نبيل عمر
كوبايلوت: تفتيت الدول العربية كان بديلًا عن عملية السلام!
هذا حوار مدهش مع «كوبايلوت»، برنامج ذكاء اصطناعى فضلته على برامج كثيرة، استكمل به مناقشات نظرية المؤامرة، التى أجريتها مع مجموعة من الصحفيين،ونشرتها فى الأسبوع الماضى، وأثبتنا أن النظرية غربية المنشأ، وأكثر انتشارا فى المجتمع الأمريكى لتفسير أحداث كثيرة غامضة، مثل قضية مقتل كنيدى 1963، والهجمات الإرهابية على واشنطن ونيويورك فى 2001، وملفات ابستين الجنسية المثارة حاليا والتى تمس رؤساء دول وسياسيين وشخصيات بارزة فى الفن وعالم المال، ويحاول الكونجرس الإفراج عنها لكن الرئيس دونالد ترامب الوارد اسمه فى الملفات يقاتل دون ذلك، خاصة بعدما ثبتت علاقة إبستين الذى انتحر فى السجن، بالموساد الإسرائيلى!
المهم الحوار مع كوبايلوت كان سلسلا، رفض نظرية المؤامرة وكاد يسخر منها، لكن حين تعلقت الأسئلة بدول الشرق الأوسط وما يجرى فيها، وحلقت على أجنحة من المنطق الصارم أقر بالنظرية وفسرها، بل دلل عليها بمعلومات كثيرة..
فى أول الكلام قال: إن نظرية المؤامرة «تعبر عن مخاوف عميقة داخل المجتمعات، مجرد روايات تفسر عدم اليقين أو التغيير السريع، مثلا تعكس نظرية المؤامرة فى الشرق الأوسط الإرث الاستعمارى والشكوك حول التدخل الأجنبى، وفى أوروبا تدور حول الجمعيات السرية والنخب المالية، وتعكس نظريات المؤامرة فى كل منطقة جراحها التاريخية وصراعاتها على السلطة».
سألته: هل تنكر المؤامرة، وتقول إن نظريتها أوهام فى أوهام؟!
رد: لا أنكر المؤامرة بشكل قاطع، ما أفعله هو تسليط الضوء على الفرق بين المؤامرة المثبتة بأدلة التواطؤ والتستر، ونظريات المؤامرة التى يسودها الشك، وأدلتها معلقة أو غائبة، مثلا فى قضية أبستين، مؤامرة الاتجار الجنسى بالقاصرات مثبتة، لكن التكهنات حول قائمة «الشخصيات الكبيرة» المتورطة وحمايتها لا تزال غير مؤكدة.
قلت: هذا الفارق لا يصلح للمقارنة، فالمؤامرة المثبتة بالأدلة تحولت إلى حقائق وأحداث، لكن تظل تفاصيل مؤامرات كثيرة مجهولة ويصعب كشفها، ودعك من أمريكا وأوروبا، وتعالى إلى الشرق الأوسط، هل ما حدث فى السودان وليبيا وسوريا ولبنان واليمن فى السنوات العشرين الأخيرة –ومازال يحدث- مجرد مصادفات خاصة بهذه المنطقة من العالم دون غيرها؟
رد: أنماط الصراع الإقليمى فى المنطقة فى العقدين الأخيرين ليست مصادفة، الاضطرابات فى هذه البلدان خليط من دوافع بنيوية وشبكات نفوذ متداخلة تجعل أزمات المنطقة مترابطة وليست عشوائية، وبالتعمق تجد خيوطا أساسية تتمثل فى مظالم محلية وإخفاقات فى الحكم، يسحبها الرعاة الخارجيون وينسجونها لتعزيز مصالحهم الخاصة، فيطول الصراع، يعنى هناك ضعف مؤسسات وفساد وتهريب ومحسوبية وبطالة بين الشباب وسوء خدمات وأجهزة أمنية منقسمة وصفقات بين أصحاب النفوذ والثروة تستبعد الجماهير الواسعة، وهى عناصر تسبب هشاشة فى الحكومات، وتضعها فى أزمات تتراكم دون حل، فتأتى الجماعات المسلحة وتعمل على ترسيخ سيطرتها، مما يخلق «أسواق صراع» ذاتية الاشتعال تقاوم السلطة المركزية.
نهيك عن دورات الاحتجاج الشعبية التى تتأرجح بين آمال الإصلاح والقمع، هذه بيئة تجتذب الدول الخارجية لدعم الفصائل المتنازعة، بالمال والسلاح والتدريب ووسائل الإعلام، فتنقلب النزاعات المحلية إلى صراعات بالوكالة، الحرب فى السودان مثلا اجتذبت داعمين أجانب متنوعين عملوا على استمرارها.
انفجار الأزمات فى فلسطين وسوريا ولبنان والسودان واليمن فى وقت واحد، شتت الانتباه الدولى، فتقلص الاهتمام بها، وضعف الضغط الدبلوماسى والتمويل اللازمين للحلول.
سألته: هل يمكن أن توضح سمات أزمة كل دولة؟
أجاب: العراق تتقاطع فيها صدمات ما بعد داعش وسياسات الفصائل المتنازعة، ناهيك عن التعددية الأمنية. سوريا واليمن: تَدَخُل متعدد الأقطاب وخطوط مواجهة متعددة الطبقات، فتحولت الصراعات إلى استزاف وسط سلطة مجزأة. ليبيا: حكومات وتحالفات أمنية متنافسة جعلت تجزئة الدولة مستمرة، تغذيها رعاية خارجية ومعارك حول الموارد، فأصبح إعادة توحيد الدولة قضية هشة. لبنان: الانهيار المالى والجمود السياسى يتفاعلان مع الضغوط الإقليمية، مما يجعل الدولة غير قادرة على امتصاص الصدمات أو المساءلة.
قلت: يبدو الأمر منظمًا للغاية، فلماذا المؤامرة ليست الكلمة الصحيحة لوصف ما يجرى؟
قال: البيئة نفسها باضطرابها وفوضويتها صنعت حوافز فى هذه الدول، تجعل الفاعلين الخارجيين يسعون إلى مكاسب استراتيجية لهم، من خلال وكلاء محليين، ولا يوجد مركز قيادة مخفى واحد لهذه الأحداث، وهناك صعوبة فى تتبع الدعم الأجنبى والتمويل غير المشروع والروابط مع أجهزة المخابرات.
وهناك إهمال شديد فى التعامل مع هذه الصراعات نتج عنه مزيد من العنف، وهذا يعزز الانطباع بأن «شخصا» ما يريد استمرار الفوضى، لكن لو حدث أن المؤسسات أعيد بناؤها وساد القانون، وتوحدت الأجهزة الأمنية وخضعت للمساءلة، سيحدث إصلاح واستقرار، لكن دون ذلك ستحافظ المصالح الخارجية على دوام الصراعات فى المنطقة، ويصبح رسم خريطتها مرهونًا بمن يمول من، وكيف تتدفق الموارد، وأى أنظمة إعلامية قادرة على إشاعة رؤيتها وأفكارها!
قلت: حسب تفسيرك الأطراف الخارجية تستغل الظروف الداخلية السيئة، لتظل حالة الاقتتال مشتعلة، وفى الوقت نفسه تزعم أنها تبحث عن حلول لها؟
قال: هذه واحدة من أكثر السمات المتناقضة للصراعات فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، غالبا ما تقدم الجهات الخارجية الفاعلة نفسها كوسطاء أو حلول للمشكلات، بينما تستغل نقاط الضعف المحلية لتعزيز أجنداتها الخاصة، والهويات العرقية والطائفية هى أهم أسلحة هذه الجهات فى صناعة الفوضى، السنة مقابل الشيعة، العرب مقابل الأكراد ..الخ، ويمهد القمع الاستبدادى والمؤسسات الضعيفة فرصا مواتية للقوى الخارجية فى دعم الصراعات، ثم تظهر لاحقا فى مباحثات السلام أو المساعدات الإنسانية أو مؤتمرات إعادة الإعمار، فى العراق مثلا من دعموا الميليشيات الطائفية بعد عام 2003، هم الذين انضموا إلى تحالفات تحقيق الاستقرار، وفى سوريا كل جهة أجنبية مولت وكيلها، جلست فى مباحثات جنيف وأستانة «كازاخستان» كأنها لم تشعل الحرب أصلا، وفى ليبيا ساندوا الحكومات والميليشيات المتقاتلة، ثم راعوا مباحثات السلام التى تقودها الأمم المتحدة، نفس المسألة فى السودان ولبنان!
هذه ليست مؤامرة واحدة هى استراتيجية نظامية: استغلال الهشاشة.. تأجيج الصراع..التدخل كوسيط!
سألته: هل تعرف أن المحافظين الجدد فى أمريكا هم أصل هذه الاستراتيجية، لتقسيم المنطقة إلى كنتونات تضمن أمن إسرائيل؟
أجاب: نعم..تضمنت كتاباتهم منذ الثمانينيات تصورات عن تجزئة دول الشرق الأوسط إلى كيانات أصغر وأضعف، لا تمثل خطرا على أمن إسرائيل، فالدول المجزأة ستكون بطبيعة الحال أقل قدرة عسكرية، ولم تكن هذه كتابات رسمية، بل فى أوراق صادرة من مركز أبحاث استراتيجى، وقد تبنى بنيامين نيتانياهو أفكارها واعتبرها بديلا لعملية السلام، أى إعادة تشكيل المنطقة بالمواجهة وإضعاف الخصوم لا بالسلام.
ثم أورد كوبايلوت عشرات الدراسات عن كيفية تقسيم دول المنطقة وأسماء كتابها..
وفجأة سألنى سؤالا عجيبا: إذا أردت.. يمكننا أن نستكشف كيف تتناقض الدبلوماسية الثقافية ومؤسسات التراث كمسار يبنى التماسك والقوة الناعمة فى مواجهة رؤى المحافظين الجدد؟
قلت: طبعا أريد.
قال: رؤية المحافظين الجدد هى الانقسام والضعف للدول القادرة على تحدى إسرائيل أو المصالح الغربية، يقابلها رؤية لاستخدام التراث والمتاحف والمشروعات الثقافية لتعزيز الهوية الوطنية، يعنى الاستثمار فى مؤسسات مثل المتحف المصرى الكبير الذى يضع نفسه فى مكانة الواصى على التراث العالمى، والمراكز الثقافية الشاملة فى بعض دول الخليج وشمال إفريقيا تكسب دولها الشرعية والفخر والاعتراف الدولي؛ وتصبح الثقافة قوة استقرار وتعزيز للسيادة فى مواجهة الانقسام الذى يدعو له المحافظون الجدد.>
وانتهى الحوار







