مصالحة فيها عفريت
محمود التهامي
محمود التهامي روزاليوسف الأسبوعية : 24 - 10 - 2009
يبدو أن تقرير جولدستون عن جرائم الحرب التي وقعت أثناء الحرب الأخيرة في قطاع غزة كان مجرد ذريعة لتفجير الموعد الذي كان محدداً لتوقيع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس في القاهرة يوم 52 أكتوبر الجاري. فالتقرير سبق أن رفضته حركة حماس، لأنه وزع الإدانة علي كل من إسرائيل وحماس واتهمهما معا بارتكاب جرائم حرب وإن كان مال إلي جانب إدانة إسرائيل بنسبة أكبر، الإدانة المشتركة لطرفي القتال في غزة هي مدخل الولايات المتحدة وحلفائها لوقف أي إجراءات أممية قد يتراءي للمجموعة العربية أن تتبناها أو تطالب بها في مجلس الأمن الدولي في حالة وصول التقرير إليه.
لذلك فإن الضجة التي أثيرت حول تأجيل - وليس إلغاء - التصويت علي التقرير في مجلس حقوق الإنسان هي في الواقع في غير محلها، وقد تأكد أن لها هدفاً آخر سرعان ما ظهر علي السطح وهو إبعاد فرصة المصالحة التي كان من المقرر توقيع الاتفاق حولها بعد طول انتظار.
تأجيل طرح التقرير له مبررات ساقها رئيس السلطة الوطنية محمود عباس، وهي مبررات قد يقبلها البعض وقد يجدها البعض الآخر غير مقبولة، ولكنها في النهاية مبررات لا تسوغ رد الفعل العنيف بالإعلان عن خيانة رئيس السلطة لقضايا وطنه وعدم صلاحيته لتمثيل بلاده وشعبه.
طبعاً نحن هنا لسنا في معرض الدفاع عن عباس وجماعته أو الاعتراض علي موقف حماس وجماعتها، ولكننا نطالب الجميع باحترام عقولنا ونسألهم سؤالاً محدداً: لماذا وافقتم علي عناصر ورقة المصالحة ما دمتم غير مستعدين، بعد، لها؟
إن ما حدث حول تقرير جولدستون كشف الغطاء علي حقيقة مروعة، كشف عن أن التفاوض حول المصالحة لم يصل مطلقاً إلي الأساس الفكري للخلافات، ولو كان التفاوض وصل إليه وتوصل إلي نتائج لصمدت المصالحة أمام الاختبارات الصعبة المتوقعة مثل أسس التفاوض مع إسرائيل أو تشكيل وفد المفاوضات أو حدود ما يمكن التفاهم حوله عند بلوغ مرحلة تسوية المسائل العالقة أو أشياء أخري من هذا القبيل.
أما أن تنفجر المصالحة أمام موضوع تافه مثل تأجيل طرح تقرير لبضعة أسابيع، فذلك يعني أن النوايا كانت مبيتة لنسف المصالحة واختلاق المبرر أو الذريعة عند أول منعطف.
الواضح لدينا الآن من تداعيات الأمور أن الحديث عن مصالحة بين فتح وبين حماس أخفي لوقت طويل أن كلا من الحركتين يعاني من انقسامات وصراعات داخلية عميقة لتدفع إلي السطح بمواقف غير مسئولة بين الحين والآخر دون حتي محاولة المحافظة علي القشرة الخارجية الزائفة، وإلا فما معني الاتهامات العنيفة المتبادلة علي خلفية تأجيل تقرير جولدستون؟
اتهم رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، حركة المقاومة الإسلامية حماس، بأنها استغلت تأجيل عرض تقرير جولدستون في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، للتنصل من المصالحة الوطنية.
قال عباس، أن تأجيل التصويت علي التقرير جاء بهدف تجنب إفراغ التقرير من مضمونه« لأنه قوبل بمعارضة شديدة من جانب بعض الدول الكبري، قبيل طرحه للتصويت في مجلس حقوق الإنسان، وقال في هذا الصدد:
- رفضنا ضغوطاً أرادت سحب تقرير جولدستون، وأن قرار تأجيل التصويت عليه جاء بناء علي توافق مختلف المجموعات (العربية والإسلامية والأفريقية وعدم الانحياز) التي تشكل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمكون من 74 دولة.
- أردنا تجنب الوصول إلي دفن القرار في المحافل الدولية، أو أن يصبح مجرد رقم يضاف إلي العديد من الأرقام الأخري، في إشارة إلي قرارات دولية سابقة أدانت الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
- السلطة الفلسطينية صاغت مشروع قرار بشأن تقرير جولدستون وسعت لتقديمه للتصويت من طرف مجلس حقوق الإنسان، لكن أطرافاً دولية كثيرة بينها الولايات المتحدة وبلدان أوروبية وروسيا والصين ضغطت من أجل تعديل ذلك المشروع، فيما أبدت أطراف أخري تحفظها عليه.
أما مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والمقيم في دمشق فقد اتهم فريق السلطة بالكذب، داعياً إلي محاسبتهم علي أخطائهم بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وأشار إلي أن تقرير جولدستون هو أول تقرير دولي يدين الكيان الصهيوني بعد عدوانه علي قطاع غزة، إلا أنه ظهر فريق فلسطيني يوفر الحماية للاحتلال وينقذه من إدانة المجتمع الدولي.
حول المصالحة الفلسطينية، قال مشعل إنه لا مصالحة علي حساب الثوابت الفلسطينية، وأضاف في تصعيد غير مبرر، أن فريق السلطة الممسك بالقرار الفلسطيني - الذي كان من المفروض أن يحافظ علي حقوق الشعب الفلسطيني - يتعاون مع الجنرال دايتون للقضاء علي فكر المقاومة يقصد الجنرال الأمريكي المسئول عن التنسيق الأمني في الضفة الغربية تطبيقاً، لاستحقاقات خطة خارطة الطريق وأضاف أن القيادة الحالية ليست أمينة علي مصالح الشعب الفلسطيني، وأشار إلي أنه لا يعفي الدول العربية من مسئوليتها عن خطأ سحب تقرير جولدستون.
رددت بعض المصادر الصحفية أن خالد مشعل - خلال زيارته الأخيرة للقاهرة - قال لبعض المقربين من الإعلاميين أن هناك شواهد تدل علي أن الرئيس أبومازن وفريقه لم يعودوا راغبين في المصالحة مع حركة حماس، وأن هناك اتجاهاً لإبقاء الوضع علي ما هو عليه حتي نهاية العام، بحيث يحين موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في شهر يناير المقبل في ظل استمرار الخصام فيجري انتخابات في الضفة دون غزة، بحيث تصبح الضفة هي قاعدة الدولة الفلسطينية والممثلة لمشروعها، بما يؤدي إلي إخراج غزة وحركة حماس من الصورة تماماً.
ليس لدي تأكيد لهذا الكلام، ولكن ما حدث حول موضوع تقرير جولدستون من تصعيد غير مبرر وضع المصالحة كفكرة علي كف عفريت، لأن فكر المصالحة يتناقض في ذاته مع التخوين والتربص واصطناع الأزمات التي تنسف المصالحة.
كان الله في عون الوزير عمر سليمان الذي يحمل عبء ملف المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، ويتحمل بصبر نحسده عليه جميع أشكال المراهقة والمراوغة السياسية من الأطراف التي يتعامل معها في تلك القضية المهمة والحساسة.