
نبيل عمر
أكتوبر 73 مصر السلام تؤدب إسرائيل!
قبل غياب شمس السادس من أكتوبر 1973 بساعة تقريبا، كنت مستغرقا فى نوم عميق، من فرط التعب، حين هزتنى أمى صارخة فى سعادة: أصحى..الحرب قامت!
فتحت عينى غير مصدق، لم تكن هناك أى دلائل سابقة تشى بأن شيئًا عظيمًا قد يهل، أذكر فقط أن قبل شهرين نظمت جامعة القاهرة لطلابها دورة فكرية فى معسكر أبى قير بالإسكندرية، حاضرنا فيها مجموعة من الشخصيات اللامعة: وزراء وسياسيون وأساتذة فى القانون وعلم الاجتماع، كانت أشبه بدروس فى الوطنية وتاريخ مصر الحديث..
قفزت من الفراش إلى الشارع دون أن أغسل وجهى، ما كدت أصل إلى منتصفه حتى استوقفنى عم سمير، بقال على ناصية شارعنا وسألنى فى لهفة: هل صحيح عبرت قواتنا قناة السويس كما تقول الإذاعة؟
قلت له: مؤكد.. هذا خبر لا يمكن صناعته من فراغ.
سأل بقلق: يعنى ممكن نكسب الحرب؟
قلت: طالما بدأناها لن نخسرها.
رجعت إلى البيت، زرعت نفسى بجوار الراديو، توالت البيانات العسكرية، كل بيان أنشودة أمل تشق عنان السماء بالحرية والفرح للمصريين..ياه عادت أيام مجدك يا بلادى.
فى الثامن عشر من يوليو 1992، كنت فى قاعة بكلية الصحافة فى جامعة بوسطن، فصل دراسى صيفى فى واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية، فجأة ونحن نتحدث فى مفهوم القانون والعلاقات الدولية والعلاقات المصرية الأمريكية، طار الحديث فجأة، لأسباب لا أتذكرها الآن، إلى حرب أكتوبر، فقال الأستاذ وهو يهودى أمريكي: إنها الحرب التى انتهت بالتعادل!
رفعت يدى معترضا: هذا كلام غير علمى، يبدو أنك متأثر بالدعايات الإسرائيلية التى حاولت «تجميل» صورة جيش الدفاع، بعد النتائج التى توصلت إليها لجنة «إجرانات» الإسرائيلية فى تحقيقاتها عما حدث فى الحرب، ولا أظن أنها كانت تحقق فى أسباب التعادل، لأن العبارات التى وصفت بها ما حدث فى تقرير رسمى كاشفة لحجم الخسائر والمهانة العسكرية التى تعرضت لها إسرائيل، وكادت تتحول إلى كارثة شاملة، لولا التدخل الأمريكى العاجل بأكبر جسر جوى غير مسبوق، أفاضت فيه الولايات المتحدة على إسرائيل بكل الأسلحة الحديثة، منها أنواع لم تكن قد دخلت الخدمة بالجيش الأمريكى نفسه، لتعوض بها ما خسره الجيش الإسرائيلى، وتحدث توازنا على الجبهة المصرية.
وربما يا دكتور قرأت كتاب «الحروب العربية الإسرائيلية، 1947-1974 - النصر بعيد المنال» للكاتب «تريفور.ن.دوبوى، الذى تحدث فيها عن مجمل الحروب، ويقارن فيها بين التكتيكات والأهداف والانتصارات والنكسات والإخفاقات فى حرب الأيام الستة وحرب يوم الغفران، حتى لا يفسر حرب أكتوبر منفردة، التى انتصرت فيها مصر محاولا أن يخفت من وهجها بذكريات حرب يونيو 67 التى جرت قبل ست سنوات!
ولو أردت أن تقترب من الحقيقة نسبيا، أرشح لك كتاب «البندقية وغصن الزيتون» للكاتب الإنجليزى دافيد هيرست، الذى يصف فيه الحرب بأنها زلزال ضرب الصهيونية، وإن إسرائيل كانت تقاتل من أجل البقاء فى حرب مفاجئة شنها العرب ببراعة.
ضحك الأستاذ وقال: طبيعى أن تشعر بالفخر وتصف ما حدث بالنصر.. لكننا فى معهد علمى نتحدث بالحقائق، والكُتَّاب الذين يعلون من قيمة الحقيقة على أى انحيازات نادرون، ومؤكد ثمة كتابات إنحازت لإسرائيل وكتابات إنحازت للعرب.
قلت: إذن دعنا نتكلم عن المعلومات والحقائق المجردة التى يمكن أن نمسكها بعقولنا ونراها بأعيننا، فأى حرب لها هدف استراتيجى، الحرب ليست مجرد معارك فى الميدان، فهى تتبلور إلى «مواقف نهائية» على أرض الواقع بعد أن تسكت المدافع، وسؤالى بسيط للغاية: فى الساعة الثانية إلا خمس دقاق من يوم السادس من أكتوبر كيف كان موقف كل من: مصر وقواتها وإسرائيل وقوتها فى ميدان القتال والسياسة، أى عند بدء الحرب، وكيف كان موقفيهما يوم 25 أكتوبر عند وقف إطلاق النار نهائيا؟، القوات المصرية على الضفة الشرقية بامتداد 173 كليومترا وبعمق 15 كيلومترا، وخط بارليف الحصين نصفه مهدم ونصفه فى أيدى القوات المصرية، بينما تسللت قوات إسرائيلية إلى غرب القناة فيما عرف بالثغرة ، ودعنى أنقل لك ما كتبه الخبراء الأجانب لا المصريون عنها: ازداد تدفق القوات الإسرائيلية، وتطور الموقف سريعًا، إلى أن تم تطويق الجيش الثالث المصرى بالكامل فى السويس، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس- القاهرة، لكنها توقفت لعجزها عن التقدم، خاصة بعد فشل الجنرال إرئيل شارون فى الاستيلاء على مدينة الإسماعلية، وفشل الجيش الإسرائيلى فى احتلال مدينة السويس، مما وضع تلك القوات فى مأزق صعب، وجعلها محاصرة بين الموانع الطبيعية والاستنزاف، والقلق من الهجوم المضاد المصرى الوشيك، ولم تستطع الولايات المتحدة تقديم الدعم الذى كانت تتصوره إسرائيل فى الثغرة بسبب تهديدات السوفييت ورفضهم أن تقلب الولايات المتحدة نتائج الحرب!
كان لإسرائيل 7 ألوية مدرعة من ثلاث فرق، يعاونها لواء مظلات ولواء مشاة ميكانيكى، يحاصرها من القوات المصرية: فرقتان مدرعتان كاملتان، وثلاث فرق مشاة ميكانيكى، ووحدات من الصاعقة والمظلات، وقوات إضافية من احتياطى القيادة العامة.
ولولا الوساطة الأمريكية والاتصالات المكثفة التى أخذت أشكالا مختلفة ومفاوضات الفصل بين القوات التى تمت فى يناير 1974، ما كان يمكن لهذه القوات أن تنجو من التصفية!!
باختصار- يا سيدي- لو عندك حقائق أو معلومات أخرى مختلفة نحب أن نسمعها منك، وقد أضيف لك، أن إسرائيل حسب لغة القوة التى لا تفهم غيرها وتعتبرها الوسيلة الأكثر فاعلية فى تعاملها مع جيرانها، يستحيل أن تقبل اتفاق فصل القوات، لو كان موقفها على الأرض متعادلا مع موقف القوات المصرية، أو وجدت مخرجا نصف آمن لقواتها من الثغرة!
لم يرد الأستاذ.. ثم ضحك قائلا: نحن الآن فى مرحلة سلام ولا حديث عن الحروب!
وفعلا غيرنا الحديث، لكن حديث الحرب والسلام فى منطقتنا لم يتغير، لأن إسرائيل ليست دولة سلام على الإطلاق، وإذا كنا نحتفل اليوم بالذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر، فمازال الحديث محلقا فى سماء المنطقة تصاحبه حرب إبادة إسرائيلية على الشعب الفلسطينى فى غزة بأشد الوسائل وحشية وتدميرا، نهيك عن غارات وقصف على لبنان وسوريا واليمن والدوحة!
ولولا معجزة مصر فى حرب أكتوبر 1973، ربما كان الغرور قد أخذ الإسرائيليين إلى مغامرات أوسع، تحت أطماع الأساطير الدينية، لكن ما يمنع إسرائيل أنها مازالت تحسبها، إذا كان المصريون قد فعلوها بجيش كان سلاحه فى 1973 أقل حداثه وتطورا من أسلحة جيش الدفاع، وتمكنوا من تجاوز أصعب مانع مائى عرفه الإنسان منذ وعى معنى التاريخ، واقتحموا خط بارليف أعقد الخطوط الدفاعية الحصينة المنتصب خلف سواتر ترابية ترتفع عشرين مترا، ويتشكل من دشم شديدة الصلادة المغطاة بالفولاذ والحجارة ومكعبات الأسمنت وشكائر الرمال وحولها أسلاك شائكة وكمائن من الألغام، فما الذى يمكن أن يفعله هذا الجيش وقد تطور تسليحه وتنوعت مصادرها وقفز قفزات واسعة فى التدريب واستخدام التكنولوجيا والمعارف الحديثة؟!
نعم نحتفل بحرب أكتوبر، ليس تعبيرا عن إمكاناتنا، وما يسكن تحت جلدنا من «حضارة»، وإنما هو رسالة نصف مشفرة بأن «السلام» هو لغتنا، السلام العادل القائم على حقوق، يرسمها القانون الدولى، وليس السلام الإبراهيمى، الذى يشبه زجاجات مياه ملونة مكتوب عليها «مشروب» الرخاء فى منطقة الشرق الأوسط الجديد!
حرب أكتوبر كانت حربا من أجل السلام، الذى تعمل إسرائيل على تبديده!.