الجمعة 31 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
100 سنة روزاليوسف
ذخيرة «روز اليوسف» الحية فى 6 أكتوبر

عندما حاربت الكلمة أيضا

ذخيرة «روز اليوسف» الحية فى 6 أكتوبر

فى أكتوبر تتقاطع الحكاية مرتين؛ مرة حين دوّى صدى العبور على ضفتى القناة عام 1973، ومن قبلها حين وُلد صوت جرىء اسمه «روز اليوسف» عام 1925.. فى شهر النصر خرجت الكلمة الأولى من المطبعة، لتصبح بعد نصف قرن سلاحًا معنويًا يوازى البندقية فى الميدان.. كانت المجلة فى قلب المعركة، لا تكتب عن الحرب بل تعيشها، تسطر بالحبر ما يسطره الجنود بالدم، وتحوّل صفحاتها إلى خنادق من الوعى وشرفات للأمل، لم تكن روز اليوسف فى أكتوبر 1973 مجرد مطبوعة، بل كانت روحًا مصرية تُقاتل بالحرف، وتؤمن أن النصر يُصنع بالكلمة كما يُصنع بالسلاح.



منذ اللحظة الأولى لحرب السادس من أكتوبر 1973، لم تكن روز اليوسف مجرد مجلة تنقل الخبر، بل كانت جبهة أخرى من جبهات النصر.. بالمقال كتبت، وبالرسوم جسّدت، وبالأغنية ألهبت المشاعر، فحوّلت أوراقها إلى ساحة تتسابق فيها الكلمة والصورة واللحن لتوثيق اليوم الفصل.. لم تكتفِ بالتغطية من قلب المعركة، فمن صفحاتها خرجت التحليلات الموثقة، والتقارير الميدانية، والمقالات التى شحذت همم المصريين وروّجت لروح الصمود والانتصار فى معركة الوعي، فشاركت الأمة فرحتها وصاغت وجدانها، لتصبح صفحاتها مرآة حية لزهو العبور ومخزونًا لا يشيخ لذاكرة النصر.

 

نبؤات النصر

 

«ليس ببعيد ذلك اليوم الذى تتحرك فيه طلائع الشعب المصرى لتحرير الأرض»، بهذه الكلمات افتتح الكاتب الكبير يوسف صبرى مقاله، فى أعقاب خطاب الرئيس الراحل أنور السادات، فى سبتمبر 1973، فى الذكرى الثالثة لرحيل الرئيس جمال الناصر.. الأمر كان أشبه بالنبوءة التى دونتها «روز اليوسف» قبل الحرب بأقل من شهر.

 

وقد سبق «صبري»، الكاتب الكبير أحمد حمروش، فقد قدّم واحدًا من أهم المقالات التنبؤية فى الصحافة المصرية بعنوان: «لتكن حرب الستة أعوام».. فى هذا المقال كتب حمروش بثقة أن معركة التحرير لن تتأخر أكثر من ست سنوات، واضعًا تصورًا واضحًا لمرحلة الاستعداد الطويلة والمعقدة، لكنه أكد أن مصر ستخوض حتمًا معركتها لاستعادة الأرض والكرامة.

 

مقال حمروش لم يكن مجرد تحليل عسكرى أو سياسى، بل كان صيحة إيمان بقدرة المصريين على تجاوز آثار الهزيمة والانكسار، وتحويلها إلى طاقة صمود واستعداد. كان المقال بمثابة رسالة للداخل والخارج معًا: الداخل لرفع الروح المعنوية وإشعال الأمل، والخارج لتوصيل أن مصر لا تنسى حقوقها، وأن حرب التحرير مجرد مسألة وقت.

 

وبالفعل، جاء السادس من أكتوبر باليقين لتتأكد تلك الرؤية وأنها لم تكن مجرد حلم أو مبالغة صحفية، وإنما قراءة واقعية للتاريخ والحاضر.

 

العقل المصري والغيبوبة الإسرائيلية

 

يبدو أن الإسرائيليين ما زالوا أسرى طباعهم القديمة منذ 1973؛ فحركتهم المرتبكة تكشف أنهم يعيشون فى انفصالٍ تام عن الواقع -كما وصفهم سفير لدولة غربية كبرى-.. فمن عرفنا أيقن أن النصر حليفنا، ومن عرفهم أدرك أنهم غارقون فى غيبوبةٍ لا إفاقةَ منها.

 

فقد نقل إبراهيم عزت رسالته من نيويورك فى مطلع أكتوبر 1973 –قبل الحرب- عما دار فى اجتماع وزير الخارجية الأمريكى آنذاك هنرى كيسنجر بالسفراء العرب، واللافت هنا تصريحات أحد سفراء الدول الغربية إلى روز اليوسف، قائلا: «الأزمة فى الشرق الأوسط أشبه بالبركان الهادئ، الذى قد ينفجر فى أى لحظة.. الجميع هنا -ربما باستثناء الوفد الإسرائيلي- يعتقدون أن الخطر يتزايد يوما بعد يوم، ويرون ضرورة التوصل إلى عمل ما بالنسبة لهذه الأزمة التى تهدد كيان الأمم المتحدة».

 

ومن موسكو كتب جمال سليم، عن لقاء جمعه بمارشال الجو السوفيتى ألكسندر بوكريشكين الذى قال: «إننى أقرأ عددًا من الكتب عن مصر، وعن الفن المصرى القديم، إن ابنتى فنانة، لذا فثقافتى الآن بشكل خاص تتجه نحو الفن القديم.. وإذا اتجه الإنسان للفن فماذا يقرأ عن هذا سوى الفن المصري».

 

وتابع «بوكريشكين»: «أيضا أنا أقرأ عن مصر المعاصرة، وأعتقد أنكم سوف تحققون النصر.. سوف تحررون أرضكم.. إنكم فى مصر أول من عرف الجيوش النظامية وأول من استعمل أدوات الحرب استعمالا سليما وفعالا.. إن لكم فى تاريخكم وتراثكم أسبابًا قوية».

 

رسائل الحرب

 

لم تكن «روز اليوسف» بعيدة عن ميدان الحرب، فـ«رسائلها» لم تُكتب بالرصاص، بل بالحبر، حين تسللت عبر مقالاتها إشارات لا تخطئها العين، من بين تلك الرسائل برز المقال الشهير للكاتب الصحفى محمود المراغي، الذى نُشر قبيل اندلاع الحرب، فبدت كلماته كأنها نبضٌ سابق للمعركة.

 

لم يكن «المراغي» يكتب عن أرقام الموازنة العامة كخبير اقتصادي، بل كمحلل يقرأ ما بين السطور، إذ كشف أن الأرقام تخفى وراءها استعدادًا غير عادي: زيادات لافتة فى مخصصات الدفاع، وترشيد دقيق فى الإنفاق على قطاعات أخرى. كانت تلك الإشارات كأنها طرق خافت على باب الحرب القادمة.

 

وبذكاء الصحفى الوطنى الذى يدرك قيمة الكلمة فى زمن الصمت، حوّل المراغى تحليله المالى إلى كود وطنى يلتقطه الواعون؛ ففهم القراء والمثقفون الرسالة دون تصريح: المعركة تقترب، والدولة تستعد لرد الاعتبار بعد نكسة 1967.

 

كان ذلك المقال بمثابة نبوءة بالنصر، كتبتها روز اليوسف بحبر من وعى وجرأة، لتسبق الكلمةُ الطلقةَ، وتمهّد الكلمةُ لانفجار الكبرياء المصرى من جديد.

 

“روزا” على الجبهة

 

حين انطلقت صيحة النصر فى ظهر السادس من أكتوبر 1973، لم تكن روز اليوسف مجرد شاهدة على الحدث، بل كانت فى قلب المعركة تؤدى واجبها الوطنى بالكلمة كما يؤدى الجندى واجبه بالبندقية.

 

تحولت صفحاتها إلى ساحة من ساحات القتال، تخوض فيها المجلة ملحمة صحفية استثنائية عبر ما أطلقت عليه «دفتر أعمال القتال فى سيناء»؛ ذلك السجل المفتوح على نبض الجبهة، الذى نقل إلى القارئ كل لحظة من لحظات العبور.

 

كانت المجلة تكتب الحرب كما تُروى البطولات، تُترجم لغة العمليات العسكرية الجافة إلى كلماتٍ مشحونة بالفخر والحياة، تجعل القارئ يعيش المعركة لا يقرأها، يشعر بصوت الدبابات، ويرى العلم يرتفع على الضفة الشرقية.

 

ولم يكن «دفتر أعمال القتال» مجرد توثيق لأحداث، بل صناعة لوجدانٍ وطنيٍ متقد، جسّدت فيه روز اليوسف معنى أن تكون الصحافة جبهةً من جبهات النصر، تكتب التاريخ بالحبر ذاته الذى رُسم به علم مصر على رمال سيناء.

 

حيث كتب المحرر العسكرى لروز اليوسف، عن كيفية اقتحام خط بارليف، وعن سبب فشل الطيران الإسرائيلى فى إصابة جسور العبور المصرية، مؤكدا أن عبور القوات المصرية المسلحة لقناة السويس يوم 6 أكتوبر دخل باب التاريخ باعتباره عملية من أعقد وأشد العمليات وكان مقدرا فى الحسابات العادية أن يصل الضحايا إلى عدة آلاف، إلا أن سر نجاح تلك العملية هو تطبيق مبادئ الحرب تطبيقا سليما، وإعداد خطة العبور على أسس علمية وواقعية سليمة.

 

فيما كتب يوسف الشريف، من جبهة القتال فى سيناء، قائلا: «حين وصلت سياراتنا إلى حافة القنال، امتلأنا ثقة وإيمانا بمصر والإنسان المصري، ونحن نلمح العلم المصرى بألوانه الثلاثة يرفرف فوق تبة عالية على الضفة الشرقية المحررة.. فلم تكن هناك أى معانٍ تعبر عن مشاعرنا ومشاعر الجندى المصرى الذى ظلمته الحرب النفسية والتحليلات الاستراتيجية.

 

أسير بلا وطن

 

لم يكن السادس من أكتوبر مجرد يومٍ انكسر فيه جيش الاحتلال على ضفاف القناة، بل يومًا انكشفت فيه الأرواح من وراء الدبابات، ففيه لم تُهزم إسرائيل بالمدفع والنار فقط، بل بالوعى والاعتراف والندم، وهذا ما وثقه الكاتب الكبير عادل حمودة حين كتب عن موعد تحدد لمقابلة الأسرى الجرحى.

 

فى مستشفى المعادي، حيث يلتقى الألم بالرحمة، جلس الأسير الإسرائيلى جدعون جولدمان، رقيب المدرعات الذى أطفأته الحرب قبل أن يطفئ سيجارته الأخيرة.. ذراع مكسورة، صدر مثقوب، ونظرة تائهة تبحث عن معنى، قال بصوتٍ يشبه الهزيمة أكثر مما يشبه الوجع: «أُصبت فى ذراعى وصدرى فخرجت مستسلمًا للجنود المصريين... لا أعرف لماذا أحارب... والداى يعيشان فى فلسطين منذ سنوات طويلة... أتمنى ألا أعود إلى إسرائيل، لكن هل هناك دولة أخرى تقبلنا؟!».

 

فى تلك اللحظة، لم يكن جولدمان مجرد أسيرٍ فى حرب، بل شاهدًا على سقوط فكرةٍ وقيام وعيٍ جديد، هُزمت إسرائيل مرتين: مرة فى الميدان، ومرة فى قلب جنودها.

 

وهكذا، أعاد أكتوبر أبناء تل أبيب إلى سيرتهم الأولى.. غرباء يبحثون عن وطن، حتى وهم يحملون علمًا.

 

فنون بـ “روح الوطن”

 

بالمقالات والرسومات والأغنيات سطرت روزا اليوم الفصل، فكان للكاريكاتير مساحته الخاصة التى لخصت أيام الانتصار المصرى والانكسار الإسرائيلي، ولم تغب عن الصفحات الشعر والأغنيات التى منحتها المجلة هدية للوطن من خلال العديد من الشعراء، من بينهم كمال عبد الحليم، الذى كتب:

كل جسر على القناة لسينا

قال للرمل أننا ما نسينا

عار يونيو وقد كسانا سنينا

ما ركعنا.. وما فقدنا اليقينا

وبأكتوبر... رفعنا الجبينا

راية حرة.. وفتحًا مبينًا.