هنا ولد الجرافيتى

أحمد شوقي العطار
يعتقد أن ممارسة الجرافيتى موجودة منذ قديم الزمان، أيام الحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية، لكن الجرافيتى فى العصر الحديث تطور ليستخدم غالباً فى إيصال رسائل سياسية واجتماعية، أو كشكل من أشكال الدعاية. ويعتبر أيضاً أحد أشكال الفن الحديث، وظهر الجرافيتى جليا فى مصر بعد الثورة عندما استخدمه الشباب الثائر للتعبير عما بداخلهم من أفكار وآراء سياسية.
فى براغ عاصمة الجمهورية التشيكية، الجرافيتى له أهمية غير عادية، أهمية تاريخية وإنسانية تربط الشعب التشيكى بفكرة الرسم على الجدران والتعبير عن الآراء من خلال ذلك.
أهلا بك بين أحضان العصور الوسطى بقلاعها وكنائسها وشوارعها التى لم تطلها أيدى التخريب التى طالت العديد من الآثار القديمة فى دول القارة الأوروبية السعيدة أثناء الحرب العالمية الثانية.
كل شىء فى براغ عاصمة التشيك يحمل جينات العصور القديمة وبقايا أمة قد خلت، كل شىء على الإطلاق، حتى المبانى الحديثة لم يغفل صانعوها أن يشيدوها بروح العصر القديم لتتماشى مبانيهم مع العدد الكبير من التحف المعمارية التى وقفت بثبات لتتحدى الزمن رغم مرور ما لا يقل عن 800 عام، فلا تشعر وأنت تتجول فى شوارع براغ بعدم التناسق والعشوائية التى أصابت بلدانًا أخرى أعرق وأقدم بكثير من العاصمة التشيكية الجميلة.
لبراغ العديد من الألقاب مثل المدينة الذهبية وأم المدن وقلب أوروبا، وتعرف بالمدينة ذات المائة برج نظرا لكثرة الأبراج فوق كنائسها وقصورها، عشرات الكنائس الباروكية والقوطية، عشرات المبانى القديمة والقلاع الأثرية الضخمة، بالإضافة إلى جسر تشارلز العملاق الذى مر على بنائه أكثـر من 600 عام.
لكن كل هذه الأماكن القديمة والآثار التاريخية التى تملأ براغ يمكن وضعها فى كفة، ويبقى حائط لينون وحده فى كفة أخرى، رغم أنه مجرد حائط لم يمر على بنائه أكثر من أربعين عاما، إلا أنه سيظل الأكثر جاذبية لفنانى ومثقفى العالم، لأنه يحكى قصة نضال شعب قرر الثورة على الديكتاتورية بالفن والكتابة.
فى مالا سترانا، بالقرب من السفارة الفرنسية، سترى جدار جون لينون وبمجرد أن تصل الى حائط لينون الشهير، ستعرف القصة وما فيها، فحائط لينون جعل من براغ بلد الجرافيتى الأول، المثير فى الأمر أن لينون الذى سمى الجدار باسمه لم تطأ قدماه أرض التشيك قط، هذه ليست مزحة - جون لينون لم يدخل براغ ولم يكن يوما مواطنا تشيكيا- وهذه هى القصة كاملة كما يرويها أهالى براغ السعيدة.
هو جدار ظل عاديا حتى أوائل الثمانينات قبل أن يملأه الشباب التشيكى بكتابات مناهضة للشيوعية وقطع من كلمات أغانى مطرب البيتلز الإنجليزى الشهير وعازف الجيتار والشاعر جون لينون الذى أحب موسيقى الرّوك من صغره، وتأثّر بـ«إلفيس بريسلى»، وغنّى مع البيتلز، ثمّ انفصل عنهم طلبًا للحرّيّة.
القصة المتداولة فى براغ تحكى أن لينون كان بطلا ومثلا أعلى للشباب السلمى فى أوروبا الوسطى والشرقية فى ظل الحكم الشيوعى الذى سيطر على بلدان أوروبا الشرقية والوسطى.
وكانت أغانيه وأشعاره الداعية للحرية والثورة على القيود والمناهضة للشيوعية منتشرة للغاية بين شباب أوروبا، وفى عام 1979 عندما حكمت الشيوعية، تم منع أغانى البوب الغربى من قبل السلطات الشيوعية، خاصة أغانى لينون، لأنه كان يدعو فى أغانيه إلى الحرية التى لا وجود لها فى النظم الشيوعية الديكتاتورية.
وعندما قام مجموعة من الموسيقيين بعزف وغناء أغانى لينون فى البلدان الخاضعة للحكم الشيوعى ومن ضمنهم التشيك، تم إلقاء القبض عليهم وحبسهم فى سجون براغ.
اغتيل جون لينون فى عام 1980 على يد أحد المختلين عقليا فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وتحول نجم البيتلز إلى بطل شعبى ومثل أعلى للشباب الأوروبى الحالم بالحريات والثائر على الشيوعية، ورسمت صورته على هذا الجدار الذى سمى باسمه فيما بعد، وبجانب صورته التى كانت أول شىء يتم رسمه على هذا الجدار بدأ الشباب الثائر فى الكتابة على الجدران بعبارات تتحدى السلطات الشيوعية، ولأن التشيك فى هذا التوقيت تفتقد للحريات وشعبها يعانى من القمع والديكتاتورية تم وضع المدونين الشباب ورسامى الجرافيتى الثائرين فى السجن لأسباب ذكرتها السلطات الشيوعية آنذاك مفاداها أنهم مارسوا أنشطة تخريبية ضد الدولة.
ولم يكن القبض على نشطاء التشيك الشباب رادعا لباقى الشعب التشيكى الذى سار على خطى الشباب المعتقل، وتسربوا إلى هناك ليلا لتدوين كلمات معارضة للنظام على الجدران لأول مرة فى شكل عبارات، بالإضافة إلى قصائد البيتلز الخاصة بلينون، وتعمدوا يوميا أن يرسموا ويدونوا مشاعرهم وأحلامهم ليلا على هذا الحائط.
الشرطة الشيوعية حاولت مرارا وتكرارا تبييض الجدار، لكنها بمجرد أن تفعل ذلك تفاجأ فى اليوم التالى بمجموعة كاملة من القصائد والرسومات التى دونها الشعب ليلا.
حتى محاولات السلطة لتركيب كاميرات مراقبة ونشر الحرس مساء لمنع ذلك باءت بالفشل ولم توقف طوفان التعبير والحرية المحشو بالفن والإبداع من التوقف.
رحل لينون، ومن بعده رحل الطغاة، وسقطت الشيوعية، لكن لم يسقط الجدار، ظل صامدا مكانه حتى وقتنا هذا.
البعض يرى أن جدار لينون لا يقل أهمية تاريخية عن حائط برلين الشهير، وأنه يعبر عن حقبة تاريخية وأحداث مهمة فى تاريخ أوروبا المعاصر، وبعض الناس أيضا أطلقوا على الجدار مسمى «جدار السلام»، ليكون سببا فى إلهام الشعوب الباحثة عن الحرية بما يمكن أن نسميه الثورة المخملية أو التحركات الشعبية غير العنيفة، هذه التحركات التى استطاعت أن تسقط الشيوعية فى تشيكوسلوفاكيا السابقة فى عام .1989
فى عام 1998 تعرض الجدار لمراحل بسيطة من الترميم، لكن الكتابات على الجدار مستمرة حتى الآن، ولم تعد الكتابات مناهضة للشيوعية، بل تحولت إلى رسائل حب ودعوة إلى السلام والحرية- ورغم أن جزءًا كبيرًا من صورة لينون التى رسمت على الجدار منذ 35 عاما اختفى بسبب إعادة ترميم وطلاء الجدار عدة مرات، فإن وجهه لايزال موجودا كما هو.
منذ ذلك الوقت وجدران المدينة الذهبية - وليس حائط لينون فقط- تحولت إلى لوحات مزينة بعبارات تعبر عن آمال هذا الشعب وأفكاره وإحباطاته وانتصاراته، أصبح التدوين على جدران المدينة سمة مميزة لسكان براغ، فمن الصعب أن تجد جدارا خاليا من الجرافيتى فى براغ الجميلة.
فهناك من رسم وجه حبيبته التى تركته وحيدا وابتعدت وكتب حول وجهها كلمات يختبئ داخلها المرارة والحزن على الفراق، وآخر فقد وظيفته ورسم على الجدران وجها شيطانيا كبيرا يقصد به مديره فى العمل ودون بجانبه عبارات الغضب والتوعد بالانتقام، وأخرى تمردت على واقعها وقررت أن تملأ جدران براغ بالعبارات الأنثوية المتمردة.
المفارقة الجميلة أن فكرة استخدام الجرافيتى للثورة على الظلم فى براغ أواخر السبعينيات لم تبق داخل حدود التشيك، بل صدر التشيكيون فكرتهم إلى العالم، فنجد المصريين يتلقفون هذه الفكرة أثناء ثورة يناير 2011 وجميع الأحداث التى تلتها، ليخرج الشباب المصرى الثائر ويعبر عن غضبه وآماله وثورته وأحلامه على حوائط القاهرة مؤرخا لثورته وأحداثها فوق جدران المدينة القديمة، وكأنه يستلهم تجربته الحديثة من تجربة شباب التشيك الذين ثاروا أيضا ضد الظلم والديكتاتورية.
جدران شارع محمد محمود وميدان التحرير بشكل عام لم تختلف كثيرا عما شاهدته فى براغ، فالتجربة التى مر بها الشعبان كانت متشابهة إلى حد كبير، والإنسان هو الإنسان فى كل مكان، والأفكار والرؤى تتشابه وتتلاقى أحيانا، ورغم بعد المسافة بين البلدين، فإن جدار لينون وحوائط ميدان التحرير استطاعت- عن طريق الفن- إسقاط أشد الأنظمة ديكتاتورية وقمعا، فطوبى للحريات وللباحثين عنها بسلمية وإرادة.∎