الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

محبة بعد فتور

محبة بعد فتور
محبة بعد فتور


لم تكن بداية العلاقة فى سنة 9591 بين الرئيس جمال عبدالناصر والبابا كيرلس السادس مشجعة على الإطلاق فقد أرسلت برقيات عديدة ضد أبونا مينا المتوحد عندما كان مرشحاً ليكون بطريركا  فاستدعى الرئيس عبد الناصر وزير التموين د.كمال رمزى ستينو وقال له: «شوف الموضوع ده.. فأنا لا أريد أن أدخل فى صراعاتكم أما موضوع الشكاوى فإن أبونا مينا رجل الصلاة يعطى الناس قطناً مبللا بالزيت لأجل شفاء المرضى  واتهمت الشكاوى الراهب بأنه يمارس الدجل والشعوذة».

طلب البابا كيرلس مقابلة جمال عبدالناصر أكثر من 10 مرات وهو يرفض وكان يريد البابا أن يعرض عليه بعض مشكلات الأقباط والمضايقات التى تتعرض لها الكنيسة ولم يجد البابا أى استجابة لرغبته فى مقابلته. وحدث أن كان للبابا صديق عضو فى مجلس الشعب وكان يحبه وكان له ابن مريض  فطلب العضو أن يصلى البابا لأجل ابنه فصلى البابا واستجاب الله لصلاته وشفى الابن وفى يوم زاره عضو مجلس الشعب ووجد البابا متضايقًا وزعلان فسأله عن السبب ولما عرف قال: أنا علاقتى جيدة ووطيدة مع عبدالناصر وسأرتب موعدًا معه وحضر عضو مجلس الشعب قبل الميعاد واصطحب البابا فى سيارته للقصر الجمهورى وقابل عبد الناصر البابا كيرلس بفتور شديد جداً وأبتدأه قائلاً بحدة: «إيه .. فيه إيه هم الأقباط عايزين حاجة  مالهم الأقباط هما كويسين قوى كده.. إيه مطالب» كان الرئيس حاداً ومع ذلك قال البابا كيرلس السادس مبتسماً: «موش تسألنى وتقول لى:  فيه إيه ؟» فرد الرئيس محتداً قائلاً: «هوه فيه وقت أقولك.. وتقول لى.. ما هو مافيش حاجة» ووجد البابا نفسه فى موقف محرج فغضب جداً وقال لعبد الناصر «ده بدل ما تستقبلنى وتحيينى بفنجال قهوة وتسمعنى وفى الآخر يا تعمل يا ما تعملش كده من الأول تحاول تعرفنى إن مافيش وقت لعرض موضوعاتى» وخرج البابا غاضباً قائلاً لعبد الناصر: «منك لله... منك لله» ورجع البابا للبطريركية مع عضو مجلس الشعب الذى راح يعتذر طوال الطريق فقال له البابا كيرلس: «إنت كتر خيرك  تمكنت من تحديد الموعد أما استقبال عبدالناصر لى بهذه الطريقة أنت مالكش ذنب فيه».
فى الساعة الثانية بعد منتصف الليل حضر عضو مجلس الشعب الى المقر الباباوى وطرق الباب وفتحه بواب المقر الباباوى وقابل تلميذ البابا وقال له «عبدالناصر عاوز يقابل البابا دلوقت حالاً» ولكن التلميذ حاول الاعتذار بأن البابا مريض وده وقت متأخر يمكن يكون البابا نائمًا «غير أن عضو مجلس الشعب أقترح أن يطرق على باب البابا كيرلس مرتين فإذا لم يرد يذهب ويقول لجمال عبدالناصر أنه وجد البابا نائمًا  ولكنهم قبل أن يطرقوا على باب البابا فوجئوا به مرتدياً ملابسه ويفتح الباب ويقول له : «يالا يا خويا يالا» وكان لجمال عبدالناصر ابنة مريضة أحضر لها كبار الأطباء الذين قرروا أن مرضها ليس عضوياً وعندما تكلم مع عضو مجلس الشعب ذكر له شفاء ابنه فدخل البابا مباشرة على حجرة الابنة المريضة وقال لها مبتسماً «إنت ولا عيانة ولا حاجة» واقترب منها البابا وصلى لها ربع ساعة فعادت الابنة إلى طبيعتها تماماً  وهنا تحولت العلاقة التى كانت فاترة فى يوم من الأيام إلى صداقة بينهما.. وعبر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل عن العلاقة بين البابا كيرلس والرئيس جمال عبدالناصر فقال «كانت العلاقات بين جمال عبد الناصر وكيرلس السادس علاقات ممتازة  وكان بينهما إعجاب متبادل  وكان معروفاً أن البطريرك يستطيع مقابلة عبدالناصر فى أى وقت يشاء  وكان كيرلس حريصاً على تجنب المشاكل  وقد استفاد كثيراً من علاقته الخاصة بعبدالناصر فى حل مشاكل عديدة».
كان أمل البابا كيرلس بناء كاتدرائية جديدة للقديس مار مرقس ومقر جديد للبطريركية فى منطقة الأنبا رويس بالعباسية ولكن كيف يحقق هذا الأمل؟.. وكيف يطلب من عبد الناصر؟
يقول هيكل «كان هناك مشكلة أخرى واجهت البطريرك كيرلس السادس فقد كان تواقاً إلى بناء كاتدرائية جديدة تليق بمكانة الكنيسة القبطية وكان بناء كاتدرائية جديدة مشروعاً محببا إلى قلب البطريرك  لكنه لم يكن يريد أن يلجأ إلى موارد من خارج مصر يبنى بها الكاتدرائية الجديدة  وفى نفس الوقت فإن موارد التبرعات المحتملة من داخل مصر كانت قليلة لأن القرارات الاشتراكية أثرت على أغنياء الأقباط  كما أثرت على أغنياء المسلمين ممن كانوا فى العادة قادرين على إعانة الكنيسة بتبرعاتهم إلى جانب أن المهاجرين الأقباط الجدد لم يكونوا بعد فى موقف يسمح لهم بمد يد المساعدة السخية  ثم أن أوقاف الأديرة القبطية أثرت فيها قوانين إلغاء الأوقاف وهكذا وجد البطريرك نفسه فى مأزق ولم ير مناسباً أن يفاتح جمال عبدالناصر مباشرة فى مسألة بناء الكاتدرائية فلقد تصور فى الموضوع أسبابا للحرج وهكذا فقد تلقيت شخصياً دعوة من البطريرك لزيارته وذهبت فعلاً للقائه بصحبة الأنبا صموئيل الذى كان أسقفاً بدار البطريركية وفى هذا اللقاء حدثنى البطريرك عن المشكلة وأظهر تحرجه من مفاتحة جمال عبد الناصر مباشرة فى الأمر حتى لا يكون سبباً فى إثارة أى حساسيات ثم سألنى ما إذا كنت أستطيع مفاتحة الرئيس فى الموضوع دون حرج للبطريرك ولا حرج على الرئيس نفسه وعندما تحدثت مع الرئيس عبد الناصر فى هذا الموضوع كان تفهمه كاملاً كان يرى أهمية وحقوق أقباط  مصر فى التركيب الإنسانى والاجتماعى لشعبها الواحد ثم أنه كان يدرك المركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسى فى التاريخ المصرى ثم أنه كان واعياً بمحاولات الاستقطاب التى نشط لها مجلس الكنائس العالمى وهكذا فإنه قرر على الفور أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية الجديدة نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يقدم عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام والتى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء. وطلب إلى الرئيس إبلاغ البطريرك بقراره وكان الرجل شديد السعادة عندما قمت بإبلاغه إلى درجة أنه طلب إلى اثنين من الأساقفة أحدهما الأنبا صموئيل أن يقيما قداسًا فى بيتى وكان بالغ الرقة حين قال «إن بركات الرب تشمل الكل أقباطاً ومسلمين» وتم بناء الكاتدرائية.
تعود البابا أن يزور الرئيس عبدالناصر فى منزله وفى زيارة من هذه الزيارات جاء إليه أولاده وكل منهم يحمل حصالته وقفوا أمامه فقال الرئيس للبابا «أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها وقالوا حنحوش قرشين ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم له وأرجو ألا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حجره ووضع أولاد عبد الناصر تبرعاتهم ثم لفها وشكرهم وباركهم.
 8 يونيو 1967 أعلن الرئيس عبد الناصر قرار تنحيته إثر نكسة 5 يونيو وهزيمة الجيش المصرى وفى صباح يوم 9 يونيو 1967 صلى البابا القداس رافعاً قلبه لأجل مصر وشعب مصر وكان حزيناً ثم ذهب مباشرة إلى بيت السيد الرئيس عبدالناصر وصحبه ثلاثة مطارنة وحوالى 15 كاهناً  ولكنهم لم يستطيعوا اختراق الكتل البشرية التى تطالبه بالعودة إلى الرئاسة التى أحاطت بمنزل الرئيس وسدت الطرق الموصلة إلى بيته وصدرت تعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة تابعة للقوات المسلحة بفتح الطريق أمام سيارة البابا ووصل البابا إلى منزل الرئيس بمنشية البكرى واستقبله السيد محمد أحمد سكرتير الرئيس وأعلن له البابا تمسكه وتمسك الأقباط باستمرار وجود الرئيس جمال كرئيس للجمهورية وأحضروا للبابا كوباً من الليمون رفض أن يشربه وقال  «أنا عاوز أقابل الرئيس» فأوصلوا قول البابا إلى الرئيس تلفونياً فطلب الرئيس أن يكلم البابا بالتلفون وقال له «أنا عمرى ما أتأخرت فى مقابلتك فى بيتى فى أى وقت  ولكنى عيان والدكاترة من حولى» فقال له البابا «طيب عاوز أسمع منك وعد واحد».. فرد عليه الرئيس: «قل» فقال البابا «الشعب بيأمرك أنك ما تتنازلش» قال له الرئيس «وأنا عند أمر الشعب وأمرك» وغادر البابا بيت الرئيس وفى طريق عودته طلب الاستعداد لضرب الأجراس وبعد قليل أعلن السيد أنور السادات رئيس مجلس الأمة وقتها أن الرئيس جمال عبدالناصر نزل على إرادة الشعب وفى صباح يوم 10 يونيو 1967 ذهب البابا إلى القصر الجمهورى وقام بكتابة كلمة فى سجل الزيارات وقد أعلن فيها فرحته وارتياح الأقباط بقرار عبدالناصر بالنزول على إرادة الشعب والعودة لممارسة مهامه كرئيس للجمهورية وزعيماً للأمة
 28 سبتمبر1970 توفى الرئيس جمال عبد الناصر فجأة بعد المجهود المضنى الذى بذله فى مؤتمر القمة العربى الذى عقد فى القاهرة وبعد توديعه لأخر الرؤساء العرب الذين حضروا المؤتمر وهو أمير الكويت فى المطار وتلقى البابا كيرلس السادس نبأ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بـأثر شديد وحزن حزناً عميقاً وأصدر بياناً إلى الأمة يعبر فيه عن شعورة قال فيه: «إن الحزن الذى يخيم ثقيلاً على أمتنا كلها لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبدالناصر إلى عالم الخلود أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به إن النبأ الأليم هز مشاعرنا ومشاعر الناس فى الشرق والغرب بصورة لم يسبق لها مثيل ونحن لا نصدق أن هذا الرجل الذى تجسدت فيه آمال المصريين وكل العرب يمكن أن يموت، إن جمال لم يمت ولن يموت، إنه صنع فى مدى عشرين سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله فى قرون وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطاً باسم البطل المناضل الشجاع الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه ويشهدوا بأنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحنكته وبعد نظره وسماحته ومحبته وقوة إيمانه بمبادئ الحق والعدل والسلام.
إن الأسى فى قلوبنا أعمق من كل كلام يقال ولكن إيماننا بالخلود وإيماننا بالمبادئ السامية التى عاش جمال عبدالناصر من أجلها وبذل عنها دمه وأعصابه وحياته إلى آخر رمق فيها يملأ قلبنا بالرجاء.. إننا نشيعه إلى عالم الخلود محفوظاً بالكرامة التى تليق باسمه العظيم وعزاء الأمة كلها ولأمة العرب بأسرها بل عزاء للعالم فى رجل من أعظم الرجال الذين عرفتهم البشرية فى كل عصورها» وتوجه البابا كيرلس السادس فى ظهر يوم الأربعاء 30 سبتمبر إلى القصر الجمهورى بالقبة يرافقه نيافة الأنبا إسطفانوس مطران النوبة وعطبرة وأم درمان ونيافة الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى  وهناك قابل محمد أنور السادات نائب الرئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا - لتقديم العزاء رسمياً فى جمال عبدالناصر وقد غلب التأثر على قداسته وتحدث باكياً عن محبة عبد الناصر وعلاقته به ثم سجل كلمة عبر فيها عن مشاعرة ومشاعر الأقباط فى وفاة الزعيم ناصر وأمر البابا كيرلس جميع الكنائس أن تدق أجراسها دقات الحزن منذ إعلان نبأ وفاة جمال عبد الناصر وتلقى العديد من رسائل تعزية من رؤساء العالم وأقام صلوات القداسات الإلهية وصلاة ترحيم على روح عبدالناصر رئيس جمهورية مصر الراحل وأن تتشح جميع الكنائس بالسواد طوال فترة الأربعين يوماً.∎