الخميس 20 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف

دولة «النحاس» فى مرمى نيران السيدة «روزاليوسف»!

عندما قررت السيدة روزاليوسف تأسيس جريدة يومية سنة 1935م، كان وجود الأستاذ عباس محمود العقاد- وهو أحد أقطاب الوفد- إعلانًا قويًّا عن وفدية الصحيفة. غير أنَّ هذا الأمر صادفه معارضة وفدية كان يقودها «مكرم عبيد»، وأخذ هذا الاتجاه يتحدث عن الصحيفة بما يُسىء لوفديتها.. وبمزيد من التفصيل حول هذا الاتجاه (الرافض لروزاليوسف اليومية)، تقول السيدة فاطمة اليوسف: خرج محمود عزمى والعقاد من «الجهاد» لينضما إلى تحرير الجريدة الجديدة، وخرج بعدهما توفيق صليب (سكرتير التحرير) ليكون سكرتيرًا لتحرير روزاليوسف.. فأدى ذلك إلى أزمة عنيفة كانت لها آثار بعيدة..



كان عزمى والعقاد هما أكبر كاتبين فى «الجهاد»، وخروجهما إلى جريدة منافسة توشك على الصدور إضعاف لها بغير شك. وكانت «الجهاد» هى الجريدة المقربة إلى الأستاذ «مكرم عبيد» سكرتير الوفد وصاحب الكلمة العليا فيه.. وكان ثمّة فتور بين مكرم من ناحية وماهر والنقراشى من ناحية أخرى.. فظنَّ مكرم أنَّ ماهر والنقراشى يدفعانى إلى إصدار الجريدة إضعافًا لتوفيق دياب و«الجهاد» التى يوجهها مكرم. ولم يكن هذا الظن على شىء من الصحة.

 

وفى الواقع، كان ما ذهبت إليه السيدة فاطمة اليوسف صحيحًا؛ إذ أعربت عن وفديتها، بصورة كاملة، قبل صدور جريدتها اليومية، وقالت فى مقالها الذى مهدت من خلاله لإصدار جريدتها (نُشر بمجلة روزاليوسف فى فبراير 1935م)، تحت عنوان: «من روزاليوسف الأم إلى روزاليوسف الفتاة» ما نصّه: «تحت راية الوفد وُلِدّتِ.. وتحت راية الوفد يجب أنْ تفتح لك أبواب الخلود.. لا تُبالى فى سبيل مصر أن تجرحى خصومها فى الضمائر والقلوب.. كونى صريحة فى الحق وتَقدمى الصفوف. كونى صادقة واهزئى بعد ذلك بما يكون.. اثبتى للزلازل وابتسمى للخطوب واضحكى للرياح نسمات وأعاصير.. احذرى الدسائس؛ فإنَّ أشراكًا تُنصَب لك اليوم بدهاء، فطئيها بالقدم وإياك والوقوع.

 

وكان شعورها بأنَّ ثمّة أشراكًا مبكرة تنصَب لها بدهاء، أشبه بقراءة للمستقبل؛ إذ استطاع «مكرم عبيد» أنْ يُقنع «مصطفى النحاس» بأنَّ توجهات الجريدة غير وفدية، فتكونت لدَى النحاس فكرة ضد الجريدة قبل صدورها.. وازدادت هذه الفكرة رسوخًا فى عقل النحاس من جرَّاءِ موقف الجريدة من حكومة «توفيق نسيم» بعد أنْ بدا لها- فيما بعد- تخاذلها.

 

ففى البداية، رحَّبَ الوفديون بحكومة نسيم (باشا) ترحيبًا منقطع النظير. ولم تخرج روزاليوسف حينئذٍ عن هذا الترحيب؛ إذ استقبلته بأحسن ما تستقبل به الصحف الحرة حُرًّا، جاء يفك القيود ويُطلق الحرية من العقال.. ثُمَّ مضت وزارة نسيم فى الحكم عدة شهور لم تعنِ فيها إلَّا بالقشور، أما الفكرة التى جاءت من أجلها إلى دست الحكم فلم ترعها من قريب أو بعيد؛ إذ إنَّ إلغاء دستور «إسماعيل صدقى» لم يعقبه إحياء «دستور 1923م»، وهو الدستور الذى كان يراه الشعب حينئذٍ دستور الأمّة (مع ما كان فيه من ثُغرات وعيوب).. [...] لذلك بدأت روزاليوسف تنقد هذا الموقف من الحكومة، وتطالب بالدستور وتصحيح الأوضاع السياسية؛ ففزع لذلك «توفيق نسيم»، ولجأ للوفد كى يوقفوا حملة الجريدة، وتدَخّل الوفد لوقف تلك الحملات أو إرجائها.. غير أنَّ روزاليوسف لم تصغِ للرغبة الوفدية ، وكانت ترى أنَّ «الصالح العام» يقتضى من الصحف الحرة أن تطالب الحكومة بما تطالبها به هى.

 

وترك موقف روزاليوسف جفوة فى النفوس.. وازدادت مخططات مكرم عبيد وفريقه؛ إذ كانوا يمنعون خطب النحاس عن محررى روزاليوسف، حتى تصدر الصحف الأخرى حاملة الخطبة ما عدا «روزاليوسف اليومية». ومن ثَمَّ تتحرك الدسائس لتقول للنحاس: «انظر.. إنَّ روزاليوسف تتجاهل خطبك ولا تنشرها». وجرَّاءَ تزايُد الدسائس، بات أغلب الوفديين يخافون التردد على الجريدة.. غير أنَّ الرأى العام- كله تقريبًا- كان إلى جانب روزاليوسف، فقد كانت الجريدة الوحيدة التى تهاجم توفيق نسيم لتلكؤه فى إعادة «دستور 1923م»، وتساهله فى تعيين مستشار إنجليزى له سُلطة «الاتصال المباشر» بالوزير. حتى صارت كلمة «الاتصال المباشر» محل تندر الناس.. غير أنَّ الوفد كان لا يُقر هذه الحملات؛ إذ كان الإنجليز والقصر كلما رأوا المعارضة تشتد والمطالبة بالدستور تقوى يلوحون بعودة إسماعيل صدقى. وكانت روزاليوسف تقابل هذا التلويح بحملات بالغة على إسماعيل صدقى أيضًا. غير أنَّ الوفد كان يرى أنَّه من الخير مهادنة الوزارة وأخذ الأمور باللين لعلها تُعيد الدستور حقًا!

 

تقول السيدة فاطمة اليوسف: وهكذا أصبح لـ«روزاليوسف اليومية» بعد أشهر من ظهورها خصوم أقوياء لم يجتمع مثلهم على جريدة فى وقت واحد: الوزارة تحاربها، والإنجليز يحاربونها، وأصحاب الصحف الأخرى يقاومونها، والوفد الذى كانت تستند إليه يوشك أنْ يتخلى عنها.. ولم يبقَ لها إلا الرأى العام تقريبًا.

 

وكانت الأزمة الكبرى مع الوفد، بسبب «أحمد نجيب الهلالى».. تقول السيدة فاطمة اليوسف: والهلالى لم يكن فى تاريخه القديم وفديًّا؛ بل الأصح أنْ يُقال إنَّه كان من خصوم الوفد. غير أنَّه لم يكد يدخل وزارة نسيم حتى عرف أنَّه يتقرب من الوفديين، ثُم لم يلبث أنْ أصبح صديقًا لهم، ولمع نجمه، وتراقصت الترشيحات حوله.. بعضها يرشحه لرئاسة الوزارة الوفدية المقبلة فيما لو عاد الدستور.. وشنَّ العقاد فى «روزاليوسف اليومية» حملة هائلة على الهلالى.. كان أبرزها سلسلة متصلة من المقالات بعنوان «وزير المعارف يحلم».. وكان مما قاله العقاد إنَّ وجود نجيب الهلالى بك فى الوزارة دليلٌ على أنَّ الدستور لن يعود إلى مصر قبل سنتين، إلا إذا حدث ما يُبدل النيّات غير النيَّات.. وأثارت تلك الحملة الوفد، وهدد بإصدار بيان ضد روزاليوسف.. وهدد مكرم عبيد روزاليوسف فى رسالة أرسلها لها، بأنَّه عليها أنْ تتحمل نتائج ما تنتهج لانتهاجها خطة تُغاير خطة الوفد.

 

وفى مقابل هذا التهديد، قررت روزاليوسف أنْ تمضى فى خطتها، التى ترى أنَّها تتسق والمصلحة الوطنية.. ومضت تهاجم تعطيل الدستور، ونجيب الهلالى، وكل المستشارين الإنجليز.. وأخذت الصحف تتسابق على نشر تفاصيل الخلاف بين روزاليوسف والوفد، وتؤكد أنَّ روزاليوسف سوف تُفصل من الوفد، وأنَّ نجيب الهلالى وأنصاره يستعجلون القرار.. واجتمع الوفد (فى سبتمبر 1935م)، وأصدر بيانًا بقرار الفصل، كان نصه: «قرر الوفد المصرى بجلسته المنعقدة اليوم فى بيت الأمة برياسة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا أنَّه نظرًا لأنَّ جريدة روزاليوسف قد اجترأت على نشر مقالات تتضمن الطعن على الوفد ومكانته من الأمة فإنَّ هذه الجريدة لا تُمثل الوفد فى شىء ولا صلة لها به».. تقول السيدة فاطمة اليوسف: بعد ساعة من صدور هذا القرار كان ملحق «روزاليوسف» يُباع فى الشوارع، ويحمل عنوانًا رئيسًا ساخرًا يقول: «الوفد المصرى يحل القضية المصرية!!- جلسة خطيرة يحضر لها من الإسكندرية».. وكان النحاس ومكرم وسائر أعضاء الوفد فى محطة القاهرة ينتظرون قطار العودة إلى الإسكندرية حين دخل باعة الصحف إلى المحطة ووزعوا عليهم ملحق «روزاليوسف».. فقابلوه بالدهشة البالغة لهذه السرعة العجيبة.. ونشرنا آية كريمة من القرآن الكريم اختارها الأستاذ كامل الشناوى من سورة الأعراف (الآية 89)، وتحت منها كلمة سعد زغلول: «الصحافة حرة.. تقول فى حدود القانون ما تشاء وتنتقد ما تريد. وليس من الرأى أنْ نسألها لماذا تنتقدنا؛ بل الواجب أنْ نسأل أنفسنا لِمَ نفعل ما تنتقدنا عليه؟».

 

وخرجت المظاهرات تجوب شوارع القاهرة تهتف بحياة النحاس وسقوط روزاليوسف، وحاصرت مقر إدارة المجلة فى شارع الساحة.. ثُمَّ حاربها الوفد حربًا لا هوادة فيها، حتى أنَّه أغرى من يعملون بها للجوء إلى القضاء للحصول على متأخراتهم المالية. ونفذ بعضهم- بالفعل- الحجز على أثاث منزلها، ودولاب ملابسها.

 

وكان من أسوأ الأسلحة التى لجأ إليها الوفد اتهامه روزاليوسف بأنها تُفرّق بين عنصرىّ الأمّة. وهى تهمة ذكرها النحاس نفسه فى إحدى خطبه السياسية عن الموقف السياسى.. لكنه ترك الموقف السياسى كله وهاجم روزاليوسف.. تقول السيدة فاطمة اليوسف: وكانت هذه التهمة جارحة، ولا أصل لها؛ بل هى فى قاموس الحركة الوطنية مساوية للخيانة.. وفى اليوم التالى كتب الأستاذ «توفيق صليب» كلمة عنيفة يرد بها على هذا الاتهام، وقال إنَّ سكرتير تحرير الجريدة مسيحى، وأنَّه يتحدى كائنًا من كان أنْ يجد فى «روزاليوسف» منذ صدورها كلمة واحدة بهذا المعنى.

 

غير أنَّ «روزاليوسف اليومية» ظلت صامدة أمام كل هذه الدسائس والمؤامرات.. بل إنها توقعت مزيدًا منها فى أعقاب فوز الوفد بالانتخابات النيابية، وتشكيل مصطفى النحاس للوزارة (أيْ وزارته الثالثة)، فى 10 مايو 1936م؛ إذ كان يعنى هذا الأمر أنَّ روزاليوسف اليومية فى انتظار موجة عالية من الاضطهاد.. تقول السيدة فاطمة اليوسف: لم يطل انتظارى، فقد صدر قرار من مجلس الوزراء بإلغاء رخصة «روزاليوسف اليومية» بحجة أنها لا تصدر بانتظام.. وهكذا بضربة واحدة سكت هذا القلب الخافق بعد حياة قصيرة حافلة، وبعد أنْ ترك فى أرض السياسة والصحافة المصرية آثارًا لا تزول.

 

بعد أنْ ألغى الوفد رُخصة «روزاليوسف اليومية»، تحوّل استهدافه وهجومه نحو «روزاليوسف الأسبوعية».. وهو استهداف استمر حتى نهاية حُكم وزارة النحاس الثالثة، فى يوليو 1937م (أيْ حتى بدايات عهد الملك فاروق).. ووجدت السيدة فاطمة اليوسف أنَّها أمام «فُصام سياسى» يُسيطر على حكومة الوفد.. فالحزب الذى كان يدافع عن «حرية الرأى والتعبير» وهو خارج السُّلطة، أصبح لا يطيق تلك الحرية وهو جالس على دست الحُكم!.. وكانت هذه الحالة السياسية الشاذة كفيلة بأنْ تدفعها لانتقاد الوفد وسياساته.. وكتبت فى بداية نوفمبر 1936م، مقالًا صريحًا حول هذا الأمر، تحت عنوان: «هدم الشخصيات المزيفة أول واجب وطنى.. ولكن من يؤديه؟».. وقالت إنَّ: «الاتجار بالوفدية- من يوم أنْ وجدت الوفدية- أنكب ما نُكبت به مصر والوفد فى الصميم».. وتابعت: ها هو الوفد أثناء حكم الوزارات الماضية الأخيرة، أيام أنْ كان ضد الغاصب، يُمثل التضحية فى سبيل الكرامة والوطنية، أيام أنْ كان يُمثل فكرة سامية هى آمال أمة صابرة مجاهدة احتملت عهود بطش وإرهاب وبذلت مضحية دماء بنيها وشيوخها!.. وها هو أيضًا الوفد بعد أنْ لمع له نجم ذهبى اللون يعكس أشعته على مفاتيح الدولة وبعد أنْ جلس على كراسى الحكم؛ يكافئ ويرضى ويجزل ويشبع وعنده أمُّ الكتاب!

 

فجابهت حكومة الوفد انتقاد روزاليوسف بالشدة.. فكانت المجلة تُصادر أسبوعًا وتصدر أسبوعًا.. وكانت فِرَق القمصان الزرقاء لا تفتأ تُهاجم مقرها بالطوب والحجارة.. والبوليس فى كل بيت يحيط بها، وينتظر أول سيارة تخرج حاملة الأعداد فيقفز عليها، ويُقلب صفحاتها باحثًا عن حُجة.. ثُمَّ لا يُعدم حُجة حتى يُصادرها.. وبعد كل مصادرة تجيء النيابة تفتش الدار، وتقلب الأثاث، وتواجه السيدة روزاليوسف بمواد قانون العقوبات.. وتطوَّر الأمر ذات مرة مع أحد وكلاء النيابة (القائمين بالتفتيش)، فاقتدها إلى مقر النيابة، وحُقق معها، ووضعوها فى الحبس مثل المجرمات.. فثارت ثائرة الصحف، وشنت الجرائد الأجنبية هجومًا عنيفًا على الحكومة لوضعها سيدة صحفية فى السجن على هذا النحو.. واضطرت الحكومة للضغط على وكيل النيابة للتنازل عن شكواه.

 

 

 

ومع ذلك، لم تتوقف دسائس حكومة الوفد ضد المجلة!.. تقول السيدة «فاطمة اليوسف»: ... وكان غريبًا أنْ يشارك فى قيادة الهجوم على «روزاليوسف» الأسبوعية الرجل الذى كان يؤيد روزاليوسف فى خطتها ويُعارض فى فصلها من الوفد، وهو النقراشى (وكان النقراشى وزيرًا للمواصلات وقتئذٍ)؛ إذ طلب من «عبد الحميد البنان» (الرجل الذى ضمن إعادة ترخيص روزاليوسف) أنْ يسحب ضمانه للمجلة بحجة أنَّه لا يصح أنْ يضمن وفديٌّ مجلة تُهاجم الوفد!.. وسحب البنان ضمانه بالفعل.. وأمهلتها وزارة الداخلية 24 ساعة فقط لدفع 150 جنيهًا أو إلغاء رُخصة المجلة.

 

وعندما وفرت السيدة روزاليوسف المبلغ، لم يتوقف النقراشى عن حملته على المجلة، فوجَّه «مصلحة السكك الحديدية (بوصفه وزيرًا للمواصلات) بقطع إعلاناتها عن المجلة.. تقول السيدة فاطمة اليوسف: على أنَّ الأقدار شاءت أنْ تسترد روزاليوسف قوتها ويرتفع بعد هذه الأزمة صوتها.. بسبب النقراشى نفسه!.. فقد لاحت فى الأفق بوادر أزمة بين الوفد والنقراشى.. وتسربت إلينا أنباء الخلاف الذى دبَّ فى مجلس الوزراء بين النقراشى ومحمود غالب من جهة، وعثمان محرم ومكرم عبيد من جهة أخرى؛ بسبب مشروع كهربة خزان أسوان؛ إذ اعترض النقراشى على الطريقة التى كان يريد بها عثمان محرم تنفيذ المشروع.. وكانت هذه الخلافات حبيسة جدران كثيفة من الكتمان حتى صدرت روزاليوسف تحمل نبأً صغيرًا يقول: إنَّ النحاس سوف يُعيد تأليف وزارته، وأنَّ النقراشى ومحمود غالب لن يدخلا فى الوزارة الجديدة!.. وانفجر هذا الخبر الصغير كالرعد.. وأحدث فى الموقف السياسى هَزَّة عنيفة.. وكان بداية شقاق كبير انتهى بخروج ما يقرب من مائة نائب من الوفد.. وكان هذا النبأ الصغير كافيًا لأن يدفع توزيع روزاليوسف إلى قمته القديمة، فيَصل بعد عدد واحد إلى أكثر من 50 ألف نسخة.. وهو أعلى رقم فى ذلك الوقت.. وأدرك الجميع أنَّ «روزاليوسف» ستعيش.. وأحسَسْت من هذا الارتفاع معناه العكسى: «إنَّ أسهم الوفد فى هبوط»... وقد كانت روزاليوسف هى أول مجلة يحاربها الوفد ثُمَّ لا تموت، ولا شك أنَّ هذه علامة على أنَّ الوفد بعد عقد معاهدة 1936م، بدأت قوته تقل؛ إذ ظنَّ أنَّ معركته مع الإنجليز قد انتهت فاسترخت عضلاته.

 

ويكشف أحد مقالات السيدة روزاليوسف عن أنَّ حكومة النحاس، خلال تلك الفترة أيضًا، لجأت لمنع «الإعلانات القضائية» عن روزاليوسف حتى تؤثر على مواردها المالية.. غير أنَّ هذا المنع قابله ردُّ حادٌ من صاحبة الدار؛ إذ كتبت تحت عنوان: «من السيدة روزاليوسف إلى صاحب المقام الرفيع» تسخر من هذا السلوك الصبيانى.. وقالت: 

 

«لقد خانك الذكاء يا صاحب المقام الرفيع، وإلا لأدركت أنَّ (روزاليوسف) أسمَى نفسًا، وأرفع خُلقًا من أنْ تنال منها هذه الصبيانيات فتنحرف عن مبادئ الوطنية الخالصة قيد شعرة!.. وقديمًا، حاول صدقى باشا وغيره وهو أوفر منك ذكاءً، وأكثر دهاءً وأبعد نظرًا، وأقوى سلطانًا إغراء (روزاليوسف) بفتح خزينة الدولة على مصراعيها فسَخَرت منه، وحاول أنْ يُلين قفاتها بالمصادرة والغلق والمحاكمة والسجن فكانت تقابل هذا كله بابتسامتها الساخرة التى لا تزال تحتل مكانها من شفتيها إلى اللحظة. واحتقرت «روزاليوسف» ذهب صدقى باشا (الوفدى الآن) وغيره الذى أبهر عينيك- الآن- فحملك على انتزاع أوقاف هى من حق سواك. ووقفت إلى جانبك، وأنت فى ذلك الحين لا تملك نفعًا ولا ضرًا؛ بل لم تكن تملك ثمن (المنفضة) التى تُزيل بها الغبار عن مكتبك!!.. ولم تفعل ذلك حُبًّا فى (سواد عينيك) ولكنها فعلت ذلك لأنَّ الحق كان إذ ذاك فى جانبك. وراحت تحارب جميع الوزارات الدكتاتورية، وما زالت بها حتى صرعتها وأسقطتها عن كراس الحكم.، وأخذت تمهد السبيل لتخلفه أنت.. أكانت (روزاليوسف) فى ذلك الحين تطمع فى المال وقد وطأته بأقدامها؟.. لا والله يا صاحب المقام الرفيع.. إنَّ المعول الذى لطالما هدمت به (روزاليوسف) بناءَ الباطل لا يزال على حدته وصلابته، حتى النفَس الأخير.. وإلى المُلتقى يا صاحب المقام الرفيع، حين تصل (روزاليوسف) إلى غرضها بتوفيق الله، ويومئذٍ لن تتوانى عن الوقوف إلى جانبك إذا ما وقفت إلى جانب الحق، وعدت إلى الرشد الذى شققت عليه عصا الطاعة. لشدما أنا آسفة لماضيك الناصع الذى أذهبت رونقه مقاعد الحُكم. ولكم وددت لو أنك جلست فى المجالس والمنتديات لتسمع بأذنيك ما يقال عنك وعن وزارتك من أنصارك وخصومك. لئن فعلت لما استطعت أنْ تُطالع الناس بوجهك دون أنْ يتورد خجلًا».

 

وعلى الصفحات التالية، ننشر مقالين آخرين من مقالات المواجهة بين السيدة روزاليوسف ودولة رئيس الوزراء «مصطفى النحاس» باشا.

 

 

 

 

 

1 – روزاليوسف تصادر  فى عهد مصطفى النحاس

طويت بالأمس آخر صفحة من تاريخ دولة مصطفى النحاس باشا!

حيث انتهت حياة هذا الرجل السياسية بعد أن انطفأ نوره من عالم الزعامة والرياسة منذ عام أو يزيد!

 

وودعت سجلا حافلا عن تاريخ زعامة بعثت الأمة فيها الروح والحركة فانطلقت مشتعلة جارفة، ولكن الزعامة وقد تمثلت فى زعيم من نسل آدم وحواء أدركها الكلال وبهرها نور الدنيا وخدعها مخدع وُشِّى بالقصب والحرير فاستلانت وتراخت ثم تثاءبت وغطت فى نوم عميق قامت على أثره فوجدت نفسها حاكمة تطل على شعب محكوم لها الأمر وعليه الطاعة والخضوع.

 

وصدر الأمر بأن تصادر مجلتى «روزاليوسف» وحضر رجال قسم عابدين للتفتيش ولضبط ما يعثرون عليه من العدد الماضى وأصول مقالات كما تضبط المواد المخدرة.

 

يصدر أمر بمصادر «روزاليوسف» فى عهد مصطفى النحاس باشا الذى وقف مرة يدافع عن حرية الرأى وحرية الصحافة ويقول: «أحتج على مصادرة جريدتنا «روزاليوسف» فكيف التوفيق بين الموقفين؟

 

زعامة كانت هى الرحمة وكانت صوت الحق يدوى فأصبحت الآن تعتز بالحديد والنار.

 

وعلم الله لم ننتظر مهادنة الوزارة لنا أو سكوتها علينا لأننا نعرف مقدار انحراف الطريق التى سلكها رئيس الوزارة فى أواخر أيامه، ونعرف أن سياسة الضعف والاستسلام فى حاجة دوما إلى من يسندها من أنواع البطش والإرهاب والأيادى الحديدية.

 

نحن واثقون من كل هذا، ونعرف أن رئيس الوزارة أصبح الآن يسير فى طريق شائكة دقيقة، فهو يدرك حرج المركز وما يستهدف له كرسى الوزارة من أخطار إذا بقيت حرية الرأى مكفولة للجميع، ولكن أن تصادر جريدة قبل أن يجرى تحقيق فى موضوع الاتهام ومن غير تهمة خطيرة توجب هذه المصادرة.. فدون هذا وكنا نقول إن رئيس الوزارة لا يتورط فى سياسة كان حربًا عوانًا عليها.

 

ضحك بعض زملائى من محررى جريدتى من هذا الصغار، ولكننى لم أضحك، بل تألمت! تألمت لأن تمثالا أقمناه من خالص العطور وبالأرواح والدماء تحول منذ عام أو يزيد إلى آدمى أنانى وها هو يبدو الآن مكشرا عن أنيابه.

 

أما هذه الأنياب فلا تخيفنى، بل تزيدنى ثباتا وإيمانا ولكننى أشفق على رجل كان له ماض ولم يعد له من حاضر إلا هذا الذى هو مضغة فى الأفواه.

 

لقد تعودت السير على الشوك، بل على الجمر وكنت أنا الضاحكة فى النهاية والضحك كما يقول لمن يضحك أخيرًا.

 

ولكننى لست اليوم بالضاحكة، بل الآسفة أنا الحزينة على جهود اثنى عشر عامًا كنت فيها جندية أمينة لقائد جبار فإذا بهذا القائد يتقهقر ويتأخر حتى انزوى من ميدان الجهاد رافعًا الراية البيضاء تسليمًا وسلامًا!

 

لا كلمة عندى إلى الزملاء الصحفيين إلا أن السهم الذى أطلق على جريدة اليوم سيطلق على أخرى غدا والأزمة الآن أزمة الصحافة، أما إذا كان الاضطهاد مقصورا علىَّ وعلى جريدتى فلقد ألفت هذا النوع من المعاملة فى سبيل الحق والواجب..!

 

“روزاليوسف” نشر في العدد 470

 

 

 

 

 

 

 

2 – أسطورة مسلم وقبطى

 

ما أشبه الليلة بالبارحة!! بالأمس وفى مثل هذا الوقت ضاق النحاس باشا ومكرم باشا ذرعًا بجريدة «روزاليوسف» فأصبحت قذى فى عينيهما وشجى فى حلقهما وشوكة فى ظهرهما توخزهما كيفما تحركا وأتى بها..

لماذا كل هذا؟

 

لأن «روزاليوسف» اليومية كانت تحمل يومئذ على الوزارة النسيمية وتأخذ عليها تهاونها فى حقوق البلاد، وتسليمها للإنجليز تسليمًا أعمَى، مما أدى إلى إراقة دماء الأبرياء على النحو الذى لم يبرح بال القراء بعد. ولكن الوزارة النسيمية كانت مشمولة برضاء النحاس باشا وصفيه مكرم باشا لا لأنه كان مخدوعًا فيها ولا لأنه كان يعتقد فيها الإخلاص لهذا الوطن. لا، بل لأنها- كما صرّح لى- «تركت له حرية الانتقال وإمتاع أذنيه بالتصفيق والهتاف».

 

وكان أن اشتدت الحملة تبعًا لإمعان الوزارة فى الإساءة للبلاد فكان لزامًا على دولته أن يدافع عن الوزارة الصديقة، التى أباحت لدوى  التصفيق أن يخترق أذنيه. فماذا يفعل لها؟.. و«روزاليوسف» اليومية معروفة بوطنيتها ووفديتها الخالصة؟ وليس من الهين إصدار بيان ضدها ما لم يكن مستندًا إلى مبرّر قوى.

 

لم يفكر دولته بل استوحى الوحى من صديقه مكرم، فأوحى له باتهام «روزاليوسف» بتهمة محاولة التفريق بين العنصرَيْن وبعث بأسطورة مسلم وقبطى، ليتخذها تكأة لما يريد.

 

وهكذا أصدر دولته بيانًا حملنا فيه مسئولية فرية لم يفترها علينا سواه.. ومن ثم أقصيت «روزاليوسف» عن الوفد. وقد رد هذه التهمة الكاذبة سكرتير تحرير روزاليوسف فى ذلك الحين الأستاذ توفيق صليب، وهو قبطى لحمًا ودمًا فكانت صفعة لهذه الفرية الكبرى.

 

واليوم أسقط فى يد النحاس باشا ومهبط وحيه معالى مكرم باشا حينما رأيا التفاف الأمّة حول النقراشى باشا الذى أقصى من الوزارة وكل ذنبه أنه وزير نزيه، والنزاهة فى عرف القوم جريمة ما بعدها جريمة.

 

ولا يكاد دولته- وإذا تكلمنا عن دولته فإنما نقصد معالى مكرم باشا الذى يملى عليه ما يجب أن يقول- لم يكد دولته يدرك عمق الهوة التى حفرها تحت قدميه حتى يتولاه الدوار فيضطرب جنانه، ويفقد اتزانه ويتخبط على غير هدى حتى ما يجد إلا ذلك السلاح البالى المفلول فيروح يشهره فى وجه النقراشى وزميليه، ولا يتحرج من أن يقف ويتهمهم بمحاولة التفريق بين العنصرين ضاربًا على نغمة مسلم وقبطى، تلك النغمة التى لم تعد تألفها أذن لسوء حظه.

 

وإلا فليحدثنا دولة النحاس باشا بل ليحدثنا مكرم باشا، ما هذه النغمة التى تظهر فى أوقات معينة وساعات الخطر الشديد.

 

ولم يكن مكرم باشا وحده هو القبطى أليس واصف بطرس غالى باشا قبطيًّا مثله بل وأعرق منه فى القبطية، ولماذا لا يقال أن هناك نزاعًا بين واصف باشا غالى وغيره من الأعضاء وأن المسألة مسألة قبطى ومسلم.

 

هنا لقد أصبحت المسألة مسألة مكرم وغير مكرم.. دعونا نواجه الحقيقة بصراحة.

 

إن التفريق بين العنصرَيْن معناه بذر من بذور الفتنة العمياء والثورة الهوجاء وهى جريمة منكرة كما يقول دولته بل لعلها أنكر الجرائم، ولكن هذه الجريمة لم يرتكبها سواه للأسف الشديد.. فيا عجبًا لمن يرتكب جرمًا، ويحمل الأبرياء  وزره، ويأخذهم بتبعيته.

 

زعموا أن لصًّا اقتحم دارًا ليسرق، حتى إذا هّم بالفرار غانمًا إذا بأصحاب الدار يفاجئونه متلبسًا بجريمته فضاقت به السُّبُل للنجاة وأسقط فى يده.

 

ولم يَرَ إلا أن يشعل النار فى المنزل، حتى ينصرف سكان الدار عنه إلى إخماد النار.

 

وهذا ما يفعله الآن النحاس باشا وزميله مكرم باشا!

 

ضُبطا متلبسَيْن بأخطائهما وتعاظمهما على مَن هم أصدق منهما وطنية، وأنزه منهما سيرة، وأنبل منهما وطنية، فلم يَر إلا أن يشعل نار الفتنة لتشغل البلاد بها عن الانقضاض من حوله. أمّا اللص فأفلح فى النجاة.

 

ولكن النار أحاطت بدولة رئيس الوزراء، فأصبح وزره وزرَيْن وجرمه جرمَيْن.

 

وهل يحيق المكر السيئ إلا بأهله؟.

 

“روزاليوسف” نشر في العدد 495