعمارية متشددة تجاه الشرق الأوسط وبدأوا فعليا فى التنفيذ خلال فترة بوش الأب وبوش الابن.
ثم يستعرض الكاتب أهمية العلاقة بين العراق وأفغانستان بالنسبة للمستعمر، موضحا أن الاحتلال الإنجليزى فى بداية القرن العشرين رسم خريطة نفوذه وصراعه من خلال العراق وأفغانستان بعد الاستيلاء عليهما، ثم يعود ليقارن ذلك بما حدث أوائل القرن الحادى والعشرين عندما دخل الجيش الأمريكى أفغانستان ثم دخل العراق بعدها بعامين، على اعتبار أن هاتين الدولتين تمثلان بوابة رئيسية للسيطرة على الشرق الأوسط وثرواته.
ثم يفضح الكاتب مخططات «المحافظين الجدد» الذين تسللوا لمراكز صنع القرار فى عهد ريجان، والمحافظين الجدد أو الإنجيليين الجدد يحملون أفكارا متطرفة فيما يتعلق بالصبغة الدينية للمعركة فى الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل وبضرورة تهيئة المنطقة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لاستقبال عودة المسيح للأرض، وضمان تفوق إسرائيل على جيرانها العرب واعتبار الإسلام العدو الأكثر بشاعة ودموية لإسرائيل وأمريكا ويرون أن السياسة هى السبيل الوحيد لتحقيق الطموحات الدينية وهم يؤمنون بمبدأ قديم صكه الأب الروحى لهم المفكر الألمانى ليو شتراوس حول الصراع بين الخير الأمريكى والشر العالمى، وأن أمريكا هى النبى الجديد الذى سيدافع عن معسكر الخير، ومن هذا المنطلق وصف ريجان السوفييت بإمبراطورية الشر.
ومن أشهر الشخصيات التابعة للمحافظين الجدد بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد فى فترة حكم بوش الابن، الذى نشر تقريرا عام 1979 قال فيه «العراق أخطر دولة عربية على المصالح الأمريكية».
ولفوفيتز وباقى شخصيات المحافظين الجدد حملوا عددا كبيرا من الأفكار العدائية للمنطقة العربية تمت صياغتها فيما عرف بـ«مشروع القرن الأمريكى الجديد» وتولى قادته وأصحاب نظرياته من أمثال وليم كريستول وروبرت كاجان وريتشارد بيرل وبول ولفوفيتز وغيرهم التنظير للمستقبل الأمريكى الإمبراطورى عن طريق احتلال العراق.
وشهد عام 1998 أول تحرك لرجال المشروع باتجاه العراق عندما وجه 18 عضوًا من أعضاء المشروع رسالة إلى الرئيس الأمريكى آنذاك بيل كلينتون تحمل دعوة صريحة لاحتلال العراق والقضاء على صدام ونظامه فى بغداد.
وبالفعل انصاع كلينتون لرغبة المحافظين الجدد رغم ممانعته قبلها وصادق على قانون تحرير العراق لسنة 1998 ومن خلال هذا القانون استطاعت الإدارة الأمريكية تقديم الدعم المالى لمنظمات عراقية كردية معارضة للتجهيز للانقلاب على صدام حسين.
مشروع القرن الأمريكى الجديد يهدف بشكل مباشر لإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط وبنائها من جديد لضمان المصالح الأمريكية، وتكريس أمريكا كإمبراطور وحيد للكون كله وليتحقق هذا الهدف لابد من وجود عدو جديد للأمريكان بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، عدو جديد منهك وضعيف لتبرير حروبها المقبلة للسيطرة على العالم، وحشد العالم بأكمله خلف أمريكا فى هذه الحروب، والعدو الجديد لابد أن يقع فى قلب منطقة النفوذ الكبرى لأمريكا فى أواسط آسيا وغربها باعتبارها القارة الأكثر خطرا على النفوذ الأمريكى ففيها الصين والهند وإيران وروسيا وفيها أيضا إسرائيل الحليف الأقوى لأمريكا، وعلى مشارف وحدود الشمال الأسيوى وغربها تقع خزانات النفط فى قزوين والخليج.
وتبلورت كل هذه الأفكار فى فكرة واحدة محددة فى اعتبار الإسلام عدوا مناسبا لأمريكا لإتمام مخططها الإمبراطورى الكبير.
ومن رحم مشروع القرن الأمريكى الجديد ولد التقرير الأخطر والذى لم يترجم للعربية قط، ويعتبر كتاب «وصايا الذبيح» أول كتاب بحثى يستعرض خطوط هذا التقرير المهم الذى رسم شكل المعركة القادمة لأمريكا فى الشرق الأوسط، وهو تقرير شهير صدر عام 2000 قبل أحداث سبتمبر بعام واحد فقط ويحمل عنوان «إعادة بناء الدفاعات الأمريكية الاستراتيجية والقوى والموارد الخاصة بالقرن الجديد»، والذى وضعه دونالد كاجان وجارى شميث وتوماس دونللى وهم من المحافظين الجدد أيضا، ويستهدف التقرير التخلص من أنظمة الشر فى العالم- كما ذكر بالتقرير- والتى يتمثل معظمها فى العراق وسوريا وإيران وكوريا الشمالية وليبيا ومن ثم الهيمنة على العالم.
واعترف التقرير أن عملية التخلص من هذه الدول قد تستغرق وقتا طويلا إلا إذا حدثت كارثة تكون عاملا محفزا تتسبب فى تعرض أمريكا لخطر خارجى كبير يشبه ما تعرضت له من تدمير لأسطولها بالكامل من قبل السلاح الجوى اليابانى فى الحرب العالمية الثانية، ليسمح للإدارة الامريكية بترويج مخططها بالتوسع العسكرى فى دول مرشحة للهجوم عليها واحتلالها مثل العراق وأفغانستان.
وعلى هامش هذا الاعتراف فى التقرير الأمريكى قام الكاتب بالربط بين ذلك وبين أحداث سبتمبر 2001 مؤكدا أن هذه العملية تم اختلاقها لتحقيق الخطر الخارجى على أمريكا الذى نص عليه التقرير.
وليؤكد الكاتب طرحه حول افتعال أحداث سبتمبر لخلق مبرر لغزو العراق استعان بمقطعين غاية فى الأهمية، الأول من كتاب مذكرات جورج تينيت رئيس جهاز الاستخبارات الأمريكية الأسبق ويقول فيه «لو لم تقع هجمات 11 سبتمبر ما وجدت الحاجة للذهاب إلى الحرب فى العراق وكان الأمر برمته سيكون صعبا بلا شك، لكن أحداث سبتمبر وقعت وتحولت الأرض معها».
المقطع الثانى لبوب وودوارد الصحفى الاستقصائى الأمريكى الشهير ومفجر قضية ووتر جيت الشهيرة فى كتابه خطة الهجوم صفحة 44 والذى أكد فيه أن رامسفيلد كان يتحدث فى ذات اليوم الذى نفذت فيه هجمات 11 سبتمبر 2001- وقبل أن يعرف من يقف وراء ذلك- عن إمكانية الانقضاض على العراق ردا على تلك الهجمات الإرهابية» ويضيف وودوارد «فى اليوم التالى قام رامسفيلد مجددا بطرح السؤال التالى أمام وزارة حرب بوش الصغيرة، ألا توفر الهجمات الإرهابية فرصة للانقضاض على العراق؟»
ويستكمل الكاتب فى نهاية الفصل الأول من الكتاب استعراض مخططات ما بعد احتلال العراق والتى يرعاها «المحافظين الجدد»، حيث وضع ريتشارد بيرل وديفيد فروم دراسة بعنوان «نهاية الشر كيفية الانتصار على الإرهاب».
أظهرت هذه الدراسة رغبة جامحة فى الاحتلال المباشر لما تبقى من البلاد العربية لإعادة تجزئتها، واعتبروا إيران أسوأ دول العالم بجانب كوريا الشمالية وسوريا وليبيا والسعودية، ودعت الدراسة لانتهاج سياسة صارمة تجاه سوريا وليبيا والسعودية، ومطالبة هذه الدول بالاستجابة للمطالب الأمريكية الرئيسية وأهمها وقف دعم الإرهاب، وهدد التقرير أن السوريين وعلى رأسهم بشار الأسد إن لم يستجيبوا لمطالب أمريكا سيواجهون عواقب خطيرة فى المستقبل، كما طالب التقرير بعدم الصفح عن ليبيا لدعمها المستمر للإرهاب وتضمينها داخل مخطط التقسيم والفوضى، أما السعودية إن لم تستجب لمطالب أمريكا ستواجه إعلان استقلال المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وهى المنطقة التى تضم الأغلبية الشيعية كما تضم الخزان النفطى الأكبر للمملكة، وأن أمريكا ستلوح للسعودية دوما أنها تفكر فى أمر استقلال المنطقة الشرقية لتخضع المملكة للأوامر الأمريكية دون نقاش.∎