حديث المئة عام فى صالون إحسان
دروس "العصر الذهبى" للمجلة
عادل حمودة: النجاح كافر والصحافة سيدة متوحشة
بمجرد وصول الكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة إلى مجلة «روزاليوسف»، بَعد نحو 30 سنة من الغياب؛ استعاد كل الأساتذة الكبار والأسطوات شبابَهم، تذكّروا اجتماعاتهم مع الأستاذ، و«روزا» فى عصرها الذهبى، لحظة واحدة أعادت شريط العمر إلى الوراء 3 عقود.. وبَعد أن تفرّقت بهم السُّبُل لصُنع تجاربهم الشخصية الناجحة.. صارت كل النجاحات لا شىء أمامَ لمعة عيون الشباب، وشغف اللحظات الأولى.. وحماس الأعداد «اللى كسّرت الدنيا».
أدار الندوة: أحمد إمبابى – رئيس التحرير
أعدها للنشر: إبراهيم محمود وعبدالله رامى

لحظة لا تنتمى أبدًا لنستولوجيا أو رغبة فى استعادة الماضى؛ بل طاقة فى إحيائه.. نظرة لمستقبل المَجلة وهى فى عام المئة.
عندما دخل الأستاذ عادل حمودة إلى مكتب رئيس التحرير؛ رأيت وجه السّت روزا وتمثالها المُعلق يبتسم.. فذهبت للأستاذ محمد هانى لأخبره، كونه الوحيد الذى يصدق فى تعبيرات وجه السّت عن الفرحة والغضب.. فرد سريعًا: «شافت حد تعرفه».
أمّا الأستاذ عادل؛ فقد استعاد أيضًا سنوات عمره ومَجده الصحفى فى أنجح التجارب التى صَنعها، كان أشبه بـ«ولىّ» يلتف حوله المُحبون، وفقيه ينتظر الجميع كلمته، الكل فى انتظار أن يتحدث عادل حمودة.
وبعد أجواء الترحاب والفرحة وابتسامة السّت.. التف الحضور فى قاعة إحسان عبدالقدوس؛ لسماع حديث الأستاذ.. عن دروس الماضى ومواقفه ومعاركه.. ورؤية المستقبل وسط تحديات الصحافة.
وقبل أن يتدخل الحضور بسؤال من هنا أو تعقيب من هناك، نترككم أولاً مع حديث الأستاذ.. وفضّلنا أن يكون كما هو، على لسانه، يتحدث إلينا وإليكم جميعًا.. دون تدخل أو وساطة الكلمات ثقيلة الدم مثلما قال وأضاف وأوضَح.
تبدأ القصة فى اليوم التالى لقرار خروجى من «روزاليوسف» ونقلى للأهرام، حين كنت برفقة الأستاذ محمد حسنين هيكل أقنعه بضرورة تدوين مذكراته. فى الوقت نفسه، كان البعض يردد أنى أخفى زعلى من القرار، لكنى أؤكد أن السبب الوحيد للضيق وقتها هو شعورى بأن الجيل الذى تولى المسئولية فى المؤسّسة لم يكن وفيًا لتاريخ وإنجازات مَن سبقوه.
لم يكن لدَى القيادات الجديدة الحد الأدنى من التقدير؛ بل على العكس.. النجاح كان عنصر قلق بالنسبة لهم. هذا الوضع خلق حالة عصبية داخل المؤسّسة تجاه النجاح وتجاهنا شخصيًا.
الأمر الذى أدى إلى ابتعاد الناس عن التواصل معى خوفًا من الإدارة الجديدة، لكن القدر أحيانًا له تناقضات مضحكة؛ فالأستاذ محمد عبدالمنعم جاء إلى «روزاليوسف»، بينما ذهبت أنا للأهرام.
أهم درس تعلمته هو ألا تتحول الخلافات إلى معارك شخصية «خناقات».. إذا رأى رئيس التحرير أن الظرف السياسى لا يسمح بنشر موضوع؛ فلا تجعل من الأمر قضية حياة أو موت.. النجاح فى النهاية هو نتاج جهد جماعى متكامل، وليس وليد موضوع واحد عظيم أو عشرة آلاف موضوع.
طبعًا أتوجَّه بالشكر والتقدير لكل مَن يصف تجربتى بأنها «مَدرسة» أو «تجربة رائدة»، لكن أقسِم بالله العظيم أن هذا الوصف غير دقيق. لعلكم لم تعاصروا تجارب سابقة، فبدا لكم الأمر مختلفًا. ما قمت به كان أشبه بعملية إحياء أو بعث لطبيعة المَجلة، لطبيعة «روزاليوسف» التى تكمن فى جينها الوراثى الذى يعلّم الصحفيين كيف ينجحون. وعندما يسألوننى عن «خطتى»، أقول بكل صراحة: لم تكن هناك خطة واضحة المعالم، ولا كنا نعرف ما سنفعله بالضبط.
روزا بين رئيسين
هناك قصة خفية وراء الكواليس، حدثت عام 1991. فى ذلك الوقت، كانت مصر تشهد عنفًا وإرهابًا. فى معرض الكتاب بشهر يناير، الذى افتتحه الرئيس مبارك، كان برفقتنا صلاح حافظ وفتحى غانم وأحمد التهامى ولويس جريس. فاجأ الرئيس مبارك الأستاذ صلاح حافظ بسؤال مباشر:
«يا أستاذ صلاح؛ إيه هى روزاليوسف اللى ممكن تحارب الإرهاب؟ هو انتو المستنيرين بجد؟».
لقد كان مبارك يريد أن يتخذ من الصحافة سلاحًا. صلاح حافظ بذكائه التقط الإشارة واعتبرها تكليفًا، وأجاب: «يا ريس سِيبلِى الموضوع ده».
هذا المشهد يحمل مفارقة تاريخية مذهلة.. رئيس دولة يطلب من صحيفة أن تنجده من أزمة الإرهاب. بالمقارنة بمشهد سابق أيام السادات؛ حيث كان الرئيس يرى أن المَجلة يجب أن تُخلى من كوادرها، وجاء بأشخاص لا علاقة لهم بالصحافة.
وعلى عكس الشائع، ليس صحيحًا أن إدارة «روزاليوسف» عام 1977 تغيرت بسبب «مظاهرات الخبز»، هذا كلام شائع وغير دقيق، فالإقالة حدثت بعد المظاهرات بأربعة أشهُر تقريبًا.
السبب الحقيقى المباشر كان تقريرًا نشرته المَجلة نقلًا عن صحيفة «هيرالد تريبيون»، وهى الطبعة الأوروبية من «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، يتضمن دعوة للسادات للذهاب إلى إسرائيل لإنقاذ نظامه واقتصاده.
نحن فى «روزاليوسف» لم نصدق هذا الكلام حينها لصعوبة تصوره، لكننا نشرنا نص حوار آخر تم بين السفير المصرى سعد الشاذلى والسفير الإسرائيلى فى لندن، وهى المادة التى أدت إلى مصادَرة المَجلة.
المفارقة الغريبة أن الوثيقة التى كنا نحذر منها وننشرها، تم تداولها وترجمتها بتعليق من صلاح حافظ، ليجد نفسَه فى وسط المعركة.
أناوصلاح حافظ
فى أحد اللقاءات مع الأستاذ صلاح حافظ بعد الإفطار، قال لى: «عندى خبرين، واحد كويس وواحد وحش، نبدأ بالوحش».
الخبر الوحش: «عندى كانسر فى الحنجرة».
الخبر الكويس: «أنا بطلب إنك تبقى مسئول عن تحرير روزاليوسف». رديت عليه: «مش متفائل إنى أقدر أشتغل مع الإدارة الموجودة». فكان رده بذكاء يحدد الهدف:
«أنا مش قلقان من إنك هترفع توزيع المَجلة؛ لكن مهمتك الأساسية هى إعادة إحياء روزاليوسف التى يجب أن نكون مطمئنين لتحققها قبل أن نرحل».
قضينا نحو عام (1991-1992) فى التفاوض مع الإدارة. كان شرطى الوحيد لتولى المسئولية هو: قرار النشر لى.. وقرار التقدير المالى لى.
والغريب أنهم وافقوا بعد عام. فى ذلك الوقت، كانت مبيعات «روزاليوسف» نحو 4000 نسخة، وكان دخل الإعلانات ضئيلاً جدًا. بدأنا بتمويل التجربة من التوزيع نفسه.
أول خطوة كانت تأسيس هيكل تحرير لأول مرة فى تاريخ المَجلة. كانت مهمة رئيس تحرير المَجلة عبارة عن «شخص يجلد» الموضوعات، أو مجرد شخص يكتب موضوعًا. حوّلنا هذا الوضع إلى هيكل يضم «ديسك مركزى وأقسام متخصصة».. من خلال إعطاء المسئوليات والصلاحيات للكوادر الشابة، والسماح لهم بتولى مهامهم دون تدخل مباشر فى التفاصيل.
ما سأقوله الآن قد لا يرضى أى رئيس تحرير.. لم أكن أقرأ المَجلة إلا بعد أسبوع من نشرها!.
كان السبب فى ذلك أننى أردت الحفاظ على نفسى من الانخراط فى التفاصيل اليومية، والخوف من التحول إلى رقيب مباشر. قيمة رئيس التحرير ليست فى التغطية على الأخطاء أو المراقبة اللصيقة؛ بل فى إدارة المسألة، وأن تكون قيمته وقيمة مساعديه أعلى من قيمة الوظيفة نفسها.
كنت أعرف أن المَجلة تسير على الطريق الصحيح «إذا جالى تليفون الصبح بيصحينى من النوم، يبقى اعرف إن الجورنال كويس».
أرى أن مستقبل «روزاليوسف» يكمن فى أن يسترد الصحفى خصائصه المفقودة. أحيانًا أقرأ مقالات فى المَجلة فأجدها مليئة بالمعلومات ولكن «ما فيهاش روح روزاليوسف».
ورأيى أن الصحفى الناجح فى العصر الحالى يجب أن يجمع بين ثلاثة أدوار:
باحث أكاديمى ومدرس ابتدائى.. ولغة الأديب.
والمقالة فى رأيى هى «تقرير معلومات» ينفرد بحقائق مختلفة ومكتوب بأسلوب مناسب.
المطلوب منا لنكون مطبوعة ناجحة هو أن نرتب جدول الأعمال الأسبوعى للبلد، وأن نكون مؤثرين فى رسم خريطة الاهتمامات العامة.
الصحافة المصرية اليوم تعانى من غياب التحقيق الصحفى العميق الذى أصبح فضيلة غائبة. كان هذا النوع من العمل يتطلب إمكانيات ضخمة ومجهودًا هائلاً، كما رأينا فى تقارير كبرى مثل تحقيق «نيويورك تايمز» الذى تناول قضية استخدام أموال الزكاة والتبرعات لتمويل عمليات إرهابية فى أمريكا؛ حيث استعانت الصحيفة بأكثر من صحفى من عدة جهات لرصد القصة والشيخ بطلها.
فى تجربتنا، عوّضنا النقص فى الإمكانيات المادية بتوظيف البدائل البشرية، فبدلاً من أن يعمل صحفى واحد على تحقيق، كنا نخصص عشرة صحفيين للعمل على موضوع واحد، مما يضمن عمق التغطية وتعدد زواياها.

محمد هانى: تجربة عادل حمودة كانت مدرسة الصحافة المصرية بالكامل
القاعدة الذهبية للكتابة الصحفية
هناك جملة شهيرة يجب أن نتوقف عندها: «نحن نكتب بصعوبة كى يقرأ القارئ بسهولة».. هذا يعنى أن المجهود الأكبر يقع على عاتق الكاتب لتوصيل المعلومة بوضوح.
وهناك اختبار بسيط ومهم لمعالجة ركاكة الأسلوب.. على الكاتب أن يقرأ مقالته بصوت عالٍ لنفسه.. عندها سيكتشف بنفسه:
هل يضايقه السّرد أم يستمتع به؟
هل يشعر بأن الجُمَل تقف فى حلقه أو فى أذنه؟
هل سيتمكن من إكمال القراءة بصوته العالى أم سيتوقف؟
إذا قرأت مقالًا كتبته وأنت سعيد به، ثم اكتشفت أنه ملىء بـ«الخشب والأسمنت» فـ ابدأ بعقاب نفسك وأعد الكتابة.. إذا وجدت أن الجمل تقف حائلاً بينك وبين الاسترسال؛ فعليك أن تعود فورًا للكتابة من جديد.
كنا نتنافس باستمرار على الستايل، وكنا نكتب المقالة الواحدة خمسين مرة حتى نصل إلى المقدمة الصحيحة والصياغة المُثلى. هذا هو الاجتهاد الحقيقى فى الكتابة.
ينهى الأستاذ عادل حمودة حديثه بكلمة «كفاية كده بقى».
فيلتقط الأستاذ أسامة سلامة أطراف الحديث ليطرح عليه سؤالاً عن مصير الصحافة والصحفى فى عصر الذكاء الاصطناعى الذى يتطور يومًا بعد يوم.
يجيب الأستاذ: إن ما نتحدث عنه اليوم من تحديات تواجه الصحافة قيل مثله تمامًا عند ظهور التليفزيون، وعندما دخل الراديو حياتنا، وعندما انتشرت السوشيال ميديا.
لكن العقبة الأساسية التى لا تزال قائمة حتى الآن هى الخوف من حرية الصحافة. هذا هو القيد الجوهرى الذى يكبل عملنا ويمنعنا من تحقيق كامل إمكانياتنا.
يجب أن تتوافر مساحة أكبر من «البراح» والحرية للصحافة لكى تستطيع التعبير عن نفسها بصدق ومسئولية.
وفى هذا السياق؛ يجب أن نتذكر كيف استطاعت «روزاليوسف» أن تخدم الدولة وتنقذها فى لحظات حرجة، وبالتحديد عند الحديث عن المبادرة التى أطلقتها مجموعة الشيخ الشعراوى والشيخ الغزالى للوساطة بين الإرهاب والدولة.

النجاح هو نتاج جهد جماعى متكامل وليس وليد واحد عظيم إذا حصلت على زواية أو مدخل قوى لموضوع قلا تتركه وتابعه من كل الزوايا .. عادل حمودة

أزمة الوساطة مع الإرهاب
وعن تفاصيل تلك القضية يخبرنا الأستاذ عمرو خفاجى:
الدولة لم تكن تشعر بوطأة الصراع مع الإرهاب بالشكل الكافى، ولم تكن كلمة «إرهاب» مستخدمة بكثرة، وبالنسبة لنا فى «روزاليوسف» كانت العلاقة مع الإرهابيين واضحة ولا تحتاج إلى تفسير.
الحقيقة أن المسئولين فكروا سريعًا فى أول حل خطَرَ ببالهم، الوساطة والتفاوض. وقد شكلوا مجموعة لهذا الغرض، على رأسها الشيخ الشعراوى.
وكان لزميلنا الأستاذ إبراهيم خليل دَور عظيم فى هذه القصة، بدأت محاولات الوساطة والمساومة فى ندوة «بسيطة جدًا» لا أهمية لها داخل الحزب الوطنى.
فى هذه الندوة؛ جرى الحديث عن أن وزير الداخلية آنذاك، التقى بالشيخ الشعراوى للبدء فى وساطة بين الإرهابيين والدولة.
بصراحة؛ كان هذا بمثابة إعلان هزيمة واضحة للدولة.
الجهة الوحيدة التى تصدت لهذا الأمر بشجاعة كانت مجلة «روزاليوسف» من خلال الأستاذ إبراهيم خليل. وكانت نتيجة هذا الكشف الصحفى إقالة اللواء عبدالحليم موسى يوم جمعة.
بعد شهرين من تلك الواقعة، التقينا بمدير مصلحة السجون وكشفنا تفاصيل الحوار بالكامل، كيف خرج القيادى الإرهابى عبود الزمر من السجن فى سيارة معينة، وذهبوا به إلى مصلحة السجون حيث أحضروا له «كباب» من مطعم أبو شقرة، وهو صديق الشيخ الشعراوى. عبود الزمر، المسجون منذ عام 1981، سرد تفاصيل التغيرات والملاحظات التى رآها بعد كل هذه السنوات. وكان سبقًا كبيرًا نشرناه بكل تفاصيله.
يكمل «خفاجى» حديثه عن العصر الذهبى لـ«روزاليوسف»:
تجربة «روزاليوسف» فى الفترة من 1992 إلى 1997 كانت فارقة فى الصحافة المصرية لسبب جوهرى؛ أنها صنعت «المعنى» فى الصحافة المصرية وجعلتها تشتبك مع المجال العام.
سأضرب أمثلة بسيطة.. «النقابات» كانت الصحافة تكتب عن حوادث النقابات بشكل تقليدى، لكن عندما تناول زميلنا الأستاذ أسامة سلامة الموضوع، لم نعد نتحدث عن مجرد خلافات مهنية، تحول النقاش إلى قضية المواطنة وكيف «يشارك القبطى» فى النقابات. «روزاليوسف» أخرجت النقاش إلى الساحة العامة. لقد جعلت مطبخ نقابة المحامين قضية سياسية وعامة، لا مجرد شأن مهنى.
وملفات الفن والثقافة أيضًا.. لم تكن لدينا قبل الأستاذ محمد هانى تغطية فنية بهذا العمق.. لكن الفكرة العامة هى أن «روزاليوسف» اشتبكت مع المجال العام من أجل المجال العام.. وهذا الاشتباك لم يقتصر على السياسة؛ بل امتد إلى الثقافة والفن. فقمنا مثلًا بعمل مبادرة «نشر النصوص الممنوعة» للرّد على مفاهيم المصادَرة ومنع النشر.
خلاصة التجربة؛ خمس سنوات من 1992 إلى 1997 كانت فارقة؛ لأن التجربة لم تؤثر فقط على الصحافة؛ بل أثرت على صناعة المحتوى الإعلامى ككل وقدمت نجومًا فى كل المجالات الإعلامية والتحريرية.
اجتماع.. تحرير تأسيسى
وفى تعقيب للأستاذ محمد هانى قال: رغم أن الأستاذ «عادل» لم يرَ فى تجربته مَدرسة صحفية؛ فإن الحقيقة مختلفة. هى لم تكن مجرد مَدرسة داخل «روزاليوسف» فقط؛ بل كانت مَدرسة للصحافة المصرية بالكامل. كانت بمثابة محرك ودافع لتحول الصحافة التقليدية كلها؛ بل فتحت «روزاليوسف» الطريقَ لظهور الصحف المستقلة، التى جددت شباب الصحافة المصرية بناءً على تجربتنا.
الأستاذ «عادل» يقول إن الناس سألته هل كان يخطط لشىء حين جاء إلى «روزاليوسف»، وأنه لم تكن لديه «خطة» بالمعنى التقليدى.
لكننى أؤكد أن ما حدث لم يكن عشوائيًا. ربما لم تكن هناك خطة مكتوبة، لكن «التوجه الاستراتيجى» بتعبير عسكرى كان واضحًا ومحددًا فى ذهنه بوضوح ساطع.. هذا التوجه انتقل إلينا كفريق عمل وإلى الجيل الذى جاء بعدنا.
وكان هناك أمر العمليات اللحظى كان يُنفذ بفاعلية من خلال التفاعل اللحظى مع الأحداث.
أشار الأستاذ «عادل» إلى أن المفاوضات استمرت لمدة سنة قبل توليه المسئولية، وهذا حقيقى، لكن خلال هذه السنة (من 1991 إلى 1992)، لم يكن غائبًا. لقد كان يأتى إلى المَجلة ويُشارك معنا.
من وجهة نظرى؛ هذه السنة كانت بمثابة كتابة برنامج عمل متكامل لم يُتفق عليه رسميًا. أنا متأكد أنه لم يمسك قلمًا لتدوين خطة، لكنه فى هذا العام تعرّف على الشخصيات، اكتشف المهارات، وعرف كيف يوظفها. لهذا، عندما تولى المسئولية فى عام 1992، كان جاهزًا للعمل، ولم يحتج لاكتشاف أى شىء جديد.
لقد بدأنا العمل الفعلى من اللحظة الأولى، وحدث التطور.
بأهداف واضحة ومُعلنة للفريق.. الهدف الأول: الوصول إلى 20 ألف نسخة، ثم 40 ألف نسخة، وصولًا إلى 100 ألف نسخة كمرحلة لتطوير الموارد.
هذا التطور حدث فى زمن قياسى، لكنه حدث بهذا التسلسل المحدد.
إن الكلام الذى قاله الأستاذ «عادل»، رغم أنه يروى ما عشناه معه؛ يمكن تطبيقه بالكامل فى اللحظة الراهنة.
هذه الندوة فى الحقيقة بمثابة «اجتماع تحرير تأسيسى» لطريقة التفكير، فى حضور أساتذتنا وزملائنا وأجيالنا الجديدة.. تأسيس لمنهجية جديدة تهدف إلى صُنع صحافة تحترم نفسَها وترى لنفسها دورًا، وإدراك كرامة كلمة «صحافة» وكرامة مؤسّسة عريقة مثل «روزاليوسف».

عمرو خفاجى: تجربة عادل حمودة صنعت “ المعنى” فى الصحافة المصرية وجعلتها تشتبك مع المجال العام
فى اعتقادى؛ إذا غابت هاتان النقطتان؛ فلا يجب أن نتحدث لا عن صحافة ولا عن مستقبل لـ«روزاليوسف». هذه المَجلة، مَهما حدث لها، قادرة دائمًا على إحياء نفسها؛ لأنها فعلًا جينات وراثية متأصلة.
وعن سر نجاح تجربة عادل حمودة فى «روزاليوسف».. يقول الأستاذ أسامة سلامة:
لقد كانت مجموعة الأستاذ عادل مَدرسة حقيقية تَعلمنا فيها كيف نكتسب حريتنا ونتخذ الخطوات الجريئة نحو الأمام. كان الدرس الأهم هو ألا نتوقف عند الخطوة الأولى خوفًا من الثانية، فهذا التردد هو ما يدفعنا لخوض الكثير من المعارك. لكن معاركنا لم تكن يومًا من أجل مصالح شخصية أو مكاسب ضيقة؛ بل كانت معارك من أجل المستقبل.
كان هدفنا الأسمَى أن نرى مجتمعًا يتقبل حرية الرأى والتعبير، وأن تتحرّر الطاقات التى يسعى البعض لتجميدها؛ لمنع حالة الجمود المجتمعى. كانت رسالتنا هى تحرير المواطن من فكرة التحريم التى كبّلته، وتذكيره بأن الأصل هو الحلال، ليتعلم ويعيش بلا خوف.
ولهذا؛ خضنا معارك عديدة كلّفتنا الكثير؛ ولذلك كان الأستاذ «عادل» ومجموعة من كتّاب «روزاليوسف» على قوائم اغتيالات الجماعات الإرهابية. كما رُفع عدد كبير جدًا من القضايا على «روزاليوسف» من قِبل المحافظين والمتقربين منهم، وكان هدفهم الواضح هو إيقافنا. لكن بالنسبة لنا؛ كان الهدف الأهم والغاية الكبرى التى جعلتنا نتحمل كل ذلك هى أن نرى الحرية واقعًا ملموسًا.
قوة النجاح
هنا وجّه رئيس تحرير المَجلة، أحمد إمبابى، سؤاله للأستاذ «عادل»، عن طريقته فى تجاوز تلك العقبات والتعامل مع التحديات والقيود القانونية.
فرَدّ الأستاذ: النجاح يمنحك قوة، لكنه يضعك أيضًا فى مواجهة السُّلطة.. أتذكر ذلك اليوم، أول يوم فى رمضان، عندما ذهبت معى الأستاذة أمينة شفيق، فقالت للمحقق ببراعة: «نريد إنهاء الموضوع سريعًا، فقد صنعت صينية بطاطس والناس ينتظروننا على الفطار!». لكن المحقق أجاب بجدية أن القضية «فيها حبس». أجبت حينها ببساطة: «وماذا فى الحبس؟ ليس لدىّ مانع».

الصحافة اليوم تعانى من غياب التحقيق الصحفى العميق الذى أصبح فضيلة غائبة.. عادل حمودة
بدأت التحقيقات، وكانت المشكلة الكبرى أن النيابة العامة وقتها كانت تتبع المحامى العام، الذى كان له رأى مسبق فى القضية. ولكن لحُسن حظنا، كان المستشار رجاء العربى هو النائب العام، وكانت له توجيهات محددة أثناء التحقيقات.
دخلت إلى المحقق، الذى كان لطيفًا جدًا، وعرفتُه فيما بعد. فى تلك الفترة، كان المحامى العام يقول لى: «يا أستاذ عادل، النيابة نيابتك»، من كثرة ما ترددنا للتحقيق معنا.
فى الحقيقة؛ كان المناخ العام غير متقبل لفكرة حبس الصحفيين لأسباب تتعلق بالنشر. كان الحبس غالبًا يأتى فى قضايا السب أو القذف الشديد، لكننا لم نشتم أحدًا. كل ما فعلناه هو أننا اقترفنا «شيئًا يخص النشر».. وقد ساعدنى كونى نائب رئيس التحرير؛ حيث لم أكن المسئول المباشر، مما جعل موقفى القانونى أقوى فى مواجهة المحقق.
أنا تعرضت لاغتيالات معنوية طوال مشوارى، وخضت صدامات عنيفة مع جهات عديدة، لكنى لم أتناول قرصًا مهدئًا واحدًا فى حياتى.
كنت أعرف دائمًا أن النجاح كافر، لا دين له ولا مِلة، لا يعترف بالصداقات أو العلاقات إن عرفت طريقه، فامضِ فيه ولا تلقَ بالاً لأحد.
الفنان الكبير عمرو سليم طرح عدة أسئلة فتحت الباب لمعرفة أسرار أكثر عن تجربة عادل حمودة.. حيث قال:
عندما توليت إدارة «روزاليوسف»، كيف استطعت أن تحدد وتكتشف هذا الكم من الشباب الموهوب؟ وكيف عرفت أن توظف كل شخص فى مكانه المناسب تمامًا؟
كما أتذكر جيدًا اجتماعك الشهير الذى قلت فيه إنك غير خائف على التجربة من خطر يأتى من الخارج، لكنك خائف عليها من «هدف من الداخل».
ماذا كان شعورك تحديدًا عندما تم استهداف التجربة فعلًا بعد فترة قصيرة؟ وما هى التهمة التى وُجّهت إليك فى تلك المرحلة تحديدًا؟ وكيف تابعت ما حدث بعد أن أزيح جميع الشباب الذين وضعتهم فى مناصبهم، وكيف فسّرت عودتهم بعد ثلاثة أشهر فقط؟
بهدوئه المعهود رد الأستاذ «عادل»: يكمن السّر فى القيادة الناجحة بمنح الشباب مساحة للعمل والنمو، دون تدخل مباشر، كما حدث مع محمد هانى وعمرو خفاجى وإبراهيم عيسى. إنها عملية ثقة، تبدأ بإعطاء الشخص مكانًا يثبت فيه نفسه ثم نتركه يعمل، دون تدخل.
أحد أهم الدروس التى تعلمناها فى «روزاليوسف» هو أن نذهب عكس الإصدارات الأخرى، فإذا سقطت عمارة، «الأهرام» سيقدم تقريرًا محايدًا عن الأرقام الرسمية، و«أخبار اليوم» ستبحث عن قصة إنسانية مؤثرة كـ «معجزة نجاة طفل رضيع»، أمّا «روزاليوسف» فكانت تذهب مباشرة للبحث عن «الفساد وراء سقوط العمارة». نحن نبحث عن المشاكل العميقة وحقوق الناس.
فيما يخص الخوف من «الهدف من الداخل»، كنت واثقًا أن الكفاءات ستعود إلى مكانها مَهما تغيرت الأمور، وهو ما حدث.
اصنع لنفسك مؤسسة
وفى حديث بين جيلين.. جيل صَنع تجربته الذهبية وجيل لا يزال يتحسّس سنواته الأولى فى مَجلة «روزاليوسف»؛ سأل عبدالله رامى الأستاذ «عادل» عن سر استمراره ودأبه فى العمل رغم كثرة أسباب الإحباط.
قال الأستاذ: يتميز المحرّر فى «روزاليوسف» بتعدُّد مواهبه؛ فهو ليس مجرد صحفى؛ بل هو مشروع روائى، أو كاتب سيناريو، أو شاعر، أو حتى ممثل أحيانًا. هذه المواهب المختلفة هى ما توفر له البدائل باستمرار وتمنعه من الوقوف مكتوف الأيدى.
السّر يكمن فى قاعدة أساسية «لا يمكنك أن تعاند الواقع؛ بل عليك أن تتجاوزه».
بعدما تركت «روزاليوسف»، أصبحت مسئولاً عن حياتى. لم يكن هناك عمل بنفس كفاءة «روزاليوسف» ينتظرنى، فكان علىّ خلق بدائلى الخاصة. بدأت أعمل بجد من الثامنة صباحًا حتى السادسة مساء فى دار الكتب، معتبرًا العمل كمَلاذ. قمت بتأليف كُتب ومجموعة حلقات تُباع لدول الخليج، بالإضافة إلى كتب تتناول الأحداث السياسية.
هذا البحث المستمر عن البدائل هو ما يجعلك مستمرًا وناجحًا. العمل الجاد يصبح مثل الإدمان؛ فبمجرد أن يتمكن منك العمل، لا يمكن لأى شىء أن يوقفك. ولهذا، عندما تركت «روزاليوسف»، بدأت بالعمل على مشاريع أخرى.
للأسف، فى مصر، من النادر أن تُقتل مرة وتقوم مجددًا. لكن النهوض يكون ممكنًا عندما تشعر أنك أكثر استقلالية.
صحيح أنك تنتمى وتحب «روزاليوسف» بقدر ما تشاء، لكن يجب أن تصنع لنفسك «مؤسّسة مستقلة». هذا الاستقلال هو ما يجعلك قادرًا على التجرد والتمرّد على أى قيود. وهذا هو الدرس الذى طبقته.
الصحفى الحقيقى مهنته هى حياته، فإذا وقع فى غرام سيدة، فعليها أن تدرك أنها رقم 9 فى حياته؛ لأن الصحافة سيدة متوحشة لا تمنح فرصة للغياب، ولا تقبل أعذارًا كالمرض أو السفر وإن قبلت يومًا؛ فاعلم أنها أدارت ظهرها، ووجدت غيرك لتمنحه حبها.











