الأحد 5 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
أكتوبر 73 مصر السلام تؤدب إسرائيل!‏

أكتوبر 73 مصر السلام تؤدب إسرائيل!‏

قبل غياب شمس السادس من أكتوبر 1973 بساعة تقريبا، كنت مستغرقا فى نوم عميق، من ‏فرط التعب، حين هزتنى أمى صارخة فى سعادة: أصحى..الحرب قامت!‏



فتحت عينى غير مصدق، لم تكن هناك أى دلائل سابقة تشى بأن شيئًا عظيمًا قد يهل، أذكر ‏فقط أن قبل شهرين نظمت جامعة القاهرة لطلابها دورة فكرية فى معسكر أبى قير ‏بالإسكندرية، حاضرنا فيها مجموعة من الشخصيات اللامعة: وزراء وسياسيون وأساتذة فى ‏القانون وعلم الاجتماع، كانت أشبه بدروس فى الوطنية وتاريخ مصر الحديث..‏

قفزت من الفراش إلى الشارع دون أن أغسل وجهى، ما كدت أصل إلى منتصفه حتى ‏استوقفنى عم سمير، بقال على ناصية شارعنا وسألنى فى لهفة: هل صحيح عبرت قواتنا قناة ‏السويس كما تقول الإذاعة؟

قلت له: مؤكد.. هذا خبر لا يمكن صناعته من فراغ.‏

سأل بقلق: يعنى ممكن نكسب الحرب؟

قلت: طالما بدأناها لن نخسرها.‏

رجعت إلى البيت، زرعت نفسى بجوار الراديو، توالت البيانات العسكرية، كل بيان أنشودة ‏أمل تشق عنان السماء بالحرية والفرح للمصريين..ياه عادت أيام مجدك يا بلادى.‏

فى الثامن عشر من يوليو 1992، كنت فى قاعة بكلية الصحافة فى جامعة بوسطن، فصل ‏دراسى صيفى فى واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية، فجأة ونحن نتحدث فى مفهوم ‏القانون والعلاقات الدولية والعلاقات المصرية الأمريكية، طار الحديث فجأة، لأسباب لا ‏أتذكرها الآن، إلى حرب أكتوبر، فقال الأستاذ وهو يهودى أمريكي: إنها الحرب التى انتهت ‏بالتعادل!‏

رفعت يدى معترضا: هذا كلام غير علمى، يبدو أنك متأثر بالدعايات الإسرائيلية التى حاولت «تجميل» صورة جيش الدفاع، بعد النتائج التى توصلت إليها لجنة «إجرانات» الإسرائيلية فى ‏تحقيقاتها عما حدث فى الحرب، ولا أظن أنها كانت تحقق فى أسباب التعادل، لأن العبارات ‏التى وصفت بها ما حدث فى تقرير رسمى كاشفة لحجم الخسائر والمهانة العسكرية التى ‏تعرضت لها إسرائيل، وكادت تتحول إلى كارثة شاملة، لولا التدخل الأمريكى العاجل بأكبر ‏جسر جوى غير مسبوق، أفاضت فيه الولايات المتحدة على إسرائيل بكل الأسلحة الحديثة، ‏منها أنواع لم تكن قد دخلت الخدمة بالجيش الأمريكى نفسه، لتعوض بها ما خسره الجيش ‏الإسرائيلى، وتحدث توازنا على الجبهة المصرية.‏

وربما يا دكتور قرأت كتاب «الحروب العربية الإسرائيلية، 1947-1974 - النصر بعيد ‏المنال» للكاتب «تريفور.ن.دوبوى، الذى تحدث فيها عن مجمل الحروب، ويقارن فيها بين ‏التكتيكات والأهداف والانتصارات والنكسات والإخفاقات فى حرب الأيام الستة وحرب يوم ‏الغفران، حتى لا يفسر حرب أكتوبر منفردة، التى انتصرت فيها مصر محاولا أن يخفت من ‏وهجها بذكريات حرب يونيو 67 التى جرت قبل ست سنوات!‏

ولو أردت أن تقترب من الحقيقة نسبيا، أرشح لك كتاب «البندقية وغصن الزيتون» للكاتب ‏الإنجليزى دافيد هيرست، الذى يصف فيه الحرب بأنها زلزال ضرب الصهيونية، وإن ‏إسرائيل كانت تقاتل من أجل البقاء فى حرب مفاجئة شنها العرب ببراعة.‏

ضحك الأستاذ وقال: طبيعى أن تشعر بالفخر وتصف ما حدث بالنصر.. لكننا فى معهد علمى ‏نتحدث بالحقائق، والكُتَّاب الذين يعلون من قيمة الحقيقة على أى انحيازات نادرون، ومؤكد ‏ثمة كتابات إنحازت لإسرائيل وكتابات إنحازت للعرب.‏

قلت: إذن دعنا نتكلم عن المعلومات والحقائق المجردة التى يمكن أن نمسكها بعقولنا ونراها ‏بأعيننا، فأى حرب لها هدف استراتيجى، الحرب ليست مجرد معارك فى الميدان، فهى تتبلور ‏إلى «مواقف نهائية» على أرض الواقع بعد أن تسكت المدافع، وسؤالى بسيط للغاية: فى ‏الساعة الثانية إلا خمس دقاق من يوم السادس من أكتوبر كيف كان موقف كل من: مصر ‏وقواتها وإسرائيل وقوتها فى ميدان القتال والسياسة، أى عند بدء الحرب، وكيف كان ‏موقفيهما يوم 25 أكتوبر عند وقف إطلاق النار نهائيا؟، القوات المصرية على الضفة الشرقية ‏بامتداد 173 كليومترا وبعمق 15 كيلومترا، وخط بارليف الحصين نصفه مهدم ونصفه فى ‏أيدى القوات المصرية، بينما تسللت قوات إسرائيلية إلى غرب القناة فيما عرف بالثغرة ، ‏ودعنى أنقل لك ما كتبه الخبراء الأجانب لا المصريون عنها: ازداد تدفق القوات الإسرائيلية، ‏وتطور الموقف سريعًا، إلى أن تم تطويق الجيش الثالث المصرى بالكامل فى السويس، ‏ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس- القاهرة، لكنها توقفت لعجزها عن التقدم، ‏خاصة بعد فشل الجنرال إرئيل شارون فى الاستيلاء على مدينة الإسماعلية، وفشل الجيش ‏الإسرائيلى فى احتلال مدينة السويس، مما وضع تلك القوات فى مأزق صعب، وجعلها ‏محاصرة بين الموانع الطبيعية والاستنزاف، والقلق من الهجوم المضاد المصرى الوشيك، ‏ولم تستطع الولايات المتحدة تقديم الدعم الذى كانت تتصوره إسرائيل فى الثغرة بسبب ‏تهديدات السوفييت ورفضهم أن تقلب الولايات المتحدة نتائج الحرب!‏

كان لإسرائيل 7 ألوية مدرعة من ثلاث فرق، يعاونها لواء مظلات ولواء مشاة ميكانيكى، ‏يحاصرها من القوات المصرية: فرقتان مدرعتان كاملتان، وثلاث فرق مشاة ميكانيكى، ‏ووحدات من الصاعقة والمظلات، وقوات إضافية من احتياطى القيادة العامة.‏

ولولا الوساطة الأمريكية والاتصالات المكثفة التى أخذت أشكالا مختلفة ومفاوضات الفصل ‏بين القوات التى تمت فى يناير 1974، ما كان يمكن لهذه القوات أن تنجو من التصفية!!‏

باختصار- يا سيدي- لو عندك حقائق أو معلومات أخرى مختلفة نحب أن نسمعها منك، وقد ‏أضيف لك، أن إسرائيل حسب لغة القوة التى لا تفهم غيرها وتعتبرها الوسيلة الأكثر فاعلية ‏فى تعاملها مع جيرانها، يستحيل أن تقبل اتفاق فصل القوات، لو كان موقفها على الأرض ‏متعادلا مع موقف القوات المصرية، أو وجدت مخرجا نصف آمن لقواتها من الثغرة!‏

لم يرد الأستاذ.. ثم ضحك قائلا: نحن الآن فى مرحلة سلام ولا حديث عن الحروب!‏

وفعلا غيرنا الحديث، لكن حديث الحرب والسلام فى منطقتنا لم يتغير، لأن إسرائيل ليست ‏دولة سلام على الإطلاق، وإذا كنا نحتفل اليوم بالذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر، ‏فمازال الحديث محلقا فى سماء المنطقة تصاحبه حرب إبادة إسرائيلية على الشعب الفلسطينى ‏فى غزة بأشد الوسائل وحشية وتدميرا، نهيك عن غارات وقصف على لبنان وسوريا ‏واليمن والدوحة!‏

ولولا معجزة مصر فى حرب أكتوبر 1973، ربما كان الغرور قد أخذ الإسرائيليين إلى ‏مغامرات أوسع، تحت أطماع الأساطير الدينية، لكن ما يمنع إسرائيل أنها مازالت تحسبها، إذا ‏كان المصريون قد فعلوها بجيش كان سلاحه فى 1973 أقل حداثه وتطورا من أسلحة جيش ‏الدفاع، وتمكنوا من تجاوز أصعب مانع مائى عرفه الإنسان منذ وعى معنى التاريخ، ‏واقتحموا خط بارليف أعقد الخطوط الدفاعية الحصينة المنتصب خلف سواتر ترابية ترتفع ‏عشرين مترا، ويتشكل من دشم شديدة الصلادة المغطاة بالفولاذ والحجارة ومكعبات الأسمنت ‏وشكائر الرمال وحولها أسلاك شائكة وكمائن من الألغام، فما الذى يمكن أن يفعله هذا الجيش ‏وقد تطور تسليحه وتنوعت مصادرها وقفز قفزات واسعة فى التدريب واستخدام التكنولوجيا ‏والمعارف الحديثة؟!‏

نعم نحتفل بحرب أكتوبر، ليس تعبيرا عن إمكاناتنا، وما يسكن تحت جلدنا من «حضارة»، ‏وإنما هو رسالة نصف مشفرة بأن «السلام» هو لغتنا، السلام العادل القائم على حقوق، يرسمها ‏القانون الدولى، وليس السلام الإبراهيمى، الذى يشبه زجاجات مياه ملونة مكتوب عليها ‏«مشروب» الرخاء فى منطقة الشرق الأوسط الجديد!‏

حرب أكتوبر كانت حربا من أجل السلام، الذى تعمل إسرائيل على تبديده!‏.